التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ ٱلْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَىٰ طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ ظَنَّ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِيۤ أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَٰهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
١٥٤
-آل عمران

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ }: أنزله الله عليكم، بعد اغتمامكم فى الهزيمة والقتل والجراح، وغير ذلك، أما نازال به الخوف، غطى طائفة عظيمة الشأن منكم راسخة الإيمان، بأن حزموا يومئذ لا شك فيهم، قيل فى أمرهم بأن هذه الغلبة لا تدوم ولا تستأصل المؤمنين تصديقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينصر هذا الدين على غيره" وبلغ بهم الأمن حتى غشيهم النعاس، قال أنس ابن أبى طلحة غشينا النعاس، ونحن فى مصافنا يوم أحد، فجعل سيفى يسقط من يدى وآخذه، رواه البخارى ومسلم بسندهما، ونحوه عن ابن مسعود والزبير ورواه الشيخ هود هكذا قال أبو طلحة: أنا يومئذ فيمن غشيه النعاس فجعل سيفى يسقط من يدى فآخذه ويسقط فآخذه. وهو كذلك أيضاً فى نسخة عن البخارى، وعن أنس بن أبى طلحة: رفعت رأسى يوم أحد فجعلت أراهم وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت حجفه من النعاس، فذلك قوله تعالى { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً } قال الخازن: وقال الزبير بن العوام لقد رأيتنى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد علينا الخوف، فأرسل الله علينا النوم والله إنى لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشانى، ما أسمعه إلا كالحلم، يقول: لو كان لنا من الأمر شىء ما قتلنا ها هنا، وأمنة، مفعول به لأنزل ونعاساً، بدل اشتمال، والرابط محذوف، أى نعاساً منها، أو لأجلها، ووجه الاشتمال أن النعاس سببى للأمنة، لأنه يتولد منها، ويجوز أن يكون نعاس مفعولا به، لأنزل، وأمنة مفعول لأجله، على أنها فعل الله، بمعنى الإيمان أى تصيرهم آمنين فهى اسم مصدر أمن، فقد اتحد الفاعل ويدل لهذا قوله { إِذ يغشيكم النعاس أمنة منه } وأجاز بعض أن يكون أمنة، حالا من نعاس، ونعاس مفعول به، ولو كان نعاساً ليس نكرة لتقدم أمنة عليه، وهو حمل على جعل المصدر حالا مع أن النعاس ليس أمنة، كما أن راكباً فى جاء زيد راكباً هو زيد، إلا أن يقال أمة اسم مصدر بمعنى مؤمن، فحينئذ يكون النعاس مؤمناً لهم، أى مزيلا لخوفهم مجازاً، ويجوز أن يكون أمنة حالا من كاف عليكم، وهو مصدر بمعنى الوصف أى آمنين أو يقدر مضاف، أى ذوى أمن أو جمع آمن ككامل وكملة، أو مبالغة كأنهم نفس الأمن ونعاساً مفعول به، والمعنى مختلف بالإعراب فعلى أن أمنة مفعول لأجله، ونعاساً مفعول يكون المعنى أن الأمن حصل لهم النعاس لما نعسوا اضطرارا من الله جل وعلا، وصحوا وصاروا آمنين، وهكذا كنت أفسر الآية وكذا إن جعلنا آمنة حالا، فإما مقدرة، فالأمن بعد النعاس مسبب عن النعاس ومقارنة أو ماضية، فهو معه أو قبله وقرأ أمنة بفتح الهمزة، وإسكان الميم وهو مرة من الأمن. وقرأ حمزة والكسائى: تغشى بالتاء الفوقية، على أن المستثنى فيه عائد إلى أمنة، والجملة نعت لها، وعلى قراءة الجمهور نعت نعاساً.
{ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ }: الواو للحال، والجملة حال من طائفة، الأول ولو نكره لوصفه بمنكم، وصح جعل طائفة مبتدأ لتقدم واو الحال، وقد اهمتهم أنفسهم خبر، ويجوز أن تكون فداهمتهم أنفسهم نعت طائفة، والخبر محذوف، أى ومنهم طائفة، فالمسوغ تقديم الخبر الظرفى والوصف، أو الخبر جملة يظنون أو هذه نعت ثان، أو حال من هاء أهمتهم، أو مستأنفة على البيان للجملة قبلها أو الخبر يقولون بدل من يظنون، وهذه الطائفة منافقون منهم معتب بن قشير، وقد تقدم كلامه قريباً، وعبد الله بن أبى سلول، ومعنى أهمتهم أنفسهم: أوقعتم فى الهم، لقد ثقتها بقول الله ورسوله، إن النصر للمؤمنين بعد أو شغلتهم أنفسهم بأمرها أو هذه الطائفة بقيت خائفة، ولم يغشها النعاس.
{ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ }: الظن هنا متعد لواحد، أى يتوهموا غير الحق بالله، وبالله متعلق بيظنون أو لاثنين، والثانى بالله، أى فى الله، وذلك أنهم يظنوا أن الله لا ينصر محمداً، وأصحابه، أن دين الإسلام يضمحل وعن ابن عباس: التكذيب بالقدر، ويجوز ان تجعل غير مفعولا مطلقاً، وبالله متعلق بيظنون، أى يظنون بالله غير الظن الحق، ويقدر مفعولا، أى يظنون به أنه لا ينصر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
{ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ }: مفعول مطلق إذا لم تجعل غير مفعولا مطلقاً، وبدل من غير إذا جعل غير مفعولا به، والمعنى: ظن الملة الجاهلية القديمة، وقيل: الفرقة الجاهلية، وهو أبو سفيان ومن معه، والأول للجمهور، وإذا قدرنا مفعولين ليظن كما مر كان قوله:
{ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَىْءٍ }: غير ذلك المظنون، بل كلاماً آخر عن الطائفة مستأنفاً أو خبراً أو نعتاً، وإن لم يقدر له المفعولين المذكورين، بل جعلناه متعدياً لواحد، أو جعلناهما بالله غير الحق، كانت هذه الجملة بأعاريبها هى نفس المظنون، والاستفهام للنفى أى ما لنا من الأمر شىء، أى ما لنا أمر يطاع، لأن عبد الله بن أبى أشار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن لا يخرج من المدينة إلى أحد، كما مر، ولم يأخذ برأيه فقتل من قتل، فقال: هو ومن معه ذلك، وقيل المراد النصر، أى ما لنا من النصر شىء، إنما هو للمشركين، قال قتادة وابن جريج: قيل لعبد الله ابن أبى سلول، قتل بنو الخزرج، فقال: وهل لنا من الأمر شىء. يريد أن الرأى ليس لنا، ولو كان منه شىء لسمع من رأينا، فلم تخرج فلم يقتل منا أحد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يقول الله سبحانه: أنا عند ظن عبدى بى" . وقال ابن مسعود: والله الذى لا إله غيره لا يحسن أحد الظن بالله عز وجل إلا أعطاه ظنه، وذلك أن الخير بيده. وعن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حسن عبادة المرء حسن ظنه" . و{ من الأمر }: حال من { شىء } قدمت ويجوز تعليقه بـ { لنا } أو بما تعلق به لنا، ولنا خبر، وشىء مبتدأ، أو لنا ناب عن فعل الجملة الفعلية، وشىء فاعل، لاعتماد الجار والمجرور على الاستفهام ولو كان شىء مجروراً لأن الجار له صلة للتأكيد، ومن الأولى للتبعيض.
{ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ }: أى أن النصر كله لله، فهو لرسوله لقوله تعالى:
{ كتب الله لأغلبن أنا ورسلى } وللمؤمنين لقوله تعالى: { { وإن جندنا لهم الغالبون } . وقال الله عزوجل: { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } والجملة معترضة بين الحال، وهى الجملة بعد وصاحبها وهو واو يقولون. وقرأ أبو عمر ويعقوب: كله بالرفع على الابتداء ولله خبر، والجملة خبر إن.
{ يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ }: يقولون هل لنا من الأمر شىء، حال كونهم يخفون فى أنفسهم، ما لا يبدون لك، لأنه ولو أراد بقوله: { هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَىْءٍ } إن رأيى لم يؤخذ فإنه ليس مراده، نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أظهر بذلك إرادة نصره، وقيل: معنى { هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَىْءٍ }: هنا لنا مما وعد الله من النصر نصيب فيما بعد أحد؟ فإن ظاهره التصديق وقد أخفى التكذيب، وقيل: يخفون الندم على خروجهم مع المسلمين، وقيل: الجملة مستأنفة فليس { قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ } مفترضاً، فهم يخفون الشرك، وظاهر الإخفاء فى النفس، أنه لم تنطق به ألسنتهم، وتقدم أنه قال بعض هؤلاء بلسانه: { هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَىْءٍ } كما هو ظاهر القرآن، فإما أن يراد بالإخفاء إخفاء غير ذلك مما لم ينطقوا به وإما أن يراد بالإخفاء إخفاء ما نطقوا به عن المسلمين، بأن يذكروه فيما بينهم. وقيل: الذى أخفوه هو الذى ذكر فى قوله تعالى:
{ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا }: هذا مقالة عبد الله بن سلول، وهل لنا من الأمر شىء مقالة معتب بن قشير وأسند كلامها لقومهما، لأنهما فيهما، ولأنهما رئيسان متبوعان. والمراد بالأمر: الحق فى الدين، أى لو كان لنا نصيب من دين الحق، ما قتلنا ها هنا وما قتلنا إلا لكون دين محمدا باطلا، وقيل المراد الرأى. روى أنهم قال: بعضهم لبعض: لو كان لنا عقول لم نخرج مع محمد إلى قتال أهل مكة، ولم يقتل رؤساؤنا، والمراد: أننا حمق كالمجانين فى خروجنا، إذ خرجنا بلا تجويد الرأى بخلاف الرأى المذكور فى قوله تعالى: { لو كان لنا من الأمر شىء } فإن معناه أنه ليس رأينا مأخوذاً. وقيل: لو كان من وعد محمد بالنصر شىء، أو لو كان الأمر كله لله ولأوليائه، وقيل: المراد لو كان الاختيار فى الخروج لنا لم نقتل هاهنا، ولكن خرجنا قهراً، وأسندوا القتل إلى أنفسهم والمقتول البعض، لأن المقتولين بعض منهم، والإشارة بها هنا إلى معركة القتال يوم أحد.
{ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ }: بالمدينة.
{ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ }: أى لظهر بالخروج منها الذين قضى الله عز وجل عليهم القتل، إلى المواضع الشبيهة بمواضع الاضطجاع والنوم وهى المواضع التى يموتون فيها، ويكونون فيها كهيئة المضطجع، ولم يخطئ أحد منهم موضع موته المكتوب عليه، ولم ينج من الموت، فإن قضاءه لا يرد، ولو لم يخرج من لم يقض عليه القتل، ولكن مستحيل بقتضاء الله أن لا يخرج من خرج، وأن لا يموت من قضى عليه الموت.
{ وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ }: عطف على محذوف، دل عليه لبرز الذين، أى لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجهم، لينفذ قضاءه وليبتلى الله ما فى صدوركم، أو لمصالح كثيرة، وليبتلى أو معطوف على لكيلا تحزنوا، أو يتعلق بمحذوف، أى وفعل ذلك ليبتلى الله ما فى صدوركم.
{ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ }: أو يقدر مؤخر، أى وليبتلى الله ما صدوركم { لِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُم } فعل، ذلك معنى الابتداء بها هنا الإظهار، أى لظهر ما فى صدوركم من الإخلاص والنفاق، فظهر منها النفاق، والله عالم به. قيل: وعالم به بعد، وذلك كقوله تعالى:
{ { يوم تبلى السرائر } أى تظهر، وقيل المعنى: ليختبر أولياء الله ما فى صدوركم، فحذف المضاف وأسند فعله تعظيماً له لله تعالى. وعن ابن عباس: التمحيص والابتلاء واحد، أى وهما الظهور، والخطاب للمنافقين. وقيل: الخطاب للمؤمنين. قال قتادة: معنى ليمحص إلخ يظهر ما فى قلوبكم من الشك والارتياب وكذا ليبتلى الله ما فى صدوركم ومعناهما واحد، أو أحدهما بمعنى الإظهار بالظاء المشالة المعجمة والآخر من التطهير بالطاء المهملة أى هذه الوقعة تطهركم من الوسوسة أو تكفر كفارة ذنوبكم.
{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }: وإذا ظهر شاء من قلب عبده فليعلمه غيره أيضاً.