التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٦٢
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ إِنَّ الَّذِينَ آمنُوا }: أى قالوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، محمد صلى الله عليه وسلم بعد بعثته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذا على عمومه من غير اعتبار موافقة القلب، ولا عدمها ولا الوفاء بالعمل الصالح ولا عدمه، وإنما اشترط موافقة القلب والعمل الصالح بعد ذلك بقوله: { من آمن.. } إلخ.
{ وَالَّذِينَ هَادُوا }: قبل بعثته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبعدها، وهذا على عمومه من غير اعتبار الإيمان به صلى الله عليه وسلم وبعيسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام، ولا عدم الإيمان ولا العمل الصالح ولا عدمه، وكذا فى الصابئين والنصارى، وإنما اشترط الإيمان بهم جميعاً والعمل الصالح بعد ذلك بقوله: من آمن.. إلخ. { والذين هادوا } هم اليهود، ومعنى هادوا كانوا على دين اليهود، وزعم قوم أن الحكم فى هذه الآية نفى الخوف والحزن عمن آمن من اليهود والنصارى والصابئين منسوخ بقوله تعالى:
{ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً } على أن المراد بهم من يتبع أحكام التوراة والإنجيل المخالفة للقرآن، ويجوز أن يكون النسخ لكل مخالف بما خالفه من القرآن على حدة، ولفظ اليهود إما عربى من هَاد يهود إذا تاب سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل، أو لقولهم حينئذ: { إنا هدنا إليك } أى تبنا إليك، وقيل إنما قال: { إنما هدنا إليك } أى تبنا، وقيل: إنما قال: { إنا هدنا إليك } موسى، فسموا بذلك لقوله، قال ابن مسعود رضى الله عنهُ: سموا بذلك لقول موسى: { إنا هدنا إليك } وقيل: سموا بذلك لأنهم مالوا عن دين موسى بعده، وفى زمانه إذ بدلوا وغيروا، وقيل لأنهم مالوا عن دينه ودين سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويرد هذا القول أن تسميتهم باليهود سابقة قبل زمان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما يحتمل تفسيراً لقوله هادوا أى والذين مالوا عنهما على غير ما ذكرت من المراد بالذين هادوا العموم، وإما غير عربى بل معرب يهوذا بإسقاط ألفه وإهمال ذاله وتسميتهم به، وهو أكبر أولاد يعقوب عليه السلام كما تسمى القبائل باسم أبيها كمضر وكنانة وتميم.
{ وَالنَّصَارَى }: جمع نصران مثل قولهم فى جمع ندمان ندامى والياء فى نصرانى للمبالغة المزيدة على المبالغة فى نصران، فإن فى نصران مبالغة زيدت عليه ياء النسب لزيادة المبالغة، كما زيدت فى أحمر لنضيل اسم المبالغة فقيل أحمرى، وكما زيدت بزيادة المبالغة فى قوله:

والدهر بالإنسان دوارى

وسموا نصارى لأنهم نصروا المسيح عليه السلام، أو لقول الحواريين منهم نحن أنصار الله أو لكونهم معه فى قرية يقال لها نصران، فسمى كل واحد باسمها وهو نصران، وما الياء فى نصرانى إلا مزيدة على نصران، وجمع بعد التسمية على نصارى، أو يقال لتلك القرية ناصرة فأخذ لهم اسم من مادة هذا الاسم، ولو اختلف الوزن، وفى الصحاح نصران قرية بالشام وينسب إليها النصارى.. انتهى.
وإنما نسبوا إليها لأن المسيح كان ينزلها، ويقال رجل نصران وامرأة نصرانة ونصرانى ونصرانية، قال قائل:

نصرانة لم تحنف

وهو بعض شطر من بيت الطويل ذكره فى الكشاف غير تام.
{ وَالصَّابِئِينَ }: قوم ركبوا ديناً من التوراة والإنجيل فهم أهل كتاب، وقال مجاهد وابن جريج: قوم بين اليهود والمجوس فليسوا من أهل الكتاب، وعلى هذا لا تحل ذبائحهم ونكاح نسائهم، وقيل: قوم بين المجوس والنصارى فليسوا بأهل كتاب. وقول عمر وابن عباس والسدى: إنهم قوم من أهل الكتاب هو فى معنى ما ذكرته أولا من أن دينهم مركب من التوراة والإنجيل، كما عبر بعضهم بأنهم قوم بين اليهود والنصارى يحلقون أوساط رءوسهم، ولكن قال عمر: تحل ذبائحهم ونساؤهم، وقال ابن عباس: لا تحل ذبائحهم ونساؤهم بعد أن قال إنهم من أهل الكتاب. وعن مجاهد: قوم لا دين لهم، وقد يجمع بين الروايتين عنه بأن من جمع المجوسية إلى اليهودية لا دين له معتبر. وقيل: هم قوم يقرون بالله سبحانهُ ويقرون الزبور ويعبدون الملائكة، ويصلون الصلوات الخمس إلى الكعبة، أخذوا من كل دين شيئاً وهو قول الحسن بن أبى الحسن وقتادة: رآهم زياد بن أبى سفيان فأراد وضع الجزية عنهم حتى عرف أنهم يعبدون الملائكة، وقال ابن زيد: هم قوم يقولون لا إله إلا الله وليس لهم عمل ولا كتاب، كانوا بجزيرة الموصل، وقيل: قوم يعبدون الكواكب ويعتقدون أنها مدبرة وأنها تقرب إلى الله سبحانه، وقيل: أصل دينهم دين نوح يعنى قائله أنهم زادوا عليه ما ليس منه كعباده الملائكة أو الكواكب ونقصوا مما فيه، وإنما سموا بالصابئين لأنهم صبوا من دين إلى دين أو من سائر الأديان إلى دينهم أو من الحق إلى الباطل، أى مالوا. يقال: صبو يصبوا أى مال. قال الشاعر من الوافر المجز:

وإلى هنا صبا قلبى وهند مثلها تصبى

أى مال قلبى إليها ومثلها مميل وهو غير مهموز عند نافع وأبى جعفر، وذلك معنى غير مهموز، وقرأ الباقون الصابئين بالهمز بين الباء والياء من صبأ بالهمز إذا خرج، قال الصفا قصى: خرجوا من دين مشهور إلى غيره. قال عياض: الصابئ فى اللغة من خرج من دين إلى دين، قلت: أو سموا لأنهم خرجوا عن سائر الأديان إلى دينهم أو من الحق إلى الباطل، ويجوز تفسير قراءة نافع وأبى جعفر بالخروج بأوجهه المذكورة بأن يكون الأصل عنده الهمز فخففه بالقلب ياء فحذفها لالتقاء الساكنين فبقيت ياء الجمع، وقال بعض أصحابنا ـ رحمهم الله ـ وسقاهم من حوض نبيهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: إنهم سموا لأنهم اختاروا مطايب التوراة ومطايب الإنجيل، فقالوا: أصبنا ديناً ووجهه أنهُ اسم فاعل من صاب يصيب فهو صائب، وهو ثلاثى قدمت إلى لام وهو الباءُ الموحدة على العين، فقيل الصابى، كما يقال فى شائك الشاكى.
{ مَنْ آمَنَ }: منهم.
{ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخر }: فى قلبه مواطئاً للسانه فى زمان نبينا صلى الله عليه وسلم أو قبله.
{ وَعَمِلَ صَالِحاً }: العمل الصالح فى جنب من كان قبل بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يعمل ما فرض عليه فى شرعه الذى لم ينسخه كتاب بعده وفى جنب من كان بعد بعثته صلى الله عليه وسلم أن يعمل بما فى القرآن، وما يوحى إليه مؤمناً به صلى الله عليه وسلم، والعمل بكتاب نبى يتضمن الإيمان بذلك النبى، وأيضاً فإن الإيمان بنبى فى القلب عمل صالح أيضاً، فقد دخل الإيمان بالأنبياء فى قوله: { وعمل صالحاً } ولا يشترط لمن لم يبلغهُ خبر نبى أن يعلمه ويؤمن به، ويجوز أن يكون المراد بقولهِ: { الذين آمنوا } المؤمنون من هذه الأمة بالقلب واللسان إيماناً راسخاً يتبعه العمل. وبقوله: { من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً }، من كان كذلك من اليهود والنصارى والصابئين، فعلى هذا الاحتمال يكون من بدل بعض من { الذين هادوا والنصارى والصابئين } والرابط محذوف أى من آمن منهم بإعادة الهاء إلى الثلاثة فقط، وأما على الوجه الأول فبدل بعض من { الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين } والرابط محذوف وتقديره منهم بإعادة الهاء إلى الأربعة، أو مبتدأ ثان والآية على كل حال مخرجة لمن لم يؤمن بقلبه ولمن لم يؤمن بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أو بنبى غيره. وقال السدى: المراد بالذين آمنوا طلاب دين سيدنا إبراهيم قبل بعث سيدنا محمد صلى الله عليهما وسلم: كزيد بن عمرو، وقس بن ساعدة، وورقة بن نوفل، وبحيرا الراهب، وأبى ذر الغفارى، وسلمان الفارسى، منهم من لم يدرك بعثة، كبعثه صلى الله عليه وسلم، ومنهم من أدركه كأبى ذر وسلمان وهم صادقون فى إيمانهم، وبالذين هادوا والنصارى والصابئين أصحاب هؤلاء الأديان الباطلة، وبمن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً من أخلص فى إيمانه منهم بعد بعثته صلى الله عليه وسلم، فلم يفرق بين أحد من رسله وأنبيائه وآمن بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعمل صالحاً بشرعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى هذا فالمؤمنون من العرب ومن غير من ذكر مذكورين فى الآية، بل يدخلون فيها بالمعنى، وذكروا فى غيرها وكذا عند من قال: الذين آمنوا هم المؤمنون من سائر الأمم الماضية قبل اليهود والنصارى والصابئين، أو فى زمانهم على شريعة من الله غير منسوخة، وقيل المراد بالذين آمنوا من آن بلسانه فقط، فيكون معنى قوله: { من آمن بالله.. } إلخ من ترك اقتصاره على إيمان اللسان فزاد إليه الإيمان بالقلب والوفاء، ومن ترك اليهودية والنصرانية والصابئية فرجع إلى الحق، وقيل المراد بالذين آمنوا المؤمنون به صلى الله عليه وسلم حقاً، وبقوله من آمن بالله. من داوم على الإيمان به صلى الله عليه وسلم، ومن حدث إيمانه به صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى والصابئين، لكن يلزم الجمع على هذا بين الحقيقة والمجاز، فإن استعمال دوام آمن فى معنى على الإيمان مجاز وفى معنى أحدث الإيمان حقيقة والشافعى يجيز ذلك.
{ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِم }: جزاء إيمانهم وعملهم الصالح الذى وعده الله لهم وهو الجنة، وهذه الجملة جواب من الشرطية التى هى مبتدأ ثان، وجملة الشرط والجواب خبر إن واسمها هو المبتدأ الأول فى الأصل، ولك أن تجعل من موصولة مبتدأ ثانياً، وهذه الجملة خبرها قرنت بالفاء لشبهها باسم الشرط فى العموم والمجموع خبر إن أو موصولة بدلا من اسم إن، والجملة خبر إن قرنت بالفاء لأن اسمها موصول يشبه اسم الشرط كذلك، لأن المراد به الجنس أو خبر لها باعتبار ما أبدل من اسمها وهو من الموصولة وهى أشبه باسم الشرط من الذين، ولعله لم تصح الرواية عن سيبويه بمنع الفاء فى خبر إن الشبيه اسمها باسم الشرط لقوله تعالى:
{ إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم } والذى عندى أن خبر اسم الشرط هو جملة الجواب، واختار التفتزانى أنه جملة الشرط وجملة الجواب، واختار قوم أنه جملة الشرط. قال التفتزانى: وهو غريب، وإذا كان جملة { لهم أجرهم } خبر من، أو خبر إن باعتبار بدل اسمها فقد اعتبر لفظ من فى آمن وعمل، ومعناها فى فلهم أجرهم عند ربهم.
{ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ }: عند الموت وبعده وفى الآخرة من عقاب حين يخاف الكفار من العقاب.
{ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون }: حين يحزن الكفار والمصرون على الكفر، والتقصير وتضييع العمر وتفويت الثواب، وهو حين الموت وبعده والآخرة.