التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ
١٧٣
-آل عمران

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ الَّذِينَ }: نعت آخر للمؤمنين، أو خبر لمحذوف، أو منعوت لمحذوف على المدح.
{ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ }: لهم الركب الذين جاءوا من عبد قيس إلى المسلمين يرهبونهم من أبى سفيان وأصحابه.
{ إِنَّ النَّاسَ }: هم أبو سفيان وأصحابه.
{ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ }: وذلك بعد أحد بعام، أى جمعوا لكم جنود للقتال، أو بمعنى اجتمعوا لكم.
{ فَاخْشَوْهُمْ }: خافوهم أى اقعدوا عن قتالهم، فإنكم لا تطيقونهم، فإن الخوف ليس كسبياً، فالمراد لازمه، و هو القعود عن القتال، أو تأملوا فيما يتولد منه الخوف منهم، وهو كثرتهم وشدتهم.
{ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً }: أى زادهم قول الناس: إن الناس قد جمعوا لكم أو زادهم جمع الناس لهم، أو زادهم المقول الذى هو: { إن الناس قد جمعوا لكم } وذلك دليل على زيادة الإيمان ونقصه،
"قال ابن عمر رضى الله عنه: قلنا يا رسول الله، الإيمان يزيد وينقص؟ قال: نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة، وينقص حتى يدخل صاحبه النار" سواء كان بمعنى التصديق فإنه يقوى بزيادة الحجة، أو كان بمعنى الطاعة، وكان عمر يأخذ بيد الرجل فيقول: قم بنا نزدد إيماناً. وعنه: لو وزن إيمان أبى بكر بإيمان هذه الأمة لرجح.
{ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ } أى فحسبنا أى كافينا، فحسب بمعنى اسم فاعل أحسبه، إذا كفاه مهمه فإضافته إلى مفعوله كإضافة اسم الفاعل للحال أو الاستقبال إلى مفعوله لفظية لا تفيد تعريفاً، ولذلك ينعت به المنكر مضافاً لمعرفة، نحو: هذا رجل حسبك.
{ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }: أى الموكول إليه، أو الكفيل بما وعد لنا من نصر أو رزق، والمخصوص بالمدح محذوف، أى: ونعم الوكيل هو، أى الله وذلك
"أن أبا سفيان نادى عند انصرافه من أحد: يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم إن شاء الله. ولما كان القابل خرج أبو سفيان فى أهل مكة حتى نزل بمر الظهران فى موضع منه يسمى صحبة، فأنزل الله الرعب فى قلبه، وبدا له أن يرجع فمر به ركب من عبد قيس يريدون المدينة للميرة، فشرط لهم حمل بعير من زبيب، إن ثبطوا المسلمين ففعلوا، وقيل: لقى نعيم بن مسعود الأشجعى، وقد قدم معتمراً، فقال: يا نعيم.. إنى واعدت محمداً أن نلتقى بموسم بدر إلا أن هذا العام جدب، لا يصلح لنا إلا عام نرعى فيه الشجر، ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لى أن أرجع، ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاده ذلك جرأة ولئن يكون الخلف من قبلهم أحب إلى من أن يكون من قبلى، فاذهب إلى المدينة فثبطهم، وأعلمهم أنى فى جمع كثير لا طاقة لهم به، ولك عندى عشرة من الإبل يضمنها لك سهيل بن عمرو، فجاء نعيم إلى سهيل، فقال: يا أبا زيد أتضمن لى القلائص فأثبط محمداً؟ قال: نعم، فجاء نعيم المدينة فوجد المسلمين يتجهزون. فقال: ما هذا بالرأى، أتوكم فى دياركم، وقتلوا كثيراً منكم. وقيل: قال لم يفلت منكم أحد إلا شريد، فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد، فأثر هذا الكلام فى قلوب قوم منهم، ولما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، قال: والذى نفس محمد بيده، لأخرجن إليهم ولو وحدى، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نحو سبعين رجلا ووصلوا بدراً، وكانت سوقاً لبنى كنانة فى الجاهلية، يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام، ولم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هناك أحداً من المشركين، وسألوا عن أبى سفيان وأصحابه من لقوا من المشركين، فيقولون قد جمعوا لكم، ترهيباً، فقال المسلمون: حسبنا الله ونعم الوكيل. وأتو السوق وكان معهم نفقات وتجارات فباعوا واشتروا أدماً وزبيباً، وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين، ورجع أبو سفيان إلى مكة فعير أهل مكة جيشه، وقالوا: إنما خرجتم لتشربوا السويق، وهذه بدر الصغرى" ، فقيل: سميت الصغرى لخروج الجنود إليها بدون أن يقع القتال وهو الموضع المسمى بدراً الكبرى لوقوع القتال فيه، وقيل: هما موضعان، والذى يسبق إليه عقلى الأول وما ذكر من القصة، وكون القائل أن الناس قد جمعوا لكم - نعيم - هو قول ابن عباس وعكرمة ومجاهد وابن اسحاق، قيل وهو ضعيف والجمهور على ما ذكر من القصة إلا أن القائل عندهم ركب عبد القيس، فهم الناس فى قوله تعالى { الذَيِنَ قَالَ لَهُمُ النَّاس } ونسبه بعض إلى ابن عباس وابن اسحاق، ومن قال: القائل نعيم، يقول هو القائل، ويقول إنه أطلق عليه لفظ الناس لأنه من الناس، عما تقول فلا يركب الخيل وما له إلا فرس واحد، لأنه إن قولا رضى به غيره، وقد قيل: انضم إليه ناس من أهل المدينة وأذاعوا كلامه، فالناس هو لأنهم تبعوه، أو هو وهم. وقد قيل: المراد بالناس فى قوله تعالى: { الذين قال الناس }: المنافقون لما رأوا النبى صلى الله عليه وسلم يتجهز لميعاد أبى سفيان، أنه نهوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخروج معه، وقالوا: إن القوم أتوكم فى دياركم فقتلوا الأكثر منكم، وإن خرجتم لم يبق أحد منك وكانت بعد أحد غزوة تسمى غزوة حمراء الأسد، وذلك أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا من أحد، فبلغوا الروحاء ندموا على انصرافهم وتلاوموا، فقالوا: لا محمداً استأصلتم ولا الكواعب أردفتم. أى: لم تسبوا كواعبهم، فتردفوهون معكم فى الدواب، قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم، ارجعوا فاستأصلوهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يرهب العدو ويريهم من نفسه وأصحابه قوة، وأنه لم يهنهم ما أصابهم، فندب أصحابه للخروج فى طلب أبى سفيان وأصحابه، فانتدب قوما منهم مع ما بهم من الجروح والقروح، طلباً للأجر، ونادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لا يخرجن معنا أحد إلا من حضرنا بالأمس فخرج معه القوم وهو سبعون رجلا منهم ابو بكر وعمر، وعثمان، وعلى، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الله ابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، حتى بلغوا حمراء الأسد، وهى على ثمانية أميال من المدينة، وألقى الله الرعب فى قلوب المشركين فذهبوا قبل أن يصل المسلمون حمراء الأسد، وقيل: لما بلغوا فى ذى الحليفة جعل الأعراب والناس يقولون لهم: إن أبا سفيان مائل عليكم بالناس، وليست هذه القصة من تفسير الآية، ولما ندبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى غزوة حمراء الأسد، قال جابر بن عبد الله: يا رسول الله إن أبى كان خلفنى على أخرات لى سبع، وقال لى يا بنى إنه لا ينبغى لى ولك أن نترك هذه النسوة ولا رجل فيهن، ولست أوثرك على نفسى بالجهاد مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فتخلف على إخواتك، فتخلفت عليهن، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، نعم يجوز أن يكون هؤلاء السبعون المنتدبون إلى حمراء الأسد هو المراد بقوله تعالى: { { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح } على أن يكون { الذين } مبتدأ وخبره { { للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم } على أن الاستجابة مطاوعتهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى حمراء الأسد فحينئذ يصح أن تكون { من } للتبعيض فيكون كاشتراط على مطلق البعض، أيا كان أن يكون متقياً ومحسناً، فيكون { الذين قال لهم الناس }: هم المسلمون عند الله - على ما مر - أن لفظ الذين نعتاً آخر للفظ المؤمنين أو خبر لمحذوف أو مفعولا لمحذوف، وهم المراد، ويدل لذلك ما روى أن عائشة رضى الله عنها قالت لعروة: يا ابن أختى، كان أبوك من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، الزبير وأبو بكر، إلا أنى لم أفسر الآية فى هذا بكل ما ذكرت عائشة أنه منهم، والغيب يعلمه الله ولست أحجر على الغيب، ولكن تعبدنا الولاية والبراءة، قالت رضى الله عنها لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد فانصرف المشركون: خاف أن يرجعوا فقال: من يذهب فى أثرهم؟ فانتدب منهم سبعين رجلا كان فيهم أبو بكر، والزبير، فمر برسول الله صلى الله عليه وسلم معبد الخزاعى بحمراء الأسد، وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عوناً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة لا يخفون عنه شبابها، ومعبد يومئذ مشرك، فقال: يا محمد لقد عز علينا ما أصابك فى أصحابك ولوددنا أن الله شفاك فيهم. ثم خرج معبد من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقى أبا سفيان ومن معه بالروحاء، وقد أجمعوا على الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: قد أصبنا جل أصحابه، ولنكرن على بقيتهم، ولنفرغن منهم. وقال لمعبد: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج فى أصحابه يطلبكم فى جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقاً، وقد اجتمع معه من تخلف عنه فى يومكم، وندموا على ما صنعوا، وفيهم من الحنق عليكم شئ لم أر مثله قط. قال أبو سفيان: ويلك ما تقول؟ قال: والله ما ترحل حتى ترى نواصى الخيل. قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم فقال: والله إنى أنهاك عن ذلك فوالله لقد حملنى ما رأيت على أن قلت أبياتاً. قال: وما قلت؟ قال: قلت..

كادت تهد الأصوات راحلتى إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تودى بأسد كرام لا تنابلة عند اللقاء ولا ميل معازيل
فقلت: ويل ابن حرب من لقائكم إذا تغمطت البطحاء بالْخِيلِ
إنى نذير لأهل البسل قاطبة لكل ذى أربة منهم ومعقول
من جيش أحمد لا جيش يقابله وليس يوصف ما أنذرت بالقيل

فساء ذلك أبا سفيان ومن معه، وحينئذ مر ركب من عبد القيس، فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة لأجل الميرة؟ قال: فهل أنتم مبلغون عنا رسالة وأحمل لكم إبلكم زبيباً بعكاظ إذا وافيتموه وأخبرتموه أنا قد أجمعنا السير إليه نستأصل بقيتهم، فانصرف أبو سفيان إلى مكة، ومر الركب إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو بحمراء الأسد فأخبره بالذى قال أبو سفيان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حَسْبنا الله ونعم الوكيل" ثم انصرف صلى الله عليه وسلم، راجعاً إلى المدينة بعد ثلاث ليال قال ابن عباس رضى الله عنهما، قال إبراهيم الخليل حين ألقى فى النار: "حسبنا الله ونعم الوكيل". وقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قيل لهم: { { إنَّ الناسَ قّدْ جَمَعُوا لكم } وكان سبباً لهم فى النعمة والفضل كما دلت عليه فاء السببية فى قوله تعالى: { فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ }.