التفاسير

< >
عرض

حَتَّىٰ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ
٩٦
وَٱقْتَرَبَ ٱلْوَعْدُ ٱلْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يٰوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ
٩٧
-الأنبياء

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ } حتى حرف ابتداء لإجازته على الصحيح وهى راجعة إلى حرام، أو إلى { { لا يرجعون } إو إلى محذوف دل عليه ذلك. وفيها غاية، وهو مرادى بقولى: راجعة إلى حرام الخ، أى هى غاية لقوله: حرام، أى يدوم الإهلاك، أو عدم الرجوع إلى ذلك الوقت. فإذا كان ذلك الوقت، وقامت القيامة رجعوا.
وقرئ يأجوج ومأجوج بالهمز.
وقرأ ابن عامر ويعقوب بالتشديد للتاء.
ويأجوج ومأجوج: قبيلتان، والاسمان أعجميان، ويقدر مضاف، أى فتح سد يأجوج ومأجوج، وهما تسعة أجزاء: يأجوج، ومأجوج، وسائر الناس جزء.
وروى أن يأجوج ومأجوج كل يوم يشرفون على فتح السد.
روى: حتى إنه لَيُرَى ضوء الشمس، فيقولون: غداً نفتح، أو يقوله رئيسهم ولا يقولون: إن شاء الله. وإذا كان الغد وجدوه مردوداً كما كان. وإذا أمر الله بفتحه ألقى على لسان أحدهم أو كبيرهم: غداً نفتحه - إن شاء الله - فيجدونه غير مردود فيفتحونه.
قال الإمام القرطبى: كلما حفروه وجدوه من الغد أقوى مما كان. وإذا خرجوا تحصن الناس منهم فى حصونهم، ويرمون بسهامهم إلى السماء، فيرجع عليهم الدم فيقولون: قهرنا أهل الأرض، وغلبنا أهل السماء، فيبعث الله نَغَفَا فى رقابهم فيقتلهم.
وروى: فى أقفائهم. والنَّغَف: دواب. قال صلى الله عليه وسلم:
"والذى نفسى بيده إن دواب الأرض تَشْكَر شَكْرًا من لحومهم" ، أى تَسْمَن. قال كعب: إنهم ينقرون السد بمناقرهم. والظاهر أن المراد مناقر حديد يخدمون بها لا مناقر فى أفواههم.
قال: وإذا خرجوا أتى أولهم الحيرة أوسطهم فيلحسون الطين ويأتى آخرهم فيقولون: قد كان هنا ماء. وإذا قتلهم النَّغَف نتنت الأرض من لحومهم، ثم يبعث الله عليهم طيرا تلقيهم فى البحر، فيرسل الله السماء أربعين يوما فتنبت الأرض، حتى إن الرمانة تُشْبِع السكن. قيل: وما السكن؟ قال: أهل البيت.
وعن أبى سعيد الخدرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"يفتح يأْجوج ومأْجوج، فيخرجون كما قال الله تعالى" .
{ وَهُمْ } أى يأْجوج ومأْجوج.
{ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ } ما ارتفع من الأرض.
وقرأ ابن عباس: جدث أى قبر وبنو تميم يسمون القبر جَدَثًا.
{ يَنْسِلُونَ } يسرعون.
وقرئ بهمس السين.
وقيل: الضميران للناس، يخرجون من قبورهم. ونص قراءة ابن عباس جدث وهى أيضًا قراءة ابن مسعود والصحيح الأول، للحديث المذكور. وتمامة: إنهم يعمّون الأرض: ويتحصن المسلمون فى مدنهم مع مواشيهم، حتى إنهم ليرون بالنهر، فلا يذرون فيه قطرة الخ ما مر فيهزون حِرابهم لنحو السماء فترجع بدم، ويرمون بالسهام فترجع به. فيقولون: قد قتلنا أهل الأرض. زاد فيه: فيموتون موت الجراد بعض على بعض بدواب، كنَغَف الجراد، فيصبح المسلمون لا يسمعون حسا، فيقولون: مَن يشرى نفسه وينظر ما فعلوا فيخرج واحد وقد وطن نفسه على الموت فيجدهم موتى، فينادى: أبشروا فقد هلك عدوكم، فيخرجون ويخلون سبيل مواشيهم. فما يكون لهم رعى إلا لحومهم، فَتَشْكَر كأحسن ما شكَرَتْ من نبات أصابته.
وفى الحديث دليل على جواز إطعام النجس للدابة، أو على جواز تركها والشئ النجس.
وعن ابن مسعود - رضى الله عنه -
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقى إبراهيم وموسى وعيسى، فتذاكروا للساعة فسألوا إبراهيم عنها، ولم يكن عنده على شئ منها، ثم موسى كذلك، ثم عيسى فقال: قد عهد إلىَّ فيما دون وَجْبَتِها. فذكر خروج الدجال، وأنه يقتله هو، فيرجع الناس إلى بلادهم، تستقبلهم يأْجوج ومأْجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فلا يمرون بماء إلا شربوه، ولا بشئ إلا أفسدوه، فيجأر الناس إلى الله. فأدعو الله فيميتهم، فتنتن الأرض من ريحهم. فيجأرون إليه، فأدعوه، فيرسل السماء بالماء يلقيهم فى البحر، ثم ينسف الجبال، وتمد الأرض كالأديم، والساعة حينئذ كالحامل تضع ليلها أو نهارها،" كما قال الله تعالى:
{ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ } القيامة. قال حذيفة: لو أن رجلا اقتنى فِلْوًا، بعد خروج يأجوج ومأْجوج، لم يركبه حتى تقوم الساعة، يعنى مُهْرًا.
وعن النواس بن سمعان:
"ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداء، فخفض فيه ورفع، يعنى خفض الصوت ورفعه، من شدة ما تكلم فيه، أو هونِه وقبحِه وعِظَمِ فتنته ثم قال: غير الدجال أخوفنى عليكم إن خرج الدجال وأنا فيكم فأنا حجيجه، وإلا فالله خليفة كل مسلم إنه أعور، وعينه طافية كعنبة. فاقرأوا عليه فواتح الكهف. ويخرج بين الشام والعراق، فيفسد يمينا وشمالا يا عباد الله اثبتوا، ولكنه فى الأرض. أربعون يوما يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم.
قالوا: ويُصلّى فى تلك الأيام الكبار قدر صلوات ما فيها من الأيام المعتادة. ويسرع كغيث استدبرته الريح فيؤمن الناس به. يأمر السماء فتمطر، والأرضَ فتنبت، فتكون هى ودوابهم أحسن ما كانت. وتتبعه أموال الناس، ويمر الخربة، ويقول: أخرجى كنزك فيتبعه. ويضرب شابا، ويقطعه نصفين، ويدعوه فيقبل ضاحكا، فيبعث الله عيسى، عند المنارة البيضاء، شرقى دمشق بين مهرودتين - بإهمال الدال وإعجامها - أى شقتين، أو حُلّتين، أو ثوبى زعفران. أقوال واضعًا كفيه على أجنحة مَلَكين. إذا طأطأ رأسه قَطَر، وإذا رفعه تحدَّر منه كجُمان اللؤلؤ. وكل كافر وجد ريح نفسه مات، ونَفَسُه ينتهى حيث ينتهى طَرْفُه. ويقتل الدجال، ويمسح وجوه قوم عصمهم الله، ويحدثهم بدرجاتهم فى الجنة.
ثم يوحى الله إليه: إنى قد أخرجت عبادا لى لا طاقة لأحد بقتالهم، فأحرز عبادى إلى الطور. فيخرج يأْجوج ومأْجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم ببحيرة طبرية، فيشربون ما فيها، فيمر آخرهم، ويقول: لقد كان هنا ماء، ويكون رأس الثور يومئذ خيرا من مائة دينار، فيرغب هو ومن معه من المؤمنين إلى الله، فيرسل عليهم النَّغَفَ فى رقابهم، فيصبحون فَرْسَى. أى قتلى، جمع فريس، كموت نفسٍ واحدة، فلا يجد الناس فى الأرض موضع شبر إلا ملئ برَوْثِهم وأجزائهم"
.
والنَّغَف: دود يكون فى أنوف الإبل والغنم فيرغب نبى الله والمؤمنون، فيرسل طيرا كأعناق البُخْت، فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطرا لا يكون منه بيت مَدَر أو شَعر، فيغسل الأرض حتى تكون كالمرآة نظافة واستواء، فتكون الرمانة تكفى العصابة ولفحة الإبل الفيلة، ولفحة الغنم الفخذ، ثم يبعث الله ريحا طيبة، فيقبض روح كل مؤمن. ويبقى شرار الناس، يتهارجون كتهارج الحُمُر، فعليهم تقوم الساعة، ولن تقوم حتى يكون الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى، ويأْجوج ومأْجوج، وخسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب. وآخر ذلك نار تخرج من اليمن، تطرد الناس إلى المحشر. ويأْجوج ومأْجوج كلهم لجهنم. صنف كشبر، وصنف كشبرين، وصنف طوله وعرضه سواء، وصنف كإبهام، وصنف كالنخلة السحوق. وهم من ولد يافث بن نوح.
ويأْجوج ومأْجوج أمتان، فى كل أمة أربع مائة ألف أمة، ليس منها أمة يشبه بعضها بعضًا.
وعن الأوزاعى: أنه قال: الأرض سبعة أجزاء: ستة يأْجوج ومأجوج، وجزء سائر الخلق.
وعن قتادة: أرض غير يأْجوج ومأْجوج، اثنا عشر فرسخا للهند والسند وثمانية آلاف للصين، وثلاثة آلاف للروم،وألف فرسخ للعرب.
وأشد يأْجوج ومأْجوج مَن عَرْضُه كطوله، ومنهم مَن طوله مائة وعشرون ذراعا، لا يقوم لهم جبل ولا حديد، ومنهم من يفرش أُذنه، ويتغطى بالأخرى. ولا يمرون بفيل ولا خنزير إلا أكلوه، ويأكلون من مات منهم، ووعاء الولد. مقدمتهم بالشام، وساقهم بخراسان، ويشربون ماء المشرق، ويمنعون من مكة والمدينة وبيت المقدس، ويأْكلون كل ما فيه روح. وليس فى خلق الله من ينمو ويكثر مثلهم، يتداعَون كالحمام، ويعوون كالذئاب ويتناكحون حيث التقوا، ومنهم من له قَرن وذَنَب وأنياب بارزة، يأكلون اللحم بلا طبخ ولا شَوْى ومنهم من طوله أربعة أذرع، ومن عرضه أربعة أذرع، أكثر من طوله، ولبعضهم مخالب.
وعن على: لهم شعور تقيهم الحر والبرد، وآذان عظام، إحداها وبرة يشتون فيها، والأخرى جلدة يصيفون فيها.
وعن كعب: احتلم آدم، فاختلط ماؤه بالتراب فخلقوا منه. قال لأندلسيون: هذا لا يصح، لأن الأنبياء لا تحلم.
وإذا خرجوا عمُّوا الأرض حتى لا يجد الطائر أين يضع أفراخه.
وروى: أنهم يأتون بيت المقدس، ويرمون المؤمنون بالنبل، حتى يعمل الظل فوقهم. ويدعو عيسى ويؤمِّن المهدى والمسلمون، فيهلكون بريح عاصف، تخرج لهم بها خُرّاجات فى مخارجهم.
وعن ابن عمر: الملائكة تسعة أجزاء: الكروبيون، وجزء سواهم. و الإنس والجن تسعة أجزاء الجن، وجزء الإنس تسعة يأْجوج ومأْجوج وجزء سائر الناس.
وفى الحديث: "تسع مائة وتسعة وتسعون إنسانًا إلى النار تعد فيهم يأجوج ومأْجوج كلهم والمشركون، وواحد إلى الجنة من غيرهم، بلغتهم الدعوة قيل: ليلة الإسراء، ولم يؤمنوا، ولا يموت واحد حتى يخلف ألف ولد حملَ السلاح، وكل صنف منهم نشأ منهم.
وروى: أنهم مائة ألف أمة، لا تشبه أمة أمة.
وقال قتادة: اثنتان وعشرون قبيلة. فشدَّ ذو القرنين على إحدى وعشرين، والقبيلة الأخرى غازية. وهم الترك، سموا لأنهم تركوا.
وقال الأوزاعى: هما امتان، كل أمة أربعمائةِ ألف.
وقال ابن عمر: ثلاث أمم لا يحصيهم إلا الله: تأويل، وتارس، ومنسك وإذا خرجوا شربوا ماء البحار العذب والمالح كلها.
وروى: أن الريح التى يهلكهم الله بها يمنية من تحت العرش، ويُحج البيت ويعتمر بعد موتهم.
{ فَإِذَا } الفاء عاطفة، أو زائدة، أو مستأنفة، أو سببية مجردة عن العطف أقوال فيها. قيل: إذا الفجائية، ويجوز كونها رابطة لشرط محذوف، أَى إذا وقع الوعد، وإذا بعدها للمفاجأة، مؤكدة للربط إذا جعلت الفاء رابطة.
{ هِىَ } ضمير القصة عند سيبويه { شَاخِصَةٌ } خبر مقدم، أى حديدة النظر دون أن تَطْرِف. وذلك يكون لنحو الخوف المفرِط، والهول المذهل.
{ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا } أبصار مبتدأ مؤخر، والجملة خير ضمير القصة لا تحتاج لربط؛ لأنها نفسه معنى.
وأجاز الفراء كون هى ضمير المبهم فى الذهن، توضحه الأبصار، وكون الشخوص فعلا للأبصار. وعليه فشاخصة مبتدأ، وأبصار خبر. والجملة خبره - كما مر - أو شاخصة خبر، وأبصار فاعل شاخصة. وابن هشام على الأول.
قال: وأجار الكوفيون والأخفش تفسير ضمير الشأْن بمفرد، وعليه فيجوز كون شاخصة خبر الهى مع أنه ضمير القصة { يَا وَيْلَنَا } أى يقولون: يا ويلنا؟ أو قائلين: يا ويلنا. وصاحب الحال التى هى يقولون، أو قائلين هو الذين ولو كان مضافاً إليه؛ لأن المضاف جزؤه.
{ قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا } أى من هذا اليوم.
{ بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ } أنفسنا بتكذيب الرسل، وعَبَدْنا من لم يتأهل للعبادة.