التفاسير

< >
عرض

وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
١٨٠
-آل عمران

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ }: أى لا تحسبن يا محمد، ويا من يمكن منه الحسبان، بخل الذين يبخلون، بحذف المضاف، وهو بخل ولفظ هو عائد إليه لدلالة المقام، ولفظ يبخلون عليه، ضمير لا محل له، أو توكيد للمضاف المحذوف مستعار للنصب، والمشهور أن لا يؤكد الظاهر بالضمير، قيل: بالجواز أو عائد إلى الله توكيد الهاء، فضله، والذين مفعول أول على حذف مضاف وخبراً: مفعول ثان، ويجوز تقدير المضاف هكذا لا يحسبن مال الذين يبخلون، أو موتى الذين يبخلون بما آتاهم. وقرئ بالتحتية هنا من قرأ بها هنالك. فالذين فاعل والمفعول الأول محذوف، أى: لا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله بخلهم أو موتاهم أو مالهم { هو خيرا لهم } ومرجع هو على حد ما مر، ويجوز كون فاعله يحسب بالتحتية ضمير، صلى الله عليه وسلم أو ضمير الحاسب، فيكون الذين مفعولا أولا على حذف مضاف على حد ما مر، وقرأ الأعمش بإسقاط هو.
{ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ }: يدخلون به النار، والبخل: منع الواجب كالزكاة، ونفقة الأولياء والأزواج، وتنجية المضطر الموحد غير المحارب وغير من لا يطعم ولا يسقى، وكالنفقة فى الجهاد، والإنفاق فيما يجاهد به، وكإطعام الضيف، ويدل لذلك ذكر الوعيد عقب هذا، وعنه صلى الله عليه وسلم
"إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالفجور ففجروا" . رواه عبد الله بن عمرو. وقال صلى الله عليه وسلم: "خصلتان لا تجتمعان فى مؤمن: البخل، وسوء الخلق" . رواه أبو سعيد الخدرى، والحديث الأول دل على أن البخل غير الشح، وأنه مولد من الشح، لأنه جعل الشح آمر بالبخل، فالشح منع النفس والجوارح عن الإعطاء، والبخل مطاوعة الجوارح. فانظر شرح النيل. وقال ابن العربى: الشح منع المستحب، والبخل منع الواجب، ولما تم الكلام على الجهاد، ذكر تحريم البخل والوعيد عليه، ليشتروا السلاح، والخيل، وآلات القتال للجهاد، وينفقوا فيه، وليفعلوا كل واجب فىالمال. وقال عبد الله بن عباس فى رواية أبى صالح عنه وأبى هريرة والشعبى ومجاهد فى رواية غير ابن جريح عنه نزلت الآية فى البخل بالزكاة. وقال ابن عباس فى رواية عطية ومجاهد فى رواية ابن جريح، نزلت فى كتم أحبار اليهود صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته، لأنه يقال: بخل بالعلم، وبخل بذكر الله، وبخل بالصلاة على رسول الله، كما يقال: بخل بالمال، فالبخل عبارة عن منع الخير عن مستحقه مالاً أو غيره، واختاره الزجاج، والصحيح ما مر لظاهر قوله تعالى:
{ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }: يجعل لهم أطواقاً فى أعناقهم حقيقة يعذبون به فى النار، أو شبه لزوم الوبال لهم بلزوم الطوق اللازم المخلوق فى الجسم، كطوق الحمامة، وهذا ألزم وألصق، ويجوز أن يراد ما يلبس من الأطواق فى العنق، أو فى الذراع، كما قال ابن عباس يحملون وزره، وإثمه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما من رجل لا يؤدى زكاة ماله إلا جعل الله شجاعاً فى عنقه يوم القيامة" . والشجاع: ضرب من الحيات يقال له الأشجع، وعن أبى هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاع أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا { ولا يحسبن الذين يبخلون.. }" الآية. وفى رواية "إلا مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع يفر منه وهو يتبعه حتى يطوقه فى عنقه" . وعن ابن مسعود وابن عباس: يجعل ما منعه من الزكاة، وفى لفظ ما بخل به من الزكاة حية يطوقها فى عنقه يوم القيامة تهشه من قرنه إلى قدمه، وتنفر رأسه وتقول أنا مالك. واللهزمتان: الشدقان. وقيل: أعلى الشدقين أسفل الأذنين، والزبيبتان: الزبدتان فى شدقيه أم لحمتان كقوتين متدليتين كما يكون فى الشاة أو نكتتان سوداوان فوق عينيه، والأقرع: الذى لم يبق على رأسه شعر لكبره، والنهش، بالشين المعجمة: لسع الحية، وأما بالمهملة ففى الحية والعقرب والكلب ونحوهن، "وعن أبى ذر: انتهيت إلى النبى صلى الله علية وسلم وهو جالس فى ظل الكعبة، فلما رآنى قال: هم الأخسرون ورب الكعبة، فجئت حتى جلست، فلم ألبث أن قمت، فقلت: يا رسول الله فداك أبى وأمى من هم؟ قال: هم الأكثرون أموالا إلا من قال هكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله" . وعنه صلى الله علية وسلم: "ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدى زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت، تنطحه بقرونها وتعلوه بأظلافها، كلما تعدت آخراها عادت أولاها حتى يقضى بين الناس" . ومثله فى كتاب الوضع وذلك من التعذيب بجنس ما عصى به كحديث: "من قتل نفسه بحديدة فهو يوحى نفسه بها فى نار جهنم" وحديث "من قتل نفسه بالسم فهو يتحساه فى نار جهنم" وبعكسه. كما روى أن المتكبرين يحشرون فى صور الذر، يطؤهم من أقبل ومن أدبر، والمتواضعون أعزاء. وعنه صلى الله علية وسلم: "ما من ذى رحم بأتى ذا رحمه فيسأله من فضل عنده فيبخل عليه، إلا أخْرِج له يوم القيامة شجاع من النار يتلمظ حتى يطوقه" . وعنه صلى الله علية وسلم: "يجىء كنز أحدكم يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان فيقول أنا كنزك فيطلبه فما يزال يطلبه حتى يلقم يده فيعضعضها، حتى يأتى على سائر يديه" . وعن الكلبى: يطوق شجاعان فى عنقه فيلدغان جبهته ووجهه، ويقول كل منها أنا كنزك الذى كنزت أنا الزكاة التى بخلت بها، وقيل فى معنى الآية: تجعل فى أعناقهم أطواق من النار، وقيل: يأتون يوم القيامة بما منعوا فى الدنيا يحملونه على رقابهم، فلا يقبل منهم يومئذ. وقال مجاهد فى غير تفسير الآية: يكلفون بما منعوه أن يأتوا به يوم القيامة فلا يجدونه وإذا فسرنا لآية بالبخل بالعلم أو به وبالبخل بغيره، فمعنى التطويق إلزام العقاب، كالطوق، قال أبو هريرة، قال رسول الله صلى الله علية وسلم "من سئل علماً يعلمه فكتمه، ألجم بلجام من نار يوم القيامة عوضوا لحام النار كما منعوا ألسنتهم عن النطق به لسائله" .
{ وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }: بمعنى أن الخلق سيفنون، وتبقى السماوات والأرض لله وحده، كمن يموت عن مال ويخلفه لوارثه، فإذا كانت الأرض تبقى مع ما فيها لله، فكيف يبخل بمال أو علم عن أهله، فإن مع منع العلم أيضاً عن مستحقه، إنما هو لغرض دنيوى فالله يرث السماوات ويرث الأرض، وما فيها من مال، ونحوه فكيف به يبخل، فإنه ولو بقى له لم يدم بل يفنى فى آخر من ينتقل إليه، وميراث مصدرعلى خلاف، ما يجعلونه قياساً، بمعنى الإرث، ويجوز أن يراد أن الله جل وعلا يرث ما فى السماوات من ولايات الملائكة، أو ولايات أهل الأرض، وأموالها وعلم أهل السماوات والأرض فكيف يبخل ما فيها من مال وجاه، وولاية وعلم عن أهله وميراث أيضاً على هذا مصدر، ويجوز أن يكون المعنى: بأن الله جل وعلا يرث ما يأتى أهل السماء من رزق، ومنافع وجاه وإعزاز ونحو ذلك، وما آتاهم فيموت الإنسان فيكون ما عنده وما يعتاد إتيانه، لله وضعه حيث شاء من وارث أو غيره، وقد كان الإنسان يأتيه ما يأتيه من السماء، فإذ مات انقطع عنه، وأتى غيره، فميراث بمعنى ما يورث.
{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ }: أيها الناس كلكم بركم وفاجركم.
{ خَبِيرٌ }: فيجازى المحسن أو يعاقب البخيل وغيره ممن فجروا بما تعملون أيها البخلاء، وفى هذا الوجه طريق التفات من غيبة البخلاء إلى خطابهم، تأكيداً فى وعيدهم، ويدل له قراءة أبى عمرو وأبى بكر { يعملون } بالغيبة، أى بما يعمل الذين يبخلون.