التفاسير

< >
عرض

وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ ٱلْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
٩٦
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَلَتَجِدَنَّهُم }: تعلمنهم والمضارع هنا للحال المستمرة قبل وبعد أو للاستقبال، أى تعلم بعد وقتك هذا أنهم أحرص الناس بعد عدم علمك بحرصهم أو بعد علمك بأنهم حريصون، لأنهم أحرص عن جميع الناس والضمير المنصوب محلا لليهود.
{ أَحْرَصَ النَّاسِ }: أى أحرص من غيرهم من الناس كلهم، وإنما يضاف اسم التفضيل لما هو بعضه وهم بعض الناس فى الجملة لا فى الآية، ومرادى أن يضاف إلى لفظ شامل له بحسبه وضع اللغة لا بحسب المراد منه فى المقام، فإن لفظ الناس بحسب اللغة شامل لليهود ولا يشملهم فى الآية ونحوها، إذ لا يفضل الشئ على نفسه وغيره، كما لا يفضل على غيره، وأجاز الكوفيون أن يضاف إلى ما ليس هو بعضه، ولما أضيف إلى معرفة جاز إفراده، ولو وقع على جماعة ولو طابق ما وقع عليهِ لقيل أحرصى الناس بياء الجمع، ويحذف نونه للإضافة، قال ابن هشام والغالب ترك المطابقة كما فى الآية، وابن السراج يوجبه يعنى يوجب تركها ويرده إلى أكابر مجرميها، وإن جعل أكابر غير مضاف لمجرميها بل مفعولا ثانياً ومجرمى أولا لزمه ثبوت المطابقة مع التجرد من أول الإضافة لمعرفة إذا قيل أكابر الأكبر وذلك لا يجوز. انتهى بصرف وزيادة إيضاح.
{ عَلَى حَيَاةٍ }: نكر الحياة للتعظيم وللدلالة على النوع. والنوع فرد الجنس، وإن شئت فقل للدلالة على فرد من أفراد الحياة، والمراد حياة متطاولة، فالتنكير أبلغ من قراءة أبى، أحرص الناس على الحياة بالتعريف، وإقسام الله على أنهم أحرص الناس على حياة، تذييل وتقرير بقوله: { ولن يتمنوه أبداً }.
{ وَمِنَ الذينَ أُشْرِكُوا }: عطف على من التى يتضمنها قوله أحرص الناس وعلى الناس فهو من العطف على المعنى المسمى فى غير القرآن عطف التوهم، إذ المعنى أحرص من الناس والذين أشركوا العرب والمجوس ونحوهم ممن أنكر البعث للثواب والعقاب، فإن العرب تنكره والمجوس كذلك، وتقول المجوس بالنور والظلمة، وقيل لم يقولوا أيهما، وقيل المراد بالذين أشركوا المجوس لأنهم كانوا يقولون ملوكهم عشر ألف نيروز وألف مهرجان يعنون أعيادهم، وعن ابن عباس هو قول الأعاجم زه هزار سال، أى عش ألف سنة، وقال الحسن: المراد مشركو العرب، وخص المشركين المنكرين للبعث بالذكر مع شمول لفظ الناس لهم، ومع أن النصارى أيضاً حريصون على الحياة، وكذا غيرهم للمبالغة، إذ حرص من ينكر البعث على الحياة شديد لاقتصار همتهم على الحياة الدنيا وعدم اعتقادهم الجنة والنار، فضلا عن أن يرجو الحياة الآجلة والجنة، أو خصهم بالذكر لزيادة توبيخ اليهود، والتقريع عليهم وإيضاح كذبهم، لأنهم مقرون بالجنة مدعون أنها لهم، فلو صحت دعواهم لأحبوا الموت ليدخلوها، ولكانوا غير حراص على الحياة، فلما كانوا أحرص عليها ممن لا يعتقد الجنة، علمنا أنهم كرهوا الموت لعلمهم أنهُ لا خير لهم فى الآخرة، وما لهم فيها إلا النار، فكرهوا الموت لئلا يدخلوها بخلاف من أنكر البعث، فإن حرصه على الدنيا إنما هو لزوال لذتها عنه بالموت لا لخوفه من النار، لعدم اعتقاده إياها فلم يكن حرصه كحرص هؤلاء الأراجس اليهود، بل دونه ولم يستبعد حرصهم مع دعواهم الجنة مستبعد لأنهم لم يحرصوا ليزيلوا عبادة فكانوا أحقاء بالتوبيخ الشديد، ويجوز كون المعطوف محذوفاً أى وأحرص من الذين أشركوا دل عليهِ أحراص الناس، وذكر ابن هشام أنهُ يحذف المعطوف، ويجب أن يتبعه العاطف.. انتهى، ويفيد قوله بما إذا لم يبق المعمول وقوله:
{ يَوَدُّ أَحَدُهم }: أى أحد اليهود مستأنف لبيان زيادة حرصهم، ويحتمل أن تجعل قوله: { من الذين أشركوا } خبرا لمبتدأ محذوف منعوت بجملة: { يود أحدهم } أى ومن الذين أشركوا ناس يود أحدهم أى أحد الناس المحذوفين، قال ابن هشام: يجوز حذف المنعوت إن علم وكان النعت صالحاً لمباشرة العامل أو بعض اسم مقدم مخفوض بمن أو فى، فلفظ الناس المحذوف أريد به اليهود، ودخلوا على هذا الوجه فى قوله: { الذين أشركوا } إذ هم بعض المشركين لأنهم أنكروا القرآن ومحمداً وعيسى والإنجيل، وقالوا: عزير ابن الله سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وليس كما قال بعض إن المشركين فى هذا الوجه هم اليهود، لأن من التبعيضية فى هذا الوجه تنافيه إلا إن أراد أنه أشير بلفظ الذين أشركوا إلى اليهود أنهم من المشركين.
{ لوْ يُعَمِّرُ ألفَ سَنَةٍ }: أى لو يحيى فى ألف سنة أو يعطى ألف سنة، فألف ظرف على الأول ومفعول ثان ليعمر على الثانى لتضمنه معنى يعطى، ولو مصدرية والمصدر مفعول لم يرد وليس كما قال غيرى إنها حرف تمنى لأن التمنى إنما يفيده قوله: { يود } اللهم إلا أن قدر مفعول: { يود } والقول أى يود أحدهم التعمير بقول لو يعمر ألف سنة، أى لو أعمر أنا ألف سنة فالتفت إلى غيبة يقول من تكلم أعمر أو ضمن يود معنى القول بأن ود بلسانه وقلبه، فجعل لو يعمر ألف سنة مقولا اليهود، وممن ذكر أن لو هذه مصدرية، ابن هشام قال: تكون لو مصدرية وأكثرها بعد ود ويود، وأكثرهم لم يثبت مجيئها مصدرية، والذى أثبته الفراء وأبو البقاء والتبريزى، وابن مالك، ويقول المانعون فى نحو { يود أحدهم لو يعمر } أنها شرطية، ومفعول يود وجواب لو محذوفان، والتقدير يود أحدهم التعمير لو يعمر ألف سنة، فسره ذلك، ولا يخفى ما فى ذلك من التكلف.. إلخ، ولا التفات فى يعمر إلا أن ضمن يود معنى يقول، أو قدر القول، فحينئذ يكون من الالتفات السكاكى، إذ مقتضى الظاهر أن يقول أعمر بالتكلم، وكل سنة مذكورة فى القرآن فمعناها اثنى عشر شهراً إلا السنة العجمية، والمذكورة هنا اثنى عشر شهراً إلا على ما تقدم أن المراد عشر ألف نيروز وألف مهرجان وزه هز إرسال، فالسنة العجمية وخص الألف لأنها نهاية العقود، ولأنها تحية المجوس كما رأيت، وأصل سنة سنوة أو سنهة لقولهم: سنوات وسنهات. وسانهت، عاملته بالسنين أو ماثلته فيها. أو تسنهت النخلة أتت عليها سنون، ولما حذفت الواو أو الهاء كانت التاء عوضاً عنها، أو علامة تأنيث بعد أن كانت علامة تأنيث فقط وقوله.
{ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أن يُعَمَّرَ }: مستأنف أو حال من أحدهم وقوله: { هو } عائد إلى قوله: { أحدهم } اسم وما ومزحزح خبرها أو الباء صلة التأكيد، وأن يعمر فاعل مزحزح، ومعنى مزحزح مبعد أى لا يبعده التعمير الطويل من عذاب الآخرة، أى لا يمنعه بل لا بد يصله، ويجوز أن يعود لفظ هو إلى التعمير المفهوم من يعمر فى قوله: { لو يعمر }، ويدل لهذا قول ابن جبير عن ابن عباس ما عمره بمنجيه من العذاب، فإن يعمر بدل منه بدل مطابق أو عطف بيان وإن يعود إلى مبهم مثل شئ مفسر بقوله: إن يعمر. مع إبقاء أن يعمر على الفاعلية لمزحزح، وقيل هو ضمير الشأن، وأن يعمر مبتدأ، ومزحزح خبر، قال ابن هشام، ولو كان كذلك لم تدخل الباء فى الخبر، لأنه لا يكون مزحزح خبر ما حينئذ.. انتهى بزيادة منى وإيضاح.
{ وَاللهُ بَصِيرٌ بما يَعْمَلُون }: فيجازيهم، وقرئ بالمثناة الفوقية.