التفاسير

< >
عرض

ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ
١
-الأنبياء

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ اقْتَرَبَ } بمعنى قرب فهو موافق للمجرد والزيادة للتأكيد { للنَّاسِ حِسَابُهُمْ }.
وإن قلت: كيف وصف بالاقتراب وهذه ألف ومائتان واثنان وسبعون عاما منذ نزلت الآية أو أكثر من ذلك؟
قلت: وصف به لأنه عند الله قريب ولو بعُد عند غيره. واليومُ عند الله ألف سنة من سنوات الدنيا؛ ولأن كل آتٍ قريب، وإن طال أجله وإنما البعيد هو ما مضى، أو لأن الاقتراب نسى؛ فإن ما بقى من الدنيا ولو طال قصير بالنسبة إلى ما مضى؛ بدليل بعث النبى صلى الله عليه وسلم الذى هو خاتم النبيين وعلامة للساعة.
وعنه صلى الله عليه وسلم: بُعثت فى قَسَم الساعة.
وخطب بعض المتقدمين: ولّت الدنيا حداء، ولم تبق إلا صُبابة كصُبابة الإناء. و اللام متعلق باقترب وهى أصل.
وإن اعتبرنا أن الأصل اقترب حساب الناس ثم اقترب حسابُ للناس بعدم تنوين حساب للإضافة وبزيادة اللام فى المضاف إليه كقوله: يا لؤسّ للحرب ثم تركت الإضافة الجار والمجرور، فتعلق باقترب. وكان الجار غير زائد، ثم عوض عن التعريف بالإضافة التعريفُ بأَل فقيل: اقترب للناس الحساب ثم اقترب للناس حسابهم. فهى بحسب الأصل زائدة فهى للتأكيد ولو بعد ذلك.
فإنه إذا كان يكفى أن يقال: اقترب حساب الناس فزيد فيه اللام وضمير الناس بأن قيل: اقترب للناس حسابهم فلا يخفى ما فيه من التقوية ولو لم يُقل بزيادتها فى الأصل لذكر الناس مرتين إظهاراً وفى ذلك نوع إبهام وتبيين.
والناس: المشركون؛ بدليل وصفهم بما يأتى فهو من إطلاق اسم الجنس على بعضه.
وذلك قول ابن عباس قيل: مراده مشركو مكة المنكرو البعث.
ويحتمل أن يراد كل المكلفين والحكم عليهم بالوصف الآتى حكم على المجموع وفيه زجر للجميع كما تقول للطلبة: مالكم تنامون، وتغلظ عليهم، مع أن النائم بعضهم، زجراً للبعض، وتحذيراً لغير النائم أن ينام.
وفى ذكر مجئ الحساب أيضاً دعاء للتأَهب.
وذكرتَ معنى الحساب والبحث فى حساب المشركين فى غير هذه السورة.
وكان رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم يبنى جداراً فمرَّ به آخَرُ يومَ نزول هذه الآية فقال الذى يبنى: ماذا نزل اليوم من القرآن؟
قال: نزل { اقترب للناس حسابهم وهم فى غفلة معرضون } فنفض يديه وقال: والله لا بنيت.
قال أبو بكر بن العربى: قال لى شيخى: ارغب فى العبادات لا تذهب بك أمر، فى مطاولة الأقران ومواصلة الإخوان. ولم أر للخلاص أقرب من طريقين: إما أن يغلق الإنسان بابه على نفسه، وإما أن يخرج إلى موضع لا يعرف فيه. فإن اضطر إلى مخالطة الناس، فليكن معهم ببدنه، ويفارقهم بلسانه وقلبه. وإن لم يستطع فبقلبه. والواو للحال، وفى غفلة تتعلق بمحذوف خبر، ومعرضون خبر ثان، أى هم ثابتون فى غفلة من الحساب، معرضون عن التفكر فيه، أو متعلق بمحذوف حال من المستتر فى معرضون، ومعرضون خبر، وصاحب الحال الذى هو جملة حساب. ويأخذ عصاة الموحدين من تلك الأوصاف حظهم إلا الحكم بأن القرآن سحر، ونحو هذا، لكن المشرك ينكر والعاصى يقر، ويعمل كالمنكر.
يا أخى أَشعِرْ قلبَك مهابة، فإلى الله مآلك، وتأَهَّب للقدوم، فقد آن ارتحالك. أنت فى سكرة لذاتك، وغَشْيو شهواتك، وإغماء غفلاتك، مقراض الفناء يعمل فى ثوب حياتك، ويَفْصِل أجزاء عمرك جزءاً جزءاً فى سائر ساعاتك؛ كُلُّ نَفَسٍ مِن أنفاسك جزء منفصل من جملة ذاتك، وبذهاب الأجزاء تذهب الجُمل.
أنت جملة تؤخذ آحادها وأبعاضها إلى أن يستوفى سائرها عساكر الأقضية، والأقدار محدقة بأَطوار الأعمار، تهدمها بمعاول الليل والنهار، فلق أضاء مصباح الاعتبار. لم يبق لنا فى جميع أوقاتنا سكون ولا قرار.