التفاسير

< >
عرض

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ
٣٦
رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَـاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَارُ
٣٧
-النور

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فِي بُيُوتٍ } متعلق بمحذوف نعت لمشكاة أو حال اي كمشكاة كائنة في بيوت وانما جازت الحالية من مشكاة للوصف بقوله فيها مصباح.
والمشكاة مراد بها ثلاث فاكثر لان الواحدة تكون في بيت واحد والمراد واحدة ويقدر مضاف اي في بعض بيوت أو افراد ذلك لان المراد ماله بهذا الوصف بلا اعتبار وحدة او كثرة ويجوز تعليقه بـ (يوقد) محذوفا أو يوقد في بيوت كذلك مرادا بالمصباح.
والمشكاة ثلاثة فاكثر أو يقدر المضاف ويكون تقييدا للمثل به لما يكون كالبدل أو مبالغة فيه فان قناديل المسجد تكون اعظم أو تمثيلا لصلاة المؤمنين او ابدانهم بالمساجد ويجوز تعليقه بـ (يسبح) فيكون قوله على هذا توكيدا لفظيا ولا يتعلق بـ (يذكر) لان يذكر معطوف على (ترفع) وترفع صلة ان فكأنه هو صلة ومعمول الصلة لا يتقدم على الموصول على الصحيح ومعمول المعطوف لا يتقدم على العاطف ويجوز تعليقه بـ (يسبح) محذوفا مبنيا للمفعول والمراد بالبيوت المساجد بدليل الوصف بقوله { أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ } وقيل المراد مسجد مكة ومسجد المدينة وبيت المقدس.
وقيل: مسجد موضوع على التقوى بنى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما بني مسجد المدينة ووضع الحجر الاسود في موضعه من الكعبة وقد بنى الكعبة ابراهيم واسماعيل عليهما السلام وبنيت بعدهما وجعلاها قبلة وبيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السلام فتلك اربعة مساجد بناها انبياء.
والقول الاول وهو ان المراد جميع المساجد قول ابن عباس قال المساجد بيوت الله في الارض تضيء لاهل السماء كما تضيء النجوم لاهل الارض.
قال ابو ذر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول
"من بنى مسجدا ولو مثل مفحص قطاة بنى الله له في الجنة بيتا"
وعن علي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "من بنى مسجدا من ماله بنى الله له بيتا في الجنة وانما يتقبل الله من المتقين"
وعن كعب: في (التوراة) ان بيوتي في الارض المساجد فمن توضأ واحسن وضوءه وزارني في بيتي اكرمته وحقا على المزور ان يكرم زائره { وَإَذِنَ اللَّهُ } امر ورفع المساجد تعظيمها عن قول ما لا يعني وكلام الدنيا والخناء والنجس والاقذار ولا تقام فيها الحدود ولا توقع فيها مبايعة ولا يحكم فيها أو يحلف وهل يتخاصم فيها عند حاكم وهو من سؤال حق ولا يحكم الا خارجه وجور فيه ايضا اولا قولان وان دخل مسجدا مارا به من باب ليخرج من آخر فصل بينهما بركوع أو دعاء ليخرج عن ان النهي عن اتخاذ المساجد طريقا وجازت فيه مصافحة واخذ سلاح من كضعيف وانفاق على صنع معروف واستخبار عن مطر وسلامة مسافر وموت مفقود ويعزي فيه من امات وليه ويهنئ من ولد له او اشترى شيء أو لبس جديدا أو قدم غائبه أو نحو ذلك ويخطب فيه وينكح ويطلق السنة ويراجع فراجع كتب الفقه.
وقيل: رفع المساجد بناؤها.
وعن الحسن ما امر الله ان ترفع بالبناء ولكن بالتعظيم * { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } عام فيما يتضمن ذكره فتدخل فيه المذاكرة في افعاله والمباحثات في احكامه.
وعن ابن عباس: المراد تلاوة القرآن * { يُسَبِّحُ لَهُ } ينزهه * { فِيهَا بِالغُدُوِّ } في الغدو وهو الصباح واصله مصدر غدا اطلق للوقت ولذا حسن اقترانه بالآصال * { وَالآصَالِ رِجَالٌ } الآصال جمع اصيل.
وقال الصبان جمع أُصُل بضمتين الذي هو جمع اصيلة وهو العشي والمراد تعميم الاوقات وذكر الطرفين كاف في ذلك.
وقرئ (الآيصال) وهو الدخول في الاصيل كالاظهار وهو الدخول في الظهيرة والفعل اصل واظهر.
وقيل: تسبيح الغدو صلاة الفجر وتسبيح الآصال صلاة الظهر والعصر.
وقيل: والمغرب والعشاء.
وقال ابن عباس: صلاة الضحى وصلاة العصر وان ركعتي الضحى لفي كتاب الله وما يغوص عليها الاغواص.
وعنه صلى الله عليه وسلم
"من صلى البردين أي الفجر والعصر دخل الجنة"
وعن ابي أمامه عنه صلى الله عليه وسلم "من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة كان أجره كأجر المحرم بالحج ومن خرج إليه ليصلي الضحى لا يعنيه الا ذلك فأجره كأجر المعتمر وصلاة على اثر صلاة لا لغو بينهما تكتب في عليين" وخص الرجال بالذكر لانهم اولى بعمارة المسجد وعبادة المرأة في دارها خير من عبادتها في المسجد ولانها لا تجب عليها عمارتها ولا جمعة ولا جماعة.
وقرئ (تسبح) بالتاء لتاويل الرجال بالجماعة.
وقرأ أبو جعفر بها مع فتح الباء فالباء في الغدو صلة والغدو نائب والمسبح بفتح الباء هو الله ولكن اسند التسبيح إلى الغدو والاصل اسنادا ايقاعيا لوقوعه فيها وأتت الغدو ولان المراد به اوقات الغدو ولان الآصال جملة أوقات وضم اليها الغدو وكأنه قيل تسبح الاوقات الغدو والآصال والرجال على هذه القراءة فاعل لمحذوف أي يسبح رجال بكسر الباء كما في قراءة ابن عامر وعاصم يسبح بالتحتية وفتح الباء والنائب على هذه القراءة له أو فيها أو بالغدو أو اخذ المجرورات وحده والاول أولى.
وقيل: هذه قراءة ابن عامر وابي بكر وفي القراءتين حذف المسند لكونه مع المسند إليه جوابا لسؤال كأنه قيل من يسبحه فقيل يسبحه رجال وفيها فضل على قراءة الجمهور يكرر الاسناد اسند التسبيح أولا اجمالا إلى احد الظروف في القراءة الاخيرة وإلى الغدو بزيادة بائه في التي قبلها ثم اسند إلى الرجال تفصيلا والاسناد مرتين أوكد وأقوى والاجمال ثم التفصيل وقع في النفس بل الاسناد ثلاثة اثنان جمال احدهما المذكور والثاني المقدر في السؤال وهو قولك من يسبحه فانه سؤال عن تعيين الفاعل والسؤال لا تعيين فيه والاخر تفصيل وهو المحذوف المسند رجال وفضلهما ايضا بوقوع احد الظروف عمدة في الاخيرة ووقع الغدو عمدة في التي قبلها والجميع فضلة في قراءة الجمهور ويكون ذكر فاعل التسبيح كحصول نعمة غير مترقبة لان اول الكلام غير مطمع في ذكره بخلاف ما إذا بني الفعل للفاعل فانه مطمع في ذكر الفاعل ولك تفضيل قراءة الجمهور بسلامتها عن الحذف وباشتمالها على ايهام الجمع بين المتناقضين من حيث الظاهر لان جعل الظروف فضلات يوهم ان الاهتمام بها دون الاهتمام بالفاعل وتقديمها عليه يوهم ان الاهتمام بها فوق الاهتمام به وبان في اطماع أول الكلام في ذكر الفاعل مع تقديم الظروف تشويقا اليه فيكون حصوله اوقع واعز * { لاَّ تُلْهِيهِمْ } تشغلهم * { تِجَارةٌ } اي شراء { وَلاَ بَيْعٌ } والتجارة تعم الشراء والبيع.
والمراد هنا خصوص الشراء لذكر البيع بعدها ويجوز ارادتهما معا فيكون ذكر البيع تخصيصا بعد تعميم لمزيته لانه يتحقق الربح بالبيع فهو ادخل في الالهاء من غيره واما الشراء فالربح فيه مظنون وهو اصل التجارة ومبدؤها.
وقيل: التجارة الجلب وهو الغالب في البيع والشراء.
وقيل: المراد بالتجارة مطلق المعاملة المظنون فيها الربح بولغ بالتخصيص بعد التعميم وبافراد ما هو اهم من انواع التجارة وهو البيع لتحقق الربح به كما مر.
والظاهر ان الآية تحتمل معنيين:
الاول ان المراد لا تجارة لهم ولا بيع اصلا فضلا عن ان يلهوا بهما فهم طرحوا الدنيا كلها وتفرغوا للآخرة بالكلية.
والثاني ان يكون فيها ايماء بانهم ذو تجر وبيع ومع ان التجر مما يلهي عن الاخرة ولا سيما البيع لم يلههم التجر ولا البيع.
{ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } فلهم اوقات يخلون فيها بالذكر فاذا كانوا في تجر وبيع ذكروا ايضا وذكرهم لساني قلبي وقلبي فقط بان يكونوا إذا تعرض لهم حرام في تجر أو بيع تذكروا ان الله حرمه فلا يفعلونه.
وعن عمر رضي الله عنه
" أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يجمع الله الناس في صعيد واحد ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي فينادي مناد سيعلم الجمع لمن الكرم اليوم ثلاث مرات ثم يقول اين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع ثم يقول اين الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله الخ ثم ينادي منادي سيعلم الجمع لمن الكرم اليوم ثلاث مرات ثم يقول اين الحمادون الذين يحمدون ربهم"
وعن ابن عباس: (إذا كان يوم القيامة نادى مناد ستعلمون اليوم من اصحاب الكرم ليقم الحمادون لله على كل حال فيقومون فيسرحون إلى الجنة ثم ينادي ثانية سيعلمون من اصحاب الكرم اليوم ليقم الذين كانت جنوبهم تتجافى عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فيقومون فيسرحون إلى الجنة ثم ينادي ثالثة ستعلمون اليوم من اصحاب الكرم ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع إلخ. فيقومون فيسرحون إلى الجنة).
رواه القرطبي في تذكرته هي كتاب الفه في المشرق بعد هجرته من قرطبة من جزيرة الاندلس لما تغلبت النصارى عليها وقبل ان يأخذوا قرطبة وبعد اخذهم اياها لحقه شيخه إلى المشرق واخبره باخذهم قرطبة وكان شيخه ممن حضر قتال قرطبة.
وروى الشيخ هود ذلك وزاد في كل نوع عند تمام الكلام عليه انه اكثر مما قبله وان النوع الاول قليل.
{ وَإِقَامِ الصَّلٰوةِ } الاصل واقامة بالتاء عوضا عن عين الكلمة أو عن الف افعال على الخلف في المحذوف حذفت التاء وعوضت عنها الاضافة والاصل اقوام بكسر الهمزة نقلت فتحة الواو للقاف فالتقى ساكنان الواو والف فحذفت الواو وهي عين الكلمة حذفت الالف وقيل انه لما نقلت الفتحة قلبت الواو الفا لتحركها في الاصل وانفتاح ما قبلها ولو كان ما بعدها ساكنا فحذفت الالف الاولى وقيل: الثانية وبسطت ذلك في النحو والصرف.
واختار ابن هشام ان المحذوف الثانية لزيادتها وقربها من الظرف وهو مذهب سيبويه والخليل وابن مالك.
وقال الاخفش والفراء: المحذوف الاولى ويقويه تعويض التاء والمعهود ان التاء تعوض عن الاصل وحذف تلك التاء غير مقيس لكنه كثير مع الاضافة.
وقيل: مقيس مع الاضافة وقد حذفت التاء المعوضة عن فاء الكلمة مع الاضافة في قوله واخلفوك عن الامر الذي وعدوا اي عدة الامر ان كتب الف واحد بعد الدال وان كتبت بالغين فجمع غدوة بمعنى ناحية اي اخلفوك نواحي.
قيل: حسن حذف التاء في الآية ذكر إيتاء (بعد) وهما متشاكلان * { وَإِيتَآءِ الزَّكَٰوةِ } المال المفروضة في وقتها لا يؤخرونها عن الحسن وابن عباس وفي رواية عن ابن عباس الزكاة الطاعة وعن سالم عن ابن عمر أنه كان في السوق فاقيمت الصلاة فقام الناس واغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد فقال ابن عمر نزلت فيهم الآية { يَخَافُونَ يَوْمَاً } مفعول يخافون.
{ تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ } الجملة نعت ليوم يعني انهم مع ما هم عليه من الذكر والطاعة خائفون لذلك اليوم لعظمه وهوله وتقلب القلوب تحركها عن مواضعها تتصعد وتتسفل وتقلب الابصار ايضا تحركها عن مواضعها وقيل: تقلب القلوب تغيرها من الهول وكذا الابصار وتفقه القلوب ما لم تكن تفقه وتبصر الابصار ما لم تكن تبصر وترجو النجاة تارة وتيأس اخرى أو تخاف وتنظر الابصار هكذا وهكذا لا يدري من اين يؤخذ به ويؤتى كتابه من اليمين أو الشمال.
وقيل: تقلب القلوب تيقنها بعد شك أو انكار.