التفاسير

< >
عرض

كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
٣٥
-الأنبياء

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ } ولا يبقى إلا الحى الدائم. والذوق عبارة عن مقدمات الموت، أى ذائقة مرارة الموت. وفى ذلك موعظة بليغة.
وكان الثورى إذا ذكر الموت لا يُنتفع به أياما. وكثرة ذكره تردُّ عن المعاصى، وتلين القلب القاسى.
قال الحسن: ما رأيت عاقلا قط إلا وجدته حَذِرًا من الموت، حزينا من أجله وطول الأمل بكسل عن العمل، ويورث التوانى، ويُميل إلى الهوى. وهذا مشاهد بالعيان، لا يحتاج إلى بيان، يطالَب صاحبه ببرهان.
ولما دنا الموت من معاوية قال: الموت لا مَنْجَى من الموت. والذى يحاذَر بعد الموت أدعى وأفظع. ثم قال: اللهم أَقِل العَثرة، واعف عن الزَّلة وعد على مَن لم يرج غيرك، ولا يثق إلا بك، فإنك واسع المغفرة، وليس لذى خطيئة مهرب منك.
وقيل لأعرابى: إنك تموت.
فقال: إلى أين يُذهب بى؟
قالوا: إلى الله تعالى.
قال: ما أكره أن أذهب إلى مَن لا أرى الخير إلا منه.
وأوصى علىّ أبا ذر - رضى الله عنه -: زُر القبور، وتذكر بها الآخرة، ولا تزرها بالليل، واغسل الموتى، وصلِّ على الجنائز، لعل ذلك يحزنك، فإن الحزين فى ظل الله.
ودخل ملَك الموت على داود فقال: مَن أنت؟
قال: الذى لا يهاب الملوك ولا تمنع منه القصور ولا يقبل الرشا.
قال: فأنت إذًا ملَك الموت، ولم أستعد بعدُ.
قال: يا داود أين جارك فلان، وابن فلان قريبك؟
قال: ماتا.
قال: أما كان فيهما عبرة لتستعد!
وأجمعت الأمة أن الموت ليس له زمان معلوم ولا مرض معلوم فليكن المرء على أُهبة من ذلك.
فبينما حسان جالس وفى حجره صبى يطعمه الزبد بالعسل إذ شرق الصبى بهما فمات فقال:

اعمل وأنت صحيح مطلق فرِح ما دمت - ويحك يا مغرور - فى مهَل
ترجو حياةَ صحيحٍ ربما كمنتْ له المنية بين الزبد والعسل

وسمع أبو الدرداء رجلا يقول فى جنازة: مَن هذا؟
قال: أنت فإن كرهت فأنا.
وكان يزيد الرقاشى يقول: أخبرونى مَن كان الموت موعده، والقبر بيته. والثرى مسكنه، والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر، كيف يكون حالهَ! ثم يبكى حتى يغشى عليه.
{ وَنَبْلُوكُمْ } نعاملكم معاملة المختبر { بِالشَّرِّ } ما تكرهه النفس، كالفقر والذل.
{ وَالْخَيْرِ } كالغنى والعز، هل تصبرون وتشكرون أم لا؟
وقدم الشر لأن العرب كما تقدم الخير تقدم الشر وذلك من عادتها، ولأن الشر يتبادر إلى النفس أن الابتلاء به أشد.
{ فِتْنَةٌ } مفعول مطلق، كقعدت جلوسا.
وقيل: مفعول لأجله. وفيه أن الشئ لا يعلل بنفسه إلا إن أريد بالفتنة والإيقاع فى الضر لا الاختبار.
{ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } للجزاء الذى هو المقصود بالابتلاء فى هذه الدنيا.