التفاسير

< >
عرض

لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَاْذبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
٢١
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ
٢٢
إِنِّي وَجَدتُّ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ
٢٣
-النمل

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً } هو أن ينتف ريشه وذنبه ثم يلقيه في بيت النحل فتلدغه وقال الضحاك: لأنتفن ريشه ولأشدن رجليه ولأشمسنه وقال مقاتل: لأطلينه بالقطران ولأشمسنه وقيل: لأودعنه القفص وقيل: لأفرقن بينه وبين إلفه وقيل: لأمنعنه من جواري وخدمتي وقيل: لأجمعنه مع غير جنسه وعن ابن عباس: لانتفن ريشه فلا يمتنع عن النمل وقيل: لألزمنه خدمة الأقران والأول قول اكثر المفسرين.
{ أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ } بالف بعد اللام الف في كتب المغاربة لوجودها في الامام كذلك ومثل هذا مما هو خلاف قاعدة الخط قد اكتبه على رسمه في كتبهم وقد اكتبه قاعدة الخط وان قلت كيف يجوز له ان يعذبه او يذبحه انتقاما انتفاعا؟ قلت: الطير مأمورة بطاعته مكلفة كتكليفنا لكن لا يعذبها الله بنار الآخرة فبمعصيتها لسليمان استوجبت عقابا كما ذكره سليمان وليس عقابه انتقاما لنفسه ولكن لمجرد الردع لذلك الطائر وغيره عن المعصية والتصرف والانصراف بغير إذن وبذلك يتم ملكه الذي أعطاه الله إياه كذا ظهر لي ثم رأيت والحمد لله مثله لجار الله اذ قال: يجوز ان يبيح الله له ذلك لما رآه فيه من المصلحة والمنفعة كما أباح ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع واذا سخر له الطير ولم يتم ما سخر من اجله الا بالتأديب والسياسة جاز ان يباح له ما سيصنع به.
{ أَوْ لِيَأتِيَنِّي } وقرأ ابن كثير { أو ليأتينني } بنونين أولاهما مشددة مفتوحة.
{ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } برهان ظاهر على عذر والحلف في الحقيقة على التعذيب او الذبح بتقدير عام الاتيان بالسلطان المبين لكن لما اقتضى ذلك وقوع احد الثلاثة ثلث الأمرين بقوله { أَوْ لِيَأتِيَنِّي } كأنه قال والله ليكونن أحد الثلاثة الإتيان بالسلطان المبين او التعذيب او الذبح ان لم يكن الاتيان بالسلطان، ثم دعا العقاب وهو سيد الطير وأشده فقال له: عليَّ بالهدهد الساعة فارتفع حتى رأى الدنيا كالقصعة فالتفت يمينا وشمالا فإذا هو بالهدهد مقبلا من اليمن فانقض العقاب يقصده بسوء فناشده الله وقال بحق الذي قواك وأقدرك عليَّ إلا رحمتني ولم تتعرض لي بسوء وقال ويحك ثكلتك أمك ان نبي الله عليك غضبان وقد حلف ليعذبنك أو يذبحنك ثم طارا متوجهين نحو سليمان عليه السلام فلما انتهى الى العسكر تلقته النسور والطير وقالوا له ويلك أين غبت في يومك هذا فلقد توعدك نبي الله وأخبروه بما قال فقال الهدهد: وما استثنى؟ قالوا: بلا أو ليأتيني بسلطان مبين قال: نجوت اذاً فطار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان وكان قاعدا على كرسيه فقال العقاب: قد أتيتك به يا نبي الله. فلما قرب الهدهد منه رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما إلى الأرض تواضعا لسليمان فلما دنا منه أخذ برأسه فمده اليه فقال: أين كنت لأعذبنك عذابا شديدا أو لأذبحنك؟ فقال الهدهد: أذكر وقوفك بين يدي الله تعالى فارتعد وعفى عنه وما كان وقت غيبته الا قليلا خوفا من سليمان عليه السلام كما قال الله جل وعلا { فَمَكَثَ } بضم الكاف وفتحه وعاصم { غَيْرَ بَعِيدٍ } أي زمانا غير بعيد أي غير طويل فهو ظرف زمان أو الأصل مكثا غير بعيد فهو مفعول مطلق وقدر الله سبحانه مكثه غير بعيد ليعلم كيف كان الطير مسخرا له ولبيان ما أعطي من المعجزة الدالة على نبوته وعلى قدرة الله عز وجل.
{ فَقَالَ أَحَطتُ } أي فجاء فقال أحطت وقرأ ابن مسعود (فمكث ثم جاء فقال احطت) وقرأ أبي (فتمكث ثم قال احطت) وروي انه قال: (احطت) الخ .. بعد ما سأله سليمان عما لقي في غيبته وقرأه بادغام الطاء بإطباق وبغير إطباق.
{ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } الاحاطة بالشيء علما أن يعلم من جميع جهاته لا يخفى منه معلوم أخبره اني علمت ما لم تعلم بنفسك وجنودك نبهه الله على أن في أدنى خلقه وأضعفه علما لم يؤته الله سليمان مع ما أعطاه من علوم كثيرة وحكم ونبوة لتصاغر اليه نفسه وعلمه تصاغرا زائدا على ما عنده من التصاغر ويزداد بعد عن الاعجاب الذي هو أعظم فتنة العلماء وفي ذلك بطلان لقول الرافضة ان الامام لا يخفى عليه شيء ولا يكون في زمانه أحد اعلم منه، وعن عكرمة صرف الله سليمان عن ذبح الهدهد وتعذيبه التعذيب الشديد لبرلك الهدهد بوالديه، وروي انه عذبه عذابا يحتمله مثله ردعا له ولغيره ولم يعذبه عذابا شديدا لاتيانه بسلطان مبين.
{ وَجِئْتُكَ مِن سَبَأ } بالصرف اسما للموضع واسما للحي سمي الموضع أو الحي باسم الأب الأكبر أو المراد الأب على حذف أبي من موضع سبأ أو حيّه وقرأ ابن كثير في رواية البزي وابو عمرو بمنع الصرف لاعتباره البلدة او القبيلة، وعن الحسن سبأ اسم بلدة وكذا قتادة وقرأه بسكون الباء مع الصرف وعلمه وقرأه سبى بألف محذوفة كفتى على الصرف وسبا بالألف على غير الصرف وقرأ قنبل بسكون الهمزة على نية الوقف وذلك كله هنا وفي سورة سبأ والجمهور على ان سبأ اسم رجل ويؤيده ما جاء من حديث فروة رمسيك انه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبأ؟ فقال:
" كان رجل له عشرة أولاد تيامن منهم ستة وتشاءم أَربعة وسميت به مدينة وهي قارب وبينها وبين صنعاء ثلاثة أيام " قال جار الله: ويحتمل ان تراد المدينة والقوم وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان { بِنَبَإِ } هو الخبر العظيم { يَقِينٍ } محقق وبين سبأ ونبأ جناس ناقص لاختلافهما في حرف وهو السين والباء لاحقا لتباعد مخرجي السين والباء مكررا ومرددا ومزدوجا لاتصال اللفظين { إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ } والهاء لسبأ مراد به القبيلة أو لأهله مرادا به الموضع او البلدة وتلك المرأة واسمها بلقيس بنت أسرح ويلقب بالهدهاد وكان ملكا عظيما ولده أربعون ملكا هو آخرهم وملك أرض اليمن وقيل اسمها بلهمة بنت شراحيل بن ذي خدن بن أسرح بن الحارث بن قيس بن صيفي بن سبار بن يشجب بن يعقوب بن قحطان فعلى هذا (أسرح) جدها وقيل بنت مراحيل بن مالك بن الريان وكان أبوها يقول لملوك الأطراف ليس أحدكم كفواً لي فأبى أن يتزوج امرأة من الانس فتزوج جنيه اسمها ريحانة بنت السكن وكان الانس ترى الجن وتخالطهم فولدت له بلقيس لا غير ولا ولد له غيرهما وعنه صلى الله عليه وسلم من طريق أبي هريرة " أحد أبوي بلقيس جني " وقال بعض العمانيين: ان ذلك لم يصح. وقيل سبب اتصاله بالجن حتى خطب منهم: انه كثير الصيد ربما اصطاد الجن على صورة الظباء فيخلي عنهم واصطاد يوما ظبيا فاذا هو ملك الجن فأطلقه وشكره على ذلك فكان صديقا له فزوجه ابنته بعدما خطبها وقيل خرج متصيدا فرأى حيتين يقتتلان بيضاء وسوداء وقد ظهرت السوداء على البيضاء وقتل السوداء وجمل البيضاء وصب عليه الماء فأفاقت وأطلقها ولما رجع الى داره جلس وحده منفردا فاذا معه شاب جميل فخاف منه فقال له لا تخف أنا الحية البيضاء التي أحييتها والأسود الذي قتلته عبد لنا تمرد علينا وقتل عدة منا وعرض عليه المال فقال المال لا حاجة لي به ولكن إن كانت لك بنت فزوجنيها فزوجه ابنته وولدت له بلقيس ولما مات ولم يخلف ولدا غير بلقيس طمعت بلقيس في الملك فبايعها قوم من قومها وعصاها آخرون وملكوا على أنفسهم رجلا كان ابن اخي ابيها وكان خبيثا سيء السيرة حتى انه يمد يده الى حريم رعيته ويفجر بهن ولم يقدر أصحابه على خلعه فأدركت بلقيس الغيرة فأرسلت اليه تعرض نفسها عليه فأجابها وقال: والله ما منعني ان ابتدأ بك بالخطبة إلا الاياس منك. فقالت: والله لا ارغب عنك لانك كفو كريم فأجمع رجالا من قومي واخطبني اليهم فجمعهم وخطبها فقالوا: ما نراها تفعل هذا. فقال لهم: ابتدأتني وأنا احب ان تسمعوا قولها وتشهدوا عليها فلما جاؤوها وذكروا ذلك لها قالت لهم: نعم أجبت الولد ولم أزل أرغب عن هذا فالساعة قد رضيت به فزوجوها منه ولما زفت اليه خرجت في ناس كثير غطوا منازلهم ودورهم ولما جاءته سقته الخمر حتى سكر ثم حزت رأسه وانصرفت من الليل الى منزلها فلما اصبح الناس والملك قتيل ورأسه منصوب على باب داره علموا ان تلك المناكحة كانت مكرا وخديعة منها فاجتمعوا اليها وقالوا لها: انت أحق بهذا الملك من غيرك فقالت لولا العار والشان ما قتلته ولكن عم فساد فأخذتني الحمية حتى فعلت به ما فعلت فملكوها على انفسهم وقيل حزت رأسه وذهبت به الى منزلها ليلا فلما أصبحت أرسلت الى وزرائه فقرعتهم وقالت: أما كان فيكم من يأنف كريمته او كرائم عشيرته؟ ثم أرتهم إياه قتيلا، وقالت: اختاروا رجلا تملّكونه عليكم فقالوا: لا نرضى غيرك فملّكوها. وعن اسماعيل بن مسلم عن الحسن بن ابي بكرة لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ان اهل فارس قد ملكوا على أنفسهم بنت كسرى قال: " لن يفلح قوم ملّكوا عليهم امرأة " .
{ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } يحتاج اليه الملوك من آلة وعدة لائقة بمثلها.
{ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } سرير ضخم عال من الذهب مكلل بالدرر والياقوت الأحمر الزبرجد الأخضر وقوائمه من الياقوت والزمرد وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مقفل قال ابن عباس عرشها ثلاثون ذراعا في كل جهة من الجهات الأربع وطوله من في السماء ثلاثون ذراعا وقيل ثمانون في السماء وطوله في غير السماء ثمانون في ثمانين وقيل طوله ثمانون وعرضه اربعون وارتفاعه ثلاثون ذراعا وقيل مقدمه من ذهب مفصص بالياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر ومؤخره من فضة مكلل بأنواع الجواهر وله أربع قوائم قائمة من ياقوت أحمر وقائمة من ياقوت أخضر وقائمة من ياقوت أصفر وقائمة من زمرد أصفر وصفائح السرير من ذهب وانما استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان بالنسبه اليها أو لأن مثله لم يكن لسليمان مع ان ملكه أعظم. قال الشعبي: يروى أن بلقيس لما ملكت أمرت ان يجلب اليها خمس مائة اسطوانة طول كل اسطوانة خمسون ذراعا وأمرت بها فنصبت على تل قريب من مدينة صنعاء وجعل بين كل اسطوانتين عشرة اذرع ثم جعلت فيها سقفا مبسوطا بأنواع الرخام وألحم بعضها الى بعض بالرصاص حتى صارت كلها لوحا واحدا ثم بني فوق ذلك قصر مرتفع من ذهب وفضة مرّصع بأنواع الجواهر الرفيعة وجعلت فيه شراريف مطلية بماء الذهب الاحمر مفصصة بأنواع الجواهر الرفيعة وكانت الشمس اذا طلعت على ذلك القصر التهب الذهب والجواهر كالتهاب النيران يغشى العيون وتحير فيه الأبصار وجعلت باب القصر ما يلي باب المدينة بدرج من الرخام الأبيض والاحمر وفي جانبها حجر لحجابها وبوابها وخدمها وحشمها قدر مراتبهم.