التفاسير

< >
عرض

وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ
٨٧
-الأنبياء

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَذَا النُّونِ } صاحب الحوت؛ أضيف للحوت لأن الحوت بلعه، وهو يونس بن مَتَّى.
قال السهيل: هذا مقام ثناء على يونس، ولذا عبر عنه بذو، بخلاف:
{ { ولا تكن كصاحب الحوت } والإضافة بذو أشرف من الإضافة بصاحب؛ لأن ذو تضاف إلى التابع وصاحب يضاف إلى المتبوع. انتهى. ولعل هذا غير لازم، وهو نبى من أهل نِينَوِى.
{ إذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا } لقومه أى غضبان عليهم غضبا شديدا، مما قاسى منهم من التكذيب وغيره، ولم يؤذن له فى ذلك سئم بقومه، وذهب عنهم غضبا، قبل أن يؤمر.
وقيل: وعدهم بالعذاب غدا، ولم يأتهم العذاب غدا لقوتهم، ولم يعرف بذلك، وظن أنه يقال فيه: كذب.
وغضب من حيث بلغه تكذيبهم إلى هذا المقام ولم يقل: غضبان، بل مغاضبًا؛ لأن مفاعِل والتفاعُل يستعمل كثيراً للمغالبة، فاستعمل منه مفاعِل هنا، قصدا للمبالغة، أو الألف للتعدية؛ لأنه أغضبهم بالمهاجَرة، لخوفهم لحوق العذاب، كما يقال: ماشيْتُه وسايرتُه.
وقرأ أبو شرف مغضبًا بفتح الضاد. ونقل عنه أبو حيّان مغاضَبا بفتحها.
{ فظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ } لن نقضى عليه ما قضينا، من حبسه فى بطن الحوت. ويدل لهذا أنه قرأ الزهرى والحسن نُقَدِّر بضم النون وفتح القاف وتشديد الدال.
وقرئ نَقْدِر بفتح وسكون القاف وكسر الدال.
وقرأ يعقوب بالياء والبناء للمفعول.
وقرئ بالياء والبناء للمفعول مع التشديد. وفاعل ذى الياء ضمير الله، ونائبه: عليه.
وقيل فى المعنى: ذلك هو التضييق، أو تقدير الله عليهم عقوبة، أو المراد أنه ظن أن لن تعمل فيه قدرتنا.
وقيل: ذلك من المجاز المركب لاستعارى، مُثّلت حاله بحال من يظن أنه لن يقدر الله عليه، فى مراغمته قومه، من غير انتظار لأمرنا، أو وسوس له الشيطان: أنه لا يقدر عليك ولم يتبعه، ولا كاد يتبعه، أو يقبل وسوسته، ولكن سميت ظنًّا، للمبالغة والتغليظ عليه، حيث ذهب ولم يؤمر، بل أمر قبل ذلك بالصبر على دعائهم، وظن أن ذلك يسوغ له، إذ لم يفعل إلا غضبًا لله تعالى وبغضًا للكفر وأهله. وتلك المعانى كلها، يقبلها التخفيف والتشديد.
وإذا رأيت التشديد مستغنى عنه فاجعله لموافقة التخفيف، أو للتوكيد.
وخص بعضهم التفسير، بأنه ظن أن لن تعمل فيه قدرتنا والتفسير بالمجاز المركب والتفسير بالوسوسة بقراءة التخفيف. وممن فسر الآية بالقَدْر لا بالقُدرة ابن عباس. رُوى أنه دخل على معاوية. فقال معاوية لقد ضربتنى أمواج القرآن البارحة فغرقتُ، فلم أجد لنفسى خلاصا إلا بك.
قال: وما ذاك يا معاوية؟
فقرأ الآية فقال: أوَ يظن نبى الله أن لا يقدر عليه الله؟
قال: هذا من القَدْر لا من القُدرة.
وزعم بعضهم أنه غضب لأن العذاب لم ينزل عليهم، وهو باطل؛ لأن فيه طرفا من معاداة الله. وإنما فر سآمة وغضبًا لدين الله - كما مر - أو خشية أن ينسب إليه الكذب، أو يعمه العذاب، ولم يؤمر. فذلك ذنبه.
وعن ابن عباس: إن يونس وقومه يسكنون فلسطين، فغزاهم ملك نسبّه منهم سبعة أسباط ونصف، وبقى سبطان ونصف، فأوحى الله إلى أشعياء النبى: أن سر إلى حرفيا الملك، وقل له يوجه نبيًّا قويا، فإنى ألقى فى قلوب أولئك حتى يرسلوا معه بنى إسرائيل، ففعل.
فقال الملك: فمن ترى؟ وكان فى مملكته خمسة أنبياء.
قال: يونس؛ لأنه قوى فدعاه الملك، وأمره أن يخرج.
فقال: هل أمرك الله بإخراجى؟ وهل سمانى لك؟
قال: فها هنا أنبياء أقوياء غيرى.
فألحوا عليه، فخرج مغاضبًا للملك والأنبياء وللقوم، وأتى بحر الروم فركبه.
وقيل: خرج من قومه لما لم يؤمنوا، وكان عندهم عادة أن يقتلوا الكاذب.
وقيل: اعتادوا هذا بعد إيمانهم.
وعن ابن عباس: أتى جبريل يونس فقال: انطلق إلى أهل نينوى فأنذرْهم فقال: ألتمس دابة.
قال: الأمر أعجل من ذلك. فغضب وانطلق إلى السفينة.
قال وهب: كان فى خُلُق يونس ضيق، فلما حمل أثقال النبوة تَفَسَّخ تحتها، تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل، فقذفها من يده، وخرج هاربًا منها. ولذلك أخرجه الله من أولى العزم؛ إذ قال لنبيه:
{ { فاصبر كما صبر أولو العزم } وقال: { ولا تكن كصاحب الحوت } }. وزعم بعض أن الشيطان استزله حتى ظن أن الله لا يقدر عليه، وهو قول منكر.
ولبث فى بطن الحوت عشرين يوماً بلياليها.
وقيل: سبعة أيام.
وقيل: ثلاثة.
وقيل: أربع ساعات.
وقيل: إن الحوت ذهب حتى بلغ تخوم الأرض السابعة. وتاب إلى الله، وراجع نفسه فى بطن الحوت.
وروى أنه طال عليه تكذيبهم، فأوحى الله إليه: أن العذاب يأتيهم يوم كذا وكذا. فلما دنا الوقت تنحى عنهم. ولما كان قبل الوقت بيوم، جعل يطوف بالمدينة يبكى ويقول: يأتيكم العذاب غداً، فسمعه رجل فانطلق إلى الملك، فأخبره أنه سمع يونس يبكى، ويقول كذا.
فدعا الملك قومه، وأخبرهم. فقال: إن كان هذا حقًّا فسيأتيكم غداً. فاجتمِعوا حتى ننظر. وخرجوا غداً، فنظروا فإذا بظلمة وريح شديدة أقبلتا، فعرفوا الحق، ولبسوا الشَّعَر، وجعلوا التراب والرماد على رءوسهم تواضعًا لله وتضرعًا، وبكوا وآمنوا. فصرف الله عنهم العذاب. فاشترط بعضهم على بعض: ألا يكذب أحد كذبة إلا قطعنا لسانه.
فجاء يونس من الغد، فنظر فإذا المدينة على حالها، والناس داخلون وخارجون فقال: كيف ألقاهم بوجه كاذب.
فأتى إلى ساحل البحر، فمرت سفينة، فأشار إليهم، فحملوه وهم لا يعرفونه فقبع فى ناحية منها فرَقد، فما مضوا إلا قليلا حتى جاءتهم ريح كادت السفينة تغرق.
فاجتمعوا فقالوا: أيقظوا الرجل ليدعوا معنا فأيقظوه. فدعا معهم، فرفع الله تلك الريح، وعاد لمكانه فعادت الريح، فكادت السفينة تهلك، فأيقظوه فدعوا فزالت الريح فتفكر فقال: هذا من خطيئتى.
فقال لهم: شدونى وثاقا، وألقونى فى البحر فقالوا: لا نفعل، وحالك ما نرى، ولكن نقترع. ففعلوا، فجاءت له، وقالوا: لا حتى تعيد، فأعادوا، فجاءت له.
فانطلق إلى صدر السفينة ليلقى نفسه، فإذا بحوت فاتح فاه. فانطلق لجانب آخر، فإذا فيه الحوت، فألقى نفسه. فأوحى الله: إنى لم أجعله لك رزقا، بل جعلت بطنك له سجناً، فلا تكسرن له عظمًا، ولا تقطعن له شَعرًا، فبقى فى بطنه.
قال الشيخ هود: أربعين ليلة.
{ فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَنْ } مخففة من الثقيلة، اى بأن أو تفسيرية { لا إِلَهَ إلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } فى ذهابى من غير أن تأمرنى، أو فى غضبى لنفسى أن أسمَّى كاذبا.
والمراد بالظلمات: الظلمات المتكاثفة فى بطن الحوت.
وقيل: ظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، وظلمة البحر.
وقيل: بلع حوته حوتا أكبر منه، فهو فى ظلمتى بطن الحوتين، وظلمةِ البحر.
"وعنه صلى الله عليه وسلم: دعوة أخى ذى النون:{ لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين } ما دعا بها مؤمن، أو قال: مسلم، إلا استجيب له" .
وعنه صلى الله عليه وسلم: "أيما مسلم دعا بها فى مرضه أربعين مرة، فمات فى مرضه أُعطى أجر شهيد، وإن برئ، برئ وقد غفر له جميع ذنوبه" .
ومصداق عموم بركة هذا الدعاء لكل مسلم دعا به: { { وكذلك ننجى المؤمنين } كما روى عنه صلى الله عليه وسلم.
"وروى أنه هَوَى به الحوت إلى مسكنه أسفل البحر، وسمع يونس فيه حسًّا فقال فى نفسه: ما هذا؟
فأوحى الله إليه: هذا تسبيح دواب البحر، فسبَّح هو بالدعاء المذكور.
فسمع الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة، وفى رواية: صوتا معروفا فى مكان مجهول.
فقال: ذلك عبدى يونس، عصانى فحبسته فى بطن الحوت.
فقالوا: العبد الصالح الذى كان يصعد منه كل يوم وليلة عمل صالح؟
قال: نعم. فشفعوا له عند ذلك"
.
"وروى أنه سجد فى بطن الحوت، حين سمع تسبيح الحوت" .
"ورأى بعضهم النبى صلى الله عليه وسلم فى النوم. فقال: يا رسول الله لى حاجة إلى الله، فبماذا أتوسل إليه؟
فقال: مَن كانت له حاجة إلى الله تعالى فلْيتوضأ، وليسجد وليقل فى سجوده أربعين مرة، ويشير بأصبعه: { لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين } فإنه يستجيب دعوته"
.
وعنه صلى الله عليه وسلم: "اسم الله عز وجل الذى إذا دُعِىَ به أجاب، وإذا سُئل أعطى: دعوة يونس بن مَتَّى" .
وقالوا: مَن كتبها فى جلد ظبى وعلّقها فى وسطه ونام، فإنه لا يستيقظ حتى يقلع عنه الكتاب. وهذا يصلح لمن طال سهره لكفرة وخوف، أو نحوهما.