التفاسير

< >
عرض

خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
٧
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ خَتَمَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ }: هذه الجملة الفعلية ومتعلقاها اللذان هما على قلوبهم وعلى سمعهم، والجملة الاسمية بعد ذلك تعليل لاستواء الإنذار وعدمه عندهم ولعدم إيمانهم، فذلك من التعليل الجملى المستأنف كقولك لجائع: كل إنك جائع، ويجوز كون ذلك مستأنفاً لبيان ما يتولد عى استواء الإنذار وعدمه، وعلى عدم الإيمان من ختم الله عز وجل على قلوبهم وسمعهم. والختم على الشىء الإغلاق عليه وكتمه ويسمى الاستيثاق إذا كان بضرب الخاتم على الشىء ختما، لأنه كتم له. ويسمى أيضاً بلوغ آخر الشىء ختما لأنه آخر ما يفعل فى إحراز ذلك الشىء وإن قلت: إذا كان الله هو الذى ختم على قلوبهم، فكيف يعذبهم على كفرهم؟. قلت: التحقيق أنه ليس ذلك الختم على طريق الجبر على الكفر بل أتوا الكفر باختيارهم، فعذبهم على كفرهم باختيارهم وإعراضهم عن الآيات، ولكن لما كان كفرهم مخلوقاً لله - جل وعلا - سما ما يتولد منه من زيادة كفر ختما منه تعالى، وإن شئت فقل: لما كان ما يتولد على غيهم وتقليدهم وإعراضهم عن الآيات من زيادة كفر واستحبابه، واستقباح الإيمان ومتعلقاته، ومن ملازمة ذلك والجرأة عليه مخلوقاً لله تعالى، سماه ختما من الله - عز وجل - وإن شئت فقل: لما كان حدوث ذلك خلقاً من الله سماه ختما منه تعالى وفى التعبير بختم استعارة تصريحية تحقيقية تبيعة شبه خلق عدم نفود الحق فى القلوب وتحقق كلال الأسماع وامتناعها عن سماعه سماعا موصلا إلى القلوب، بالإغلاق على الشىء، والمنع من الوصول إليه، بجامع انتفاء التوصل من خارج إلى داخل، وعدم الانتفاع بداخل. فكما لا ينتفع بسمن مختوم عليه فى خابية ما دام مختوماً عليه، كذلك لا ينتفع بقلب فى داخل الجسد فاسد، ولا يسمع داخل الأذن لا يوصل مسموعه إلى القلب أيضاً لا نافعاً، فكان خلق عدم النفوذ وتحقق الكلال من جنس الإغلاق على شىء، فسمى باسم الإغلاق على شىء واسمه الختم، فاشتق من الختم بمعنى الخلق لعدم النفوذ وتحقق الكلال ختم بمعنى خلق عدم النفوذ وتحقق الكلال. فاستعاره فى ختم تابعة لها فى الختم وليس المشبه مخيلاً فكانت تحقيقية، وقد صرح بلفظ المشبه وهو ختم فكانت تصريحية، وإن شئت فقل فى قوله: { خَتَمَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } استعارة تمثيلية، بأن تقول شبه القلوب وعدم نفوذ الحق فيها وخلق ذلك العدم والإسماع وكلالهما، وخلق ذلك الكلال بإناء وشىء فيه والإغلاق على ذلك الشىء بجامع مطلق وجود وعاء وشىء فيه، وعدم الوصول للشىء الذى فيه. بل حفظت عن بعض كتب عصام الدين فى الاستعارات وغيره: أنه لا يعدل عن الاستعارة التمثيلية إلى المفردة ما وجدت التمثيلية، وهى المركبة. ومثل الختم الطبع والأغفال والأقسار حيث ذكرنا ولا جبر فى شىء من ذلك بيل أسند إلى الله - جل وعلا - من حيث إنه خلقهن ووقعن بقدرته وأسنده إليهم لأنهم اكتسبوها باختيارهم، ووصفت بالقبح وذموا عليها لاختيارهم، فلا قبح فيها من حيث إنه تعالى خلقها، بل من حيث إنهم اكتسبوها، فلا إشكال فى إسنادها إلى الله - جل وعلا - من حيث خلقها. والمعتزلة لما منعوا إسناد القبيح إلى الله تعالى من أى وجه، أجابوا عن ذلك بأوجه ذكرها القاضى الأول: أنه لما أعرض الكفار عن الحق وتمكن ذلك فى قلوبهم حتى صار كالطبيعة لهم، شبه بالوصف الخلقى المجبول عليه. الثانى: أن المراد به تمثيل حال قلوبهم بقلوب البهائم التى خلقها الله تعالى خالية من الفطن. وقد مر فى كلامى تخريج ذلك على الاستعارة المفردة والمركبة. الثالث: أن ذلك فى الحقيقة فعل الشيطان أو الكافر، ولكن لما كان صدوره عنه بإقدار الله تعالى إياه، أسند إليه إسناد الفعل إلى المسبب. الرابع: أن أعراقهم لما رسخت فى الكفر واستحكمت بحيث لم يبق طريق إلى تحصيل إيمانهم سوى القهر والجبر، ثم لم يقرهم ولم يجبرهم إبقاء على عرض التكليف، عبر عن ترك التحصيل بالختم فإنه سد لإيمانهم وفيه إشعار عن وقع أمرهم بالكلية فى الغى. ووصول انهماكهم غاية الضلال والبغى. الخامس: أن يكون حكاية لما كانوا يقولونه مثل: { قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه وفى آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب } تهكماً واستهزاء بهم، كما تهكم بهم إذ قال: { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين } }.. الآية كانوا يقولون: لا ننفك عن ديننا حتى يأتى الرسول الموعود به فى التوراة والإنجيل، فتهكم بذكر ما قالوا، لأنهم لما جاء كفروا به، ولو كان غير تهكم لتحقق الانفكاك عند مجيئه لاستحالة تخلف أخباره. السادس: أن ذلك فى الآخرة وإنما أخبر عنهم بالماضى لتحققه وتيقن وقوعه، ويشهد له قوله جل وعلا: { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما } }. والسابع: أن المراد بالختم وسم قلوبهم بسيما تعرفهم بها الملائكة فيبغضونهم وينفرون عنهم. والكلام على التعبير بحصول الغشاوة على أبصارهم، كالكلام على ما قبله فى المجاز والاستعارة، وفى نفى الجبر على ذلك، وكيفية التوصل إليه بالأوجه المذكورة وكرر على مع سمعهم ليكون أدل على شدة الختم فى القلب والسمع، وعلى استقلال كل منهما بالختم. وعطف قوله على سمعهم على قوله على قلوبهم، لأن القلب والبصر لما اشتركا بالإدراك من جميع الجوانب الست، جعل ما يمنعهما من خاص فعلهما، الختم الذى يمنع من جميع الجهات، فإن الأذن تسمع الصوت من أى جهة كان من الجهات كما يدرك القلب الشىء فى أى جهة كان، ولذلك قلنا إنه معطوف على قلوب، ولم نقل إنه خبر لغشاوة، فتعطف عليه على أبصارهم، وأيضاً يدل على أنه معطوف على قوله:على قلوبهم لا خبر لغشاوة قوله تعالى: { { وخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ } فجمع القلب والسمع فى الختم ويدل على ذلك أيضاً الوفاق على الوقف عليه، والإضافة فى سمعهم للحقيقة أو للاستغراق فكأنه جمع كما جمع القلب ولو أفرد القلب على نية تلك الإضافة لجاز، ولكن خص السمع بالإفراد لأنه فى الأصل مصدر يستعمل فى مقام الأذن، والكلام فيها والمصدر يكفى بلفظ المفرد مع أنه لا يتوهم الإفراد فيه. والقلب ولو كان إفراده لا لبس فيه لكنه مصدراً مستعملا، فى مقام القلب الذى به يعقل، بخلاف السمع فإنه يقال سمع بأذنه سمعاً، ولا يقال قلب بقلبه قلبا، ولو كان أيضاً فى الأًول مصدرا. والسمع بمعنى الأذن ويجوز إبقاؤه على المعنى المصدرى، فبقدر مضاف أى على حواس شمعهم أو آلات سمعهم أو نحو ذلك مثل أن تقول: وعلى مواضع سمعهم وهى داخل الأذن الذى خلق الله سبحانه فيه إدراك الأصوات. ولفظ السمع يطلق على إدراك الصوت، وقد يطلق مجازا على القوة السامعة الموضوعة داخل الأذن، وعلى الأذن. ولعله المراد فى الآية، لأنه أشد مناسبة للختم فإن الذات مثل الإناء أشد مناسبة له من المعانى ولهذه العلة يختار تفسير القلب بالعضو المخصوص، وهو محل العلم. وقد يطلق علىالمعرفة كما قال بعض فى قوله عز وجل: { إن فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب } وعنه - صلى الله عليه وسلم -: "إن العبد إذا أذنب نكتت نكتة سوداء فى قلبه. فإن تاب وفزع واستغفر صقل قلبه، وإن زايد زادت حتى تعلق قلبه" لذلك الرين الذى قال الله تعالى: { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } رواه الطبرى وقال مختصر هذا الحديث يدل على أن الختم على الحقيقة.
{ وَعَلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ }: على أبصارهم خبر، وغشاوة مبتدأ، أى على أبصارهم تغطية مشتملة عليها، حدثت بانهماكهم فى التقليد وإعراضهم عن النظر الصحيح فلا يبصرون إبصارا نافعاً مؤثرا في القلب كأنه غطى على عيونهم، فكانت لا تبصر أصلا، كما كانت أسماعهم. كأنه غطى عليها، فكانت لا تسمع إذ كانوا لا يستمعون الآيات وينفرون عنها، وإذا سمعوا لم يؤثر فيهم كأنهم لم يسمعوا. ولما كان البصر يختص إدراكه بما قابله فقط ولو من جنب، ولا يدرك ما لم يقابله، جعل المانع للأبصار عن فعلها الغشاوة المختصة بتلك الجهة. والأبصار: جمع بصر، وهو إدراك العين، وقد يطلق مجازاً على القوة الباصرة الموضوعة فى العين، وعلى العين. ولعل المراد فى الآية العين لأنها من حيث إنها ذات كوعاء أنسب فى الختم وإنما أميلت ألف أبصارهم والفتح المتولدة هى منها مع أن الصاد قبلها، والمفتوح هو الصاد لأن الراء المكسورة تغلب حرف الاستقلاء لما فيها من التكرير، كأنها حرفان مكسوران، وجملة على أبصارهم غشاوة من المبتدأ والخبر مستأنفة أو حال، أو معطوفة على الجملة الفعلية عطف اسمية على فعليه، ويجوز على مذهب الأخفش المجيز أن يرفع الظاهر فاعلا ولو لم نعتمد أن يكون غشاوة فالعلا لقوله: على أبصارهم، لنيابة الظرف على قوله عن، ثبتت فيكون عطف فعلية على فعلية، وقرىء بنصب غشاوة بمحذوف، أى وأثبت على أبصارهم غشاوة، أو واجعل على أبصارهم غشاوة، فيتعلق على بذلك المحذوف، أو النصب بختم على نزع الخافض، وعلى متعلق بختم المذكور بواسطة العطف، أو بختم محذوفاً أى ختم بغشاوة، قرىء غشاوة بكسر الغين وفتح التاء وبفتحهما وبضمهما، وغشاوة بكسر الغين وإسكان الشين وضم التاء، وغشاوة بفتح الغين وإسكان الشين مع ضم التاء، ومع فتحها، وعشاوة بالعين المهملة مكسورة، وضم التاء من عشى يعشى كعلم يعلم إذا صار يعشى لا يبصر ليلا، أو من عشاء يعشو كدعا يدعو إذا جعل نفسه كأنه أعشى، قال جل وعلا:
{ ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً } }. { ولهم عذاب عظيم }: اللام للاستحقاق أى أعد الله لهم عذابا عظيما استوجبوه بكفرهم، والعذاب الإيلام الفادح، ويطلق أيضاً على الألم الفادح، وهما جائزان فى الآية وغيرها، والعذاب والتعذيب مستعملان بالوجهين، وسواء كان ذلك الإيلام أو الألم عقابا كما فى الآية عما يردع الجانى من المعاودة أو لم يكن عقاباً كذلك، وأصلهما أن يستعملا عقاباً، وأصل هذا الأصل أن يستعملا بمعنى الإمساك عن الشىء، ويقال ماء عذب أى مبعد عن العطش ممسك عنه، ولذا يقال نقاح أى يكسر العطش، وفراث أى يسكن العطش، والعذاب أعم من العقاب والنكال، أما العقاب فواضح، وأما النكال فلأنه إما بمعنى العقاب، وإما بمعنى الإمساك عن الشىء وقيل العذاب مأخوذ من التعذيب الذى هو إزالة العذاب، كما يقال قذيت العين بالتشديد، بمعنى أزلت قذاها وأخرجته، فإن التفعيل والإفعال يكونان للسلب، يقال أقردت البعير أزلت قراده، وأعذرن خالداً أزلت عذره، والعظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، فالعظيم فوق الكبير، كما أن الحقير دون الصغير، فالحقير إذا كان مقابلا للعظيم، والصغير مقابلا للكبير، كان العظيم فوق الكبير لأن العظيم لا يكون حقيراً، والكبير قد يكون حقيراً، كما أن الصغير قد يكون عظيما، والمراد أن لهم على كفرهم عذاباً يقصر عنه ما عداه من العذاب، ويحتقر بالنسبة إليه. وتنكير عذاب عظيم، وغشاوة للتعظيم كأنه قيل إن على أبصارهم نوع غشاوة، وليس مما يتعارفه الناس، وهو التعامى عن الآيات التى تظهر لمن دونهم فى الفهم والفصاحة، ولهم من العذاب نوع لا يعلم غايته إلا الله.