التفاسير

< >
عرض

فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ
٧٩
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فَوَيْلٌ }: قال ابن عباس رضى الله عنهما: الويل شدة العذاب، وأخرج الترمذى عن أبى سعيد الخذري وقال حديث غريب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الويل واد فى جهنم يهوى فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره" والخريف عبارة عن العام، لأنه بعض العام، وفى رواية عن أبى سعيد: وادٍ فى جهنم بين جبلين يهوى فيه الهاوى أربعين خريفاً، وكذلك رواه غير الترمذى مرفوعاً إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه واد فى جهنم. ورواه ابن المنذر مرفوعاً عن ابن مسعود، وروى سفيان الثورى وعطا ابن يسار أنهُ واد يجرى بفناء جهنم من صديد أهل النار، وروى عثمان بن عفان عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه جبل من جبال النار، وقول الخليل أنه شدة الشر هو فى معنى قول ابن عباس، ومعنى كونه لهم وهو واد أو جبل أن لهم فيه مكانا يعذبون فيه، وليسوا مختصين به، وأصله مصدر لا فعل له على المشهور، وقيل له فعل هو وال، ومعناه تحسر وهلك، وتقوله العرب لمن وقع فى هلكة، وقال أبو حيان: لم يصح عن العرب فإنما سمى به الوادى أو الجبل المذكور، لأنه سبب وملزوم للهلاك والتحسر، وآلة العذاب، فهو مجاز مرسل، ويجوز إبقاؤه فى الآية على المصدرية وساغ الابتداء به مع أنه نكرة، لأنه جاء على طريقة الدعاء فى كلام العرب، وليس بدعاء حقيقة لأنهُ تعالى مالك كل شئ وقادر على كل شئ.
{ للَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ }: فقط بدون أن تسبقهم كتابة من الله، أو من موسى ونحوه من الصادقين، فكان ما يكتبوه كذباً إذ لم يكن من الله لفظه ومعناه، ولا معناه والكتابة، ولو كانت لا تكون إلا باليد لكن لما أريد بذكر الأيدى التعبير عن أنهم كتبوا من عند أنفسهم لا صدقاً، لم يكن ذكر الأيدى تأكيداً فى المعنى، لقوله: { يكتبون } وأيضاً قد يكون الإنسان كاتباً بغير يده بأن يأمر من يكتب، فاحترز عن هذا بقوله: { بأيديهم } فليس تأكيداً، لأن ما احترز به عن المجاز ليس تأكيداً، ولو كان لو لم يحترز عنه لحمل الكلام على الحقيقة، وكتابه الحرام والأمر بها كلاهما لا يجوز. وأما الكتابة بالطابع فمن الكتابة باليد، لأن رسم حروفها، والمسح عليها بالمداد وتطبيق الورقة عليها باليد. وقال القاضى جار الله: إن قوله بأيديهم تأكيد فى المعنى لقوله: { يكتبون }، مراعاة لكون الكتابة الحقيقة لا تكون إلا باليد وأظنهما غفلا عن كون الأيدى ذكرت عبارة عن كون مكتوبهم كذباً، ثم رأيت أن ابن السراج ذكر أن قوله بأيديهم كناية عن أنهُ من تلقائهم دون أن ينزل عليهم، والحمد لله والكتاب اسم لما يكتب فيه من نحو ورق وجلد، ولا يسمى كتاباً إلا بعد أن يكتب فيه بعض الكتابة، وتسميته كتاباً، قبل ذلك من مجاز الأول، فالآية من هذا المجاز، ويجوز أن يراد الحقيقة بأن سماه كتاباً باعتبار ما يتحصل فيه أولا من ذكر، ثم ذكر لهم الويل لما يكتبونه فيه بعد من تحريف وكذب.
{ ثُمّ يَقُولُونَ }: كاذبين.
{ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ }: أى مضمون هذا التكاب من ألفاظ ومعان أو من معان هو من عند الله.
{ لِيَشْتَرُوا بِهِ }: أى بذلك الكتاب الذى كتبوه.
{ ثَمَناً قَلِيلاً }: عرضاً من أعراض الدنيا كمأكول ومشروب ودنانير ودراهم ونحوها من الأموال، وكالجاه والشهرة والرشوة، فإن كل ما نالوه بذلك قليل بالنسبة إلى ما فاتهم به من النعيم الدائم، وما استوجبوه من العذاب الخالد، وليشتروا تعليل ليقولون وليكتبون ففيه تنازع، علمت الأحبار والرؤساء من اليهود لعنهم الله أنه إذا تحققت عند اليهود صفة النبى صلى الله عليه وسلم مالوا إليه، فتذهب رئاستهم وعطاياهم التى تعطيهم العامة، تعمدوا إلى صفته صلى الله عليه وسلم فكتبوا بدلها: طويل أزرق العينين سبط الشعر، فكانوا إذا سألهم عامتهم قرءوا عليهم ما كتبوا، فيجدونه صلى الله عليه وسلم ليس كذلك فينكرون نبوته ورسالته. وذكر السدى أنهم كانوا يكتبون كتباً يبدلون فيها صفة النى صلى الله عليه وسلم ويبيعونها من الأعراب ويبثوها فى أتباعهم، ودخل فى الآية كل ما كتبوا من باطل كما بدلوا الرجم والجلد والتحميم
{ فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ }: من الأكاذيب ومن التعليل، أى لأجل ما كتبت أيديهم أو للابتداء، أى يتحصل لهم مما كتبت أيديهم وكذا فى قوله:
{ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ }: من الأثمان على ذلك والرشا وسائر معاصيهم.