التفاسير

< >
عرض

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْفَاسِقُونَ
١١٠
-آل عمران

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }: أصل كان أن تستعمل لما وجد وانقطع، وكثر استعمالها فى الاستمرار، فإذا لم يكن دليل الاستمرار حملت على الأصل، وهو الانقطاع، ودليل الاستمرار هنا حالى، وقيل: وضعت كان وحدها من دون الأفعال الماضية لمجرد وجود الشىء فيما مضى، ولا دلالة لها على الاستمرار ولا على الانقطاع، وإنما تحمل على أحدهما بدليل، والدليل هنا على بقاء الخيرية إلى الآن، وإلى قيام الساعة حالى ومقالى، والمقالى ما وردت الأخبار فى تفضيل هذه الأمة. وأما ثبوت خيريتها فيما مضى فقيل: هو أنهم كانوا فى علم الله بلا أول لهُ خير أمة وعلمه مستمر، لا آخر له أيضاً، وأيضاً الأصل فى الثابت الممكن الاستمرار وقيل: إنهم كانوا فى اللوح المحفوظ خير أمة. وقيل: كانوا بين الأمم المتقدمين خير أمة موصوفين عندهم بأنكم خير أمة. وقيل: المعنى صرتم بالأمر والنهى الآن خير أمة، أى خير خلق الله كلهم. وقيل: كان زائدة أى أنتم خير أمة، والجملة مستأنفة فى المدح والإغراء، منقطعة، عما قبلها، وقيل: هى على تقدير القول متصلة بقوله { وأما الّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهم } أى يقال لهم عند دخول الجنة: كنتم فى الدنيا خير أمة فلهذا ابيضت وجوهكم وصرتم إلى النعيم الخالد، والخطاب لأمة محمد، صلى الله عليه وسلم، المؤمنين.
وعن ابن عباس: الخطاب للذين هاجروا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال الضحاك: للصحابة. قيل العموم للأمة المؤمنين كلهم أولى. وبه قال الحسن، ويدل لهُ كونهم شهداء على الناس. وروى أن مالك ابن الصيف، ووهب ابن يهوذا اليهوديين، قالا لعبد الله بن مسعود، وأبى بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسلام مولى حذيفة: نحن أفضل منكم وديننا خير من دينكم الذى تدعونا إليه فنزلت الآية ويكون مؤمنوا هذه الأمة فاضلوها ومفضولوها خيراً من مؤمنى الأمم الماضية، فلا يشكل على التعميم ما رواه عمران بن حصين: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال
"خير الناس قربى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتى من بعدهم قوم يشهدون ولم يستشهدوا، ويأتمنون ويخونون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمين" وروى: يحلفون ولا يستحلفون. وما روى عن ابن مسعود رضى اللهُ عنه عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم "خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجىء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته" لأن الحديثين فى تفضيل بعض الأمة على بعض، والآية تفضيل لها لها على غيرها، ثم إنهُ ليس المراد أن الأمة فى هؤلاء الذين ذمهم، بل يأتى بعدهم من هو خير من سبعين رجلا، كأبى بكر عمر، لأنهم لا يجدون على الخير أعواناً، كما فى الحديث، وقد قال أيضاً، صلى الله عليه وسلم، من رواية أنس "مثل أمتى كمثل المطر، لا يدرى آخره خير أم أوله" وهذا قبل أن يعلم من كون قون خير من قرن بعده، وأنه يأتى من هو خير من السبعين، ثم إنه قد يقال من أراد التخصيص بالصحابة أو المهاجرين إنما أراده لفظاً، ويحم لمن فعل الخير من الأمة، وأمر ونهى بحكمهم، كما روى عطاء عن ابن عباس رضى الله عنه: أن الآية فى الصحابة ولكنها عامة فى الأمة، ويدل للتعميم "ما رواه بهن بن حكيم عن أبيه عن جده أنهُ سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول: فى قوله تعالى { كُنْتُم خَيْر أمةٍ أخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }: أنتم تتمون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى" . وروى ابن جبير عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه: لو شاء الله لقال أنتم فكنا كلنا، ولكن فى خاصة من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن صنع مثل ما صنعوا؟ كانوا خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، فتراه قال: ومن صنع مثل ما صنعوا؟ وفى الحديث رد على من قال بزيادة كان مع أن الأصل أيضاً عدم زيادتها، وعن أبى سعيد الخدرى عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابى فلو أن أحداً أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" أى نصفه، يعنى إلا ما ذمه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أو ظهر منه موجب البراءة فإنه يبرأ منه، فإنه لا شىء أعظم من حكم الله، فنترك حكم الله له. وعن أبى هريرة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "أمتى يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: ومن يأبى؟ قال: من أطاعنى دخل الجنة ومن عصانى فقد أبى" . قال عمر: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يجمع أمتى - أو قال - أمة محمد على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ فى النار" . يعنى أنهُ لو اجتمع الناس عل ضلالة لكان واحد منهم ولا بد على حق يخالفهم فى الضلالة، فهو الجماعة حينئذ، فلو اجتمع أهل الدنيا على ضلالة، فلا بد أن يكون واحد ولو من قومنا على هدى فى تلك المسألة، واجتماع الأمة على ضلالة، أن يكون الموحدون كلهم فى عصر واحد على ضلالة فى شىء من الفروع، أو الأصول، وليس الاجتماع على الضلالة أو يجتمع ثلاثة وعدد مخصوص، أو أهل بلد أو قبيلة أو أهل بلد أو نحو ذلك فقط. قال أبو موسى الأشعرى قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "أمتى أمة مرحومة ليس عليها عذاب فى الآخرة، وعذابها فى الدنيا الفتن والزلازل والقتل" يعنى أن مؤمنى أمته لا عذاب عليهم فى الآخرة، وكفارة ذنوبهم ما يصيبهم فى الدنيا من الفتن والزلازل والقتل، لا مسخ، ولا قذف، ولا خسف، ولا تصيب الثلاثة أيضاً سائر أمته منافقيها ومشركيها.
وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:
"أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون منها من هذه الأمة، وأربعون من سائر الأمم" . وعن ابن عمر، عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "باب أمتى الذى يدخلون منه الجنة عرضه مسيرة الراكب المسرع المجد ثلاثاً، ثم إنهم يزدحمون عليه تكاد مناكبهم تزول وهم شركاء الناس فى سائر الأبواب" . وعن أبى سعيد الخدرى قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "من أمتى من يشفع فى الكثير من الناس ومنهم من يشفع فى القبيلة، ومنهم من يشفع للعصبة، ومنهم من يشفع للواحد" وقال سهل بن سعد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "ليدخلن الجنة من أمتى سبعون ألفاً، أو سبعمائة ألف سماطين، يأخذ بعضهم ببعض حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر" . وقال أبو أمامة سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقول: "وعدنى ربى أن يدخل من أمتى الجنة سبعون ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب، ومع كل ألف سبعون ألفاً، وثلاث حفنات من حفنات ربى" وحفنة الله: مقدار معلوم عند الله تبارك وتعالى، وقال صلى الله عليه وسلم: "حرمت الجنة على الأنبياء كلهم حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتى" وجملة أخرجت للناس: نعت أمة، أى أظهرت للناس تميزت لهم فعرفوها، أو أخرجت من الناس، وقيل: { للناس } يتعلق بـ { كنتم }، أى كنتم للناس خير أمة أخرجت. كما قال أبو هريرة فى تفسير الآية: خير الناس للناس، يأتون بهم فى السلاسل فى أعناقهم حتى يدخلوا فى الإسلام.
{ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه } بيان لعلة كونهم خير أمة، أى لأنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله، فجملة { تأمرون } مستأنفة لبيان علة ذلك، لأن الأمر والنهى والإيمان بالله ولو كان أيضاً فى غير هذه الأمة، لأن ذلك فى هذه الأمة أقوى وأخلص، ولأن ذلك الأمر والنهى يكون بما دون القتل من كلام وضرب وحبس وبالقتال، والقتال ولو كان فى غير هذه الأمة لكنه فى هذه أقوى. وإيمان هذه الأمة بالإدراك للدليل لا بالتقليد، فى الكثير لا القليل، ويجوز كون { تأمرون } خبراً ثانياً لـ { كنتم }، أو حلال من التاء فى { كنتم }، وإنما أخر ذكر الإيمان عن ذكر الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع أنه أعظم، ليدل بتأخيره على أنهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر إيماناً بالله وتصديقاً به، وإظهاراً لدينه لا لبغض المأمور أو المنهى، ولا لحبه فى غير الله، ولا لجلب نفع دنيوى، ودفع ضر دنيوى، أو المراد بالإيمان بالله الإيمان به تعالى من كل وجه، من وجه وجوده، وكمال قدرته، وتنزهه عن صفات الخلق، ووجه إرساله وإنزاله الرسل، والكتب والحساب، والعقاب، والثواب، وبعث الأجساد والأرواح لا الأرواح فقط، لا كإيمان اليهود والنصارى، يؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض، وتقول النصارى: ببعث الأرواح فقط، وقالت اليهود: عزير ابن الله - تعالى الله - وقالت النصارى المسيح ابن الله، وقالت جماعة منهم: ثالث ثلاثة، وجماعة: إن الله هو المسيح، ودلت الآية على أن الإجماع حجة، لأنها تقتضى أنهم آمرون بكل معروف، وناهون عن كل منكر، لأن "أل" فيها للاستغراق فلو أجمعوا على باطل كان أمرهم على خلاف ذلك، ذكره القاضى.
{ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ }: لو آمن اليهود والنصارى بمحمد، وما جاء به كله، ومن ذلك أن يأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر، لكان إيمانهم خيراً لهم، أى منفعة لهم، دنيوية وأخروية ويجوز أن يكون اسم تفضيل باعتبار دعواهم أنهم على صواب من دينهم ودنياهم، وباعتبار ما أحبوه من رياسة ومال، أى لكان إيمانهم خيراً لهم مما هم عليه إذ زعموا أن ما هم عليه حسن، ومن الرياسة والأموال التى يأخذون، وذلك أنه تحقن دماءهم وأموالهم وذريتهم ويكون لهم ما للمسلمين والجنة، لو آمنوا لكنهم أحبوا الرياسة وأخذ الأموال على المداهنة والتحريف والتسهيل، والمراد: عامة أهل الكتاب لقوله تعالى:
{ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }: أى بعضهم القليل موفون بدين الله، آمنوا بمحمد وما جاء به واتبعوه، كعبد الله بن سلام، وأخيه ثعلبة بن سعية، وصهيب، وأكثرهم الكافرون الجامعون بين ما هو شرك وما هو كبيرة، دون الشرك، وذكر الفسق تأكيد لخروجهم عن الإيمان والإسلام، فإن المشرك قد يكون عدلا فى دينه، وهؤلاء مع شركهم خارجون عن العدل، وما يستحسن، وقوله { مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } وقوله: { لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ }.