التفاسير

< >
عرض

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ
١٥٩
-آل عمران

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ }: الفا عاطفة على محذوف، أى استحقوا التعنيف، لانهزامهم فلنت لهم برحمة الله والمعطوف لنت، والياء سببية، وما صلة لتأكيد الرحمة، ورحمة: مجرور بالياء، وهذا أولى من أن يجعل ما نكرة تامة مجروراً بالياء، ورحمة بدله والمعنى لنت لهم مع انهزامهم برحمة من الله أعطاكها وجعلها فى قلبك، وتقديم برحمة على لنت مع أنه متعلق به للحصر، وعلى طريق العرب فى تقديمهم ما يهتم به، وقد عظم الله الرحمة فى قلبه، حتى اغتم بما أصابهم مع مخالفتهم له، وانهزامهم إليه الذى يفضى إلى طمع العدو فيه، وفيهم، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء
{ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً }: سىء الخلق، جافى المنطق والفعل.
{ غَلِيظَ الْقَلْبِ }: قاسى القلب، ينبو عن الاحتمال.
{ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ }: لتفرقوا عنك، ونفروا، يقال: انفضت الجماعة، أى افترقت، قال رجل من المسلمين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أحسن الله إلينا الإحسان كله، كنا قوماً مشركين فلو جاءنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بهذا الدين جملة واحدة، فيه جهاد الآباء والأبناء، وتحريم الحرام، والربا والأحكام والحدود لما دخلنا فى الإسلام، ولكنه دعانا إلى كلمة فلما دخلنا فيها وعرفنا حلاوة الإسلام والإيمان قبلنا ما جاء به من الله".
{ فَاعْفُ عَنْهُمْ }: فيما هو فى حقك أو فى مخالفتهم، وانهزامهم يوم أحد.
{ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ }: فيما هو حق الله، أو فيه وفيما هو لك، لأن العفو غير ذلك، وهو أن لا تحقد عليهم، ولا تنتقم منهم.
{ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ }: الذى لم يحده الله وجعل حده وتفضيله إليكم كأمر الحرب، يخرج إليها وقت كذا، أو وقت كذا، وتنزل بمحل كذا، أو بمحل كذا، وهل تكيد بكذا، كما يدل النزول يوم بدر، برأى بعض المسلمين، كما يأتى إن شاء الله، وكما خندق يوم الأحزاب برأى سليمان، وكما شاورهم فى أسارى بدر، وقال الكلبى وأكثر العلماء 8 الشاورة فى الآية إنما هى فى أمر الحرب، على أن فى الأمر للعهد من أمر الحرب، إذ لا يمكن أن تكون للاستغراق، لأنه لا يشاورهم فى أكله أو شربه، كلما أراد، ومباشرته لأزواجه، صلى الله عليه وسلم، وعليهن وما نزل فيه الوحى من الله من حلال وحرام، أو حكم أو حد، والذى عندى أن المراد بالأمر: حقيقة الصالحة للمشاورة لا خصوص امر الحرب، وعلة الأمر بالمشاورة الانتفاع برأيهم، فقد يكون عندهم ما لم يكن عنده، وتطيب قلوبهم والعطف بهم وإذهاب أضغانهم، وكان سادات العرب يشق عليهم عدم المشاورة، إذا لم يشاورهم أحد وتوصله إلى معرفة مقادير عقولهم، وأحكامهم بمشاوراتهم وأن تقتدى أمته به بالمشاورة، وقال الحسن البصرى: ما كان فى الأرض أحسن رأياً من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وما كان له حاجة إلى أصحابه فى مشورة، ولكن الله أراد بذلك، أن يطمئن المسلمون إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمشاورته إياهم، وفى رواية عن الحسن: قد علم الله أنه ما به إلى مشاورتهم حاجة، ولكن أراد أن يستن به، من بعد من أمته، فمجموع ذلك أن الحسن علل المشاورة أن يطمئنوا إليه وأن يقتدى به، والتحقيق التعميم الذى ذكرته أولا وقد قيل: بكل من أوجهه قولا، قالت عائشة رضى الله عنها: ما رأيت رجلا أكثر استشارة للرجال من رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قيل: ما اجتمع قوم يتشاورون فى أمر يعلم الله أنهم يريدون الخير إلا وقفوا لأرشد أمرهم. قال بعضهم: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه فى الأمر، وهو يأتيه الوحى من الله، لأنه أطيب لأنفس القوم، وإن القوم إذا شاور بعضهم بعضاً فأرادوا بذلك وجه الله، عزم الله لهم على الرشاد، وظاهر هذا الأثر أنه يشاورهم فى الوحى، وهذا الظاهر بعيد، وقد أجمعوا أنه لا مشاورة فى الوحى، ووجهه أنه ينزل عليه الوحى، فيقول لهم ما تقولون فى كذا؟ ليعلم هل وافق رأيهم الوحى؟ ويؤيد هذا ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
"أنه أرسل إلى سعد وقد أصيب فى قتال قريظة فجاء على حمار فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم:؛ أشر على فى قريظة؟ فقال: قد عرفت أن الله أمرك فيهم بأمر أنت صانع ما أمرك به. فقال: أشهر على فيهم فقال: لو وليت أمرهم لقتلت مقاتلتهم وسبيت ذريتهم، فقال صلى الله عليه وسلم: بقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات" ، أى بحكمه الذى أتى به على أن يتبع رأيهم، ويترك الوحى، قال على: الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه، والتقدير قبل العمل يؤمنك من الندم قال ابن عرفة: من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب. وهذا مما لا خلاف فيه، وفى المشاورة علم الإنسان بعجزه إذا كان الرأى مع غيره، وإن أخطأ لم يشتد عليه اللوم إذا شاور، ولم يشتد عليه الندم، ومستشار العالم الدين، وقلما يكون ذلك إلا فى العاقل، قال الحسن: ما كمل دين أمرء لم يكمل عقله كما قال قائل:

وشاور إذا شاورت كل مهذب لبيب أخا حزم لترشد فى الأمر
ولا تلك ممن يستبد برأيه فتعجز أو لا تستريح من الفكر
ألم تر أن الله قال لعبده وشاورهم فى الأمر حتما بلانكر

{ فَإِذَا عَزَمْتَ }: يا محمد على المشاورة، أو على ما أشير له عليك إذا شاورت. وقرأ جابر بن زيد، وجعفر الصادق، وعكرمة: بضم التاء على أنها الله، أى إذا عزمت أنا فتوكل على، على طريق الالتفات من التكلم للغيبة، والله لا يوصف بالعزم، فمعناه الإيجاب أو التعيين: أى فإذا أوجبت أو عينت، فلا تشاور أحد ولا نظن أنهم قرأوا ذلك بلا سماع، من الصحابة لأن ما كان كذلك لا يلحق بالقرآن.
{ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ }: فثق به، واعتمد عليه، على المشاورة، أو ما أشير به عليك، فإنه تعالى: ولى الإعانة، ولا يعلم إلا الأصلح لك، إلا هو، ودلت الآية على أن التوكل لا ينافى الكسب إذ أمره بالمشاورة والتوكل معاً، قيل: من التوكل أن لا تطلب لنفسك ناصراً غير الله، ولا لعملك شاهداً غيره، ولا لرزقك خازناً غيره.
{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }: على الله فى جميع أمورهم فينصرهم ويهديهم. قال عمران بن حصين: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:
"يدخل الجنة من أمتى سبعون ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب. قالوا ومن هم يا رسول الله؟ قال: هم الذين لا يكذبون يكترون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة بن محصن، فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلنى منهم. فقال أنت منهم، فقام آخر فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلنى منهم، قال: سبقك بها عكاشة" ، وفى رواية مع كل ألف سبعون ألفاً وثلاث حثيات من حثيات ربى، أى ما يسع الكفين، تعالى الله عنهما، فالمعنى ثلاث جمل يعلمهن الله، وقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أعطانى سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، فقال عمر: يا رسول الله فهلا استزدته. فقال: استزدته فأعطانى مع كل واحد من سبعين ألفاً سبعين ألفاً. فقال عمر: يا رسول الله فلا استزدته. فقال: استزدته فأعطانى هكذا وفتح يديه. وعن سليمان ابن حرب عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعدنى ربى أن يدخل الجنة من أمتى مائة ألف، فقال أبو بكر: يا رسول الله زدنا. فقال: وهكذا وأشار سليمان بن حرب بيده، أى بحثيه، فقال أبو بكر: يا رسول الله زدنا. فقال عمر: إن الله عز وجل قادر أن يدخل الناس الجنة بحفنة واحدة، أى نصف الحثية. فقال صلى الله عليه وسلم: صدق عمر" .