التفاسير

< >
عرض

لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ
٢٢
-الأنبياء

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا } فى الجنسين، أحدهما السموات، والآخر الأرض.
{ آلِهَةً إِلاّ اللهُ لَفَسَدَتَا } هما وما فيهما إن الرعية وسائر الأملاك تفسد بتدبير الملكين فكيف بملاك بين متعدد من التغالب والتخالف؟!
قال عبد الملك بن مروان حين قتل عمر بن سعد الأشدق: كان والله أعز علىَّ من دم ناظرى، لكن لا يجتمع فحلان فى شول، فهذا يريد أن يكون السماوات والأرض على صفة كذا، وهذا على صفة كذا. وهذا يريد أن يفعل من فيهما كذا. وهذا يريد غير ما أراد ذاك، وذلك على وقف العادة عند تعدد الحاكم.
فلو أراد أحد الآلهة تحريك شئ وأراد لآخر تسكينه، فإما أن يقع المرادان وهو محال؛ لأنه جمع بين الضدين، وإما أن لا يقع واحد، وهو محال أيضا؛ لأن مانع مراد كل هو مراد الآخر، فلا يمنع مراد واحد إلا عند وجود مراد الآخر.
وإما أن يقع واحد دون الآخر، وهو محال؛ لأن كل قادر على ما لا نهاية له فتستوى الآلهة فى القدرة. فإثبات الأولهية لأحدها، وإثبات وقوع مراده ترجيح بلا مرجح، ولأنه إن وقع مراد أحدها دون غيره، فالذى لم يقع مراده عاجز، فليس بإله.
وإن فرضنا آلهة قادرة على جميع الممكنات غير مختلفة الإرادة، فالفعل الواحد إنما يصدر من واحد؛ إذ لا يشترك اثنان فى فعل ومهما تخيل لك من ذلك، فقد اختص كل واحد بجزء، وباشره هو لا غيره. وكل موجود دليل على وجود الله تعالى. أشار إلى ذلك الفخر.
وإيضاحه: أنه لو كان معه إله آخر، لم يخل إما أن يتخلفا فى الإرادة على إرادة حكم التضاد، أو يتفقا. والتالى بقسيمه محال، فالمقدم مثله.
أما الملازمة فدليلها وجوب عموم تعلق إرادة الإله وقدرته وسائر صفاته المتعلقة. فلو كان ثَم إلهان لوجب تعلق إرادة كل واحد منهما، وقدرته بكل ممكن. ومتى تعلق بالفعل إرادتان، لم يخل من الاتفاق عليه أو التباين. أما بطلان التالى فببطلان طرفيه، وهما الاختلاف والاتفاق.
فوجه بطلان الطرف الأول وهو الاختلاف: هو أن تقول: لو اختلفا فى فعل، بأن يريد أحدهما وجود الجسم، ويريد الآخر عدمه، أو يريد أحدهما حركته، والآخر سكونه، يلزم عجزهما معا، أو عجز أحدهما؛ لأن نفوذ إرادتهما معا مستحيل، لِما يؤدى إليه من اجتماع النقيضين، أو ما فى حكمهما، فيكون الشئ فى الزمان الواحد موجوداً معدوداً أو متحركا ساكنا.
فإذن لا بد من تعطيل النفوذ لإحدى الإرادتين، أو لكلتيهما. فإن تعطلتا معا لزم عجز الإلهين، لتعذر الفعل من كل واحد منهما، ويلزم عليه أيضا خلو المحل عن النقيضين. ولا مانع من نفوذ إرادة كل واحد منهما وقدرته، إلا نفوذ إرادة الآخر وقدرته.
فإذا لم تنفذ الإرادتان لزم وجود الفعل بهما، وعدم وجوده بهما، إن ثبت المانع، أو حصول المنع من غير مانع، إن لم يثبت المانع.
وإن كانت إرادة واحد منهما خاصة فمستحيل؛ لأنه يلزم عليه عدم عموم تعلق إرادة الإله وقدرته، ويلزم عليه العجز، والعاجز غير إله، فيلزم أيضا قبل عجز الذى نفذت إرادته، لأنهما مثلان. واستحال ذلك أيضا بلزوم ترجيح أحد المثلين بلا مرجح. وإن فرض المرجح فلزم عجز الذى نفذت إرادته كما مر، ولزم حدوثهما.
وأما بطلان الطرَف الثانى من التالى، وهو الاتفاق، فمن أوجه: لأن الاتفاق إما واجب أو جائز. فإن وجب لزم كون أحدهما مقهورا، إن قدر الآخر على الترك، وإلا فمقهوران. ولزم من قهر أحدهما قبل قهر الآخر؛ لأنه مثله، ويلزم الافتقار إلى المرجح فى تخصيص أحد المثلين بما لم يثبت لمثله.
ولزم فى الانفاق الواجب انقلاب الممكن مستحيلا؛ لأن كل واحد منهما، إن نظرنا إليه منفرداً، أمكن أن يوجِد كلا من الحركة والسكون مثلا؛ لأنه لا من إله لا جزء له. فإذا فرضنا تعلق إرادة أحدهما بخصوص الحركة مثلا، صار وقوع السكون الممكن من الآخر مستحيلا، وذلك قلب الحقائق. كذا قيل.
وأيضا كون المانع له تعلق إرادة الآخر بضده، ويلزم منه إيجاب المانع حكم المنع لما لم يقم به، وذلك كله مستحيل.
ويلزم أيضا فى الاتفاق الواجب عدم وجوب الوجود لكل واحد منهما؛ لأن وجوب الوجود إنما يثبت لإله، من حيث توقف وجود الحوادث عليه؛ لئلا يلزم التسلسل أو الدور، عند تقدير جواز وجوده.
فإذا قُدِّرَ أن ثم إلهين لم ينفرد أحدهما عن الآخر بشئ بل هما متفقان أبدا لزم عدم توقف الحوادث على خصوص كل واحد منهما فلا يتحقق وجوب الوجود لكل واحد منهما؛ إذ على تقدير عدمه، تستثنى الحوادث عنه بصاحبه، والإله متحقق وجوب وجوده.
وإن قلت: يكون وجوب الوجود متحققا لأحدهما لا بعينه.
قلت: فيثبت جوار الوجود لأحدهما لا بعينه، وتماثلهما يمنع من اختلافهما وجوبًا وجوازاً.
وإن قلت: تمنع أن الفعل يستثنى بأحدهما عن الآخر لا يوجد إلا بهما فوجودهما واجب.
قلت: فيلزم أن يكون كل واحد منهما جزءاً للإله لا إله، فيقوم بكل واحد منهما جزء العلم، وجزء القدرة، وجزء الإرادة، إلى غير ذلك، مما لا يقول به عاقل.
وإذا كان التركيب من جزءين متصلين محالا فما بالك بتركيبه من جزءين منفصلين.
ويلزم أيضا من وجود ابتداء الحوادث بكل منهما أن تكون محتاجة لكل واحد منهما، غنية عن كل منهما، وهو جمع بين متنافيين.
وإن لم يجب اتفاقهما بل جاز اختلافهما، لزم قبولهما العجز. وكلما كان الاتفاق جائراً كان الاختلاف جائزاً؛ لأن جواز أحد المتقابلين يستلزم جواز الآخر، والقابل للاختلاف قابل للعجز ضرورة. والجواهر والجسم عندنا قابلان للقسمة.
وزعم قومنا أن الجواهر جسم دقيق لا يقبله، وأن العرض لا يقبلها.
ومذهبنا أن الجوهر والجسم واحد، وأن العرض يقبلها فلو بنينا على زعم قومنا، لزم أن تنفذ فى ذلك الذى لا يقبل القسم، إرادة واحدة، وقدرة واحدة. فمن لم تنفذ إرادته وقدرته فعاجز، فليس بإله. وإن لم تنفذ إرادتهما وقدرتهما فعاجزان، والإله لا يوصف بالعجز؛ لأن العجز إما قديم وهو محال، بأدائه إلى استحالة اتصاف الإله بالقدرة. وفى اتصافه بها مع العجز، لزم اجتماع الضدين.
وإن اتصف بها بعد عدم العجز، لزم عدم ما ثبت قِدمه. وإما حادث وهو محال؛ لأنه إذا كان حادثا فضده وهو القدرة قديمة. فإن اتصف بالعجز مع وجود القدرة، لزم اجتماع الضدين، وإلا لزم عدم القديم كما مر آنفا. والعجز فى الحى نقص، ويلزم على اصطلاح الإلهين عجزهما واحتياجهما أو عجز أحدهما واحتياجه؛ إذ ليس أحد يطلب الصلح أو يرضى به إلا لجر منفعة، أو دفع مضرة، أو لعجزه عن القيام بالكل.
وإن قلت: فليقسم العالم بينهما قسمين، كل واحد قادر على قسم.
قلت: الإله يجب عموم إرادته وقدرته. فإذا عمت لزم تعلق إرادة كل وقدرته لكل ممكن، فيلزم التمانع بينهما.
وأيضا أحد النوعين الذى تعلقت به إرادة أحدهما أو قدرته، إن ماثل النوع الآخر الذى هو مقدور الإله الثانى ومراده، لزم عموم قدرة كل منهما وإرادته للنوعين، ضرورة أن القادر على أحد المثلين قادر على مثله. وإن كان أحدهما جسما والآخر عرضا، فهو محال من وجهين:
أحدهما: أن الجواهر والعرض لما لم يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر، استحال تصور القدرة على أحدهما بدون الآخر.
ثانيهما: أن التمانع لا ينتفى بذلك، على تقدير تسليمه؛ لأنه من الجائز أن يريد أحدهما وجود الجواهر، والآخر عدم العرض، أو بالعكس. ونفوذ الإرادتين مستحيل، فيلزم عجزهما، أو عجز أحدهما.
وأيضا اختصاص أحد الإلهين بنوع دون نظيره، يلزم فيه التخصيص من غير مخصص؛ إذ ليس اختصاص أحدهما بنوع بأولى من اختصاص الآخر به، فإن فرض ثم مخصِّص لهما بما اختصا به لزم حدوثهما. وهذا التخصيص لو كان باختيارهما لأمكن منهما تركه، بأن يتصرف كل فى مقدور الآخر ومراده. والتالى باطل للزوم التمانع، فالمقدم وهو كون التخصيص باختيارهما باطل، فالتخصيص إما من الغير، فذلك تخصيص بلا مخصص أو منهما، وكل ذلك محال ولو تعدد الإله، فإما بتعدد الممكنات وهو محال لما فيه من وجود ما لا نهاية له.
وإن قلت: لا يلزم وجود ما لا نهاية له؛ لأن المراد بالممكنات ما سبق به قضاء الله لا كل ما يمكن فى العقل.
قلت: يلزم وجود الممكنات التى لا توجد مستحيلة بل الممكنات التى توجد لا نهاية لها، كنعيم الجنة، وعذاب النار، وفى التعدد بقدر الممكنات تأخر بعض الآلهة عن بعض، وإما لا يتعدد الممكنات وهو محال، لاستلزام الجواز والحدوث، لافتقار وجود الآلهة على عددها المخصوص، دون غيره من الأعداد المتساوية عقلا بالنسبة إليها إلى فاعل مختار، وإلا لزم ترجيح أحد المتساوبين بلا مرجح.
وإن قلت: يلزم مثل ذلك فى الوحدة لأن وجوده على ذلك دون تعدد يفتقر إلى مخصص.
قلت: قام البرهان على أن الإله واجب الوجود ولا يتحقق الوجود دون ذات واحدة. والزائد منها مستغن عنه. وفى الآية إيراد حجة للمطلوب. ويسمى ذلك المذهب الكلامى.
الإعراب: مجموع إلا الله نعت آلهة. والإعراب على آخر الجزأين والجزء الأول حرف، وهو إلا. قال السعد إجماعا. وأجاز الدمامينى أن تكون وحدها نعتًا، وأنها اسم، يقِل إعرابها لما بعدها، لكونها على صورة الحرف.
والمعنى على كل حال: لو كان فيهما آلهة مغايرة لله، أى انتفى عن كل واحد منهما أن يكون هو الله تعالى. ولذا صح وصف ذلك الجمع المنكَّر لقوله: إلا الله وليست إلا للاستثناء؛ لأن المعنى حينئذ: لو كان فيهما آلهة إلا الله لم يكن فيهما لفسدتا.
ومفهوم هذا المعنى أنه لو كان فيهما آلهة فيهم الله لم تفسد، أو ليس كذلك؛ فإن الفساد يترتب على تعدد الآلهة مطلقا.
وأيضا آلهة جمع منكَّر فى لإثبات، فلا عموم له، فلا يصح الاستثناء منه.
ولو قلت: قام رجل إلا زيد لم يصح، خلافا لبعض الأصولين، فإنه أجاز استعماله عاما.
وأجاز المبرد أن يكفى فى الاستثناء صحة التناول، بل لا بد من التناول بالفعل. وعليه فيصح المثل.
والتحقيق أنه يعتبر دخول زيد فى الرجال، وأنه واحد منهم على معنى قام رجال فيهم زيد، لكن لم يقم. وأما
{ { إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط } فالاستثناء منقطع، أو متصل، على أن المراد بالقوم المجرمين: قوم لوط كما قال: { { إنا أرسلنا إلى قوم لوط } ولكن الحكم بالإجرام حكم على المجموع.
وقال المبرد: { إلا } فى الآية للاستثناء وما بعدها بدل، محتجا بأن لو تدل على الامتناع، وامتناع الشئ انتفاؤه. وزعم أن التقريع بعدها جائز، وأن نحو لو كان معنا أحد إلا زيد أجْوز كلام انتهى.
وقد مر عنه أنه يكتفى بصحة الدخول، وإن لم يدخل بالفعل، لكن التحقيق عند الأصوليين أن دلالة الجمع المستغرق على الواحد بالمطابقة، وأن أفراد الجمع آحاد.
ويرد كلام المبرد فساد مفهومه - كما مر، وأنه لا يقال: لو جاءنى دَيار لأكرمته، بذكر ديار المختص بالنفى بعد لو، ولو جاءنى من أحد أكرمته، باستعمال أحد، وهو مثل ديار بعدها، وبزيادة مِن وهى تزاد بعد النفى ونحوه. ولو كان امتناع "لو" قائما مقام النفى لصح أن يقال ذلك، كذا فهمت من كلام ابن هشام.
ويجاب بأن الاستثناء يوسَّع فيه. ألا ترى وقوع التفريع بعد أبَى والاستفهام الإنكارى، نحو:
{ { ويأبى الله إلا أن يتم نوره } } { { ومن يغفر الذنوب إلا الله } كما أشار إليه فى التوضيح وغيره.
وقال الشَّلوْبِين وابن الصائع: لا يصح المعنى حتى تكون إلا بمعنى غير التى يراد بها العوض والبدل.
ويرده أن المفعوم حينئذ أنه لو كان فيهما آلهة ليست بدلا من الله بل هو معها لم تفسدا، وهو باطل، إلا إن اعتبر مفهوما آخر، هو أنه لو لم تكن فيهما آلهة بدلا من الله، بل كان الله وحده لم تفسدا، وإذا امتنع الاستثناء امتنع الإبدال لتفريعه عليه، واشتراط كونه من غير موجب.
{ فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } عما يصف المشركون، من الشركة أو الجحود، ومن الولادة والزوجة.
قيل: العرش: جسم عظيم محيط بجميع الأجسام، كيف يوصف خلقه ومالكه بتلك النقائص.
وقيل: العرش: الكرسى.