التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
١٩١
-آل عمران

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ }:
الذين: نعت لأولى الألباب، وقياماً: جمع قائم، وقعوداً: جمع قاعد، وعلى جنوبهم: متعلق بحال محذوفة، أى وثابتين على جنوبهم أو مضطجعين على جنوبهم، فهذه ثلاثة أحوال، الثانى والثالث بالعطف فمعطوف الواو فى قوله: وعلى جنوبهم محذوف، وهو ثابتين أو مضطجعين ومعنى ذكرهم الله قياماً وقعوداً، وعلى جنوبهم: أنهم يستغرقون فى الذكر ما قدروا يذكرونه تعالى، حال القيام وحال القعود وحال الاضطجاع، على الظهر أو اليمين أو الشمال أو الركوع، والانحناء، داخلان فى القيام وأما الاتكاء فداخل فى القعود، والآية عمت الصلاة وغيرها جميعاً الفرض والنفل. خرج ابن عمر وعروة بن الزبير وجماعة يوم العيد إلى المصلى، فجعلوا يذكرون الله فقال بعضهم: أما قال الله تعالى { يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداًً }؟ فقاموا يذكرون على أقدامهم. وعنه صلى الله عليه وسلم:
"من أحب أن يرتع فى رياض الجنة فليكثر ذكر الله" قالت عائشة رضى الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله عز وجل على كل أحيانه أى ولو فى حال إخلائه، لكن إذا كان فى الخلاء يذكر فى قلبه، وعن أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة ومن اضطجع مضجعاً لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، وما مشى أحد مشيا لا يذكر الله فيه إلا كانت عليه من الله ترة" والترة: النقص. وقيل: البقعة، أى شهدت عليه أنه غفل فيها. وقال على وابن مسعود وابن عباس وقتادة: المراد بالذكر الصلاة، لأن المصلى يذكر الله فيها، بمعنى أنهم لا يتركون الصلاة إن قدروا صلوا قياماً وإلا صلوا قعوداً وإن لم يقدروا صلوا مضطجعين على جنوبهم اليمنى مستقبلين القبلة بأوجههم وتكون أرجلهم إلى الشمال أو غيره بحسب الجهات. وقيل: على ظهورهم وتكون أرجلهم إلى القبلة بحيث تكون وجوههم إلى السماء، ولو قعدوا لصاروا مستقبلين، ويؤمون فى ذلك إيماءً، وإن لم يستطيعوا ذلك كلفوا بما أمكنهم. "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعمران بن الحصين: صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب تومئ إيماءً" . وذلك أنه كان به بواسير، فساله كيف أصلى، فأجابه بذلك، ومن زعم أنه يستلقى على ظهره، فسر الجنوب بالظهور لما قيل عن ابن عمر: فإن لم تستطع فعلى قفاك، ونسب هذا القول للشافعى، وقيل عنه أنه يقول: بالجانب لا بالظهر، وهو الصحيح عنه، فهو موافق لنا. وعن أبى حنيفة: يستلقى فإذا وجد خفة قعد.
{ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }: استدلالا على وحدانية الله تعالى، وكمال قدرته، وصفاته وأفعاله، والتفكر أفضل العبادات كما قال صلى الله عليه وسلم:
"لا عبادة كالتفكر" وذلك لأنه بالقلب، والقلب أفضل ما فى الإنسان وبصلاحه يصلح الجسد، يتفكر به فيعرف الله، ويستعمل الجوارح فى العبادة التى خلق الإنسان لأجلها، والفكر يذهب الغفلة ويجيد الخشية للقلب، كما يجدب النبات الماء ولا جليت القلوب بمثل الأحزان، ولا استنارت بمثل الفكر، وعنه صلى الله عليه وسلم: "لا تفضلونى على يونس بن متى، فإنه يرفع له فى كل يوم مثل عمل أهل الأرض" ، قالوا: وإنما ذلك بالتفكر فى أمر الله تعالى، إذ لا يعمل عمل أهل الأرض فى اليوم إلا بذلك، والنهى عن التفضيل قبل أن يعلم أنه أفضل الخلق، وبعده قال: أنا سيد ولد آدم ولا فخر. وعنه صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى السماء والنجوم فقال أشهد أن لك ربا وخالقاً، اللهم اغفر لى، فنظر الله إليه فغفر له" . وفى الأحياء نهاية ثمرة الدين، فى الدنيا تحصيل معرفة الله، وتحصيل الأنس بذكر الله، والأنس يحصل بدوام الذكر، والمعرفة تحصل بدوال الفكر، ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم، على قوم يتفكرون فى الخالق فقال: "تفكروا فى الخلق ولا تتفكروا فى الخالق، فإنكم لا تقدرون قدره" . قال بعض العلماء: المتفكر فى الله، كالناظر فى عين الشمس، يزداد تحيراً، وإنما يتفكر فى المخلوقات وأحوال الآخرة وثواب الله وعقابه. قال ابن عباس وأبو الدرداء: تفكر ساعة خير من قيام ليلة. قال سرى السقطى: فكرة ساعة خير من عبادة سنة، ما هو إلا أن تحل أطناب خيمتك فتجعلها فى الآخرة. وعن الحسن: الفكر مرآة المؤمن ينظر فيها إلى حسناته وسيئأته. وأخذ أبو سليمان الدارانى قدح الماء ليتوضأ لصلاة ليل وعنده ضيف، فرآه لما دخل أصبعه فى أذن القدح أقام كذلك مفكراً حتى طلع الفجر، فقال له: ما هذا يا أبا سليمان؟ فقال: إنى طرحت أصبعى فى أذن القدح وتذكرت قول الله سبحانه: { إذ الأغلال فى أعناقهم والسلاسل } فتفكرت فى حالى، وكيف أتقى الغل إن طرح فى عنقى يوم القيامة، قيل لامرأة أبى الدرداء: ما كان أكثر شأن أبى الدرداء؟ قالت: كان أكثر شأنه التفكر. قال ابن بطال: إذا كمل إيمان الإنسان وكثر تفكره، كان الغالب عليه الإشفاق والخوف. والآية دليل على شرف العلم الذى يبحث فيه على ثبوت الصانع وقدمه، وعدم شبه الخلق وشرف أهل ذاك العلم وهو علم الكلام، وقال ابن عطاء الله: الفكر سراج القلب، فإذا ذهب فلا إضاءة له. قال القشيرى: فكر الزاهدين فى الدنيا وقلة وفائها لطلابها، فيزدادون بالفكر زهداً، وفكر العابدين فى جميل الثواب فيزدادون نشاطاً عليه ورغبه فيه، وفكرة العارفين فى الآلاء والنعماء فيزدادون محبة للحق سبحانه. ذكر الله عبادة البدن بقوله { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِم } وعبادة القلب بقوله: { ويَتَفَكَّرُونَ فِى خّلْقِ السَّمَاواتِ والأرض }.
{ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً }: أى قائلين ربنا ما خلت هذا باطلا فهذا وما بعده إلى قوله "الميعاد" محكى بحال محذوفة - كما رأيت - وصاحب الحال واو { يتفكرون } والإشارة إلى المتفكر فيه المذكور، أى هذا الذى تفكرنا فيه من خلق السماوات والأرض، وإلى خلق بمعنى مخلوق على أن إضافته بيانية، اى مخلوق هو السماوات والأرض، أو إلى السماوات والأرض على تأويلهما بالمخلوق وبقاء خلق على المصدرية، وباطلا: حال من اسم الإشارة، أو مفعول مطلق أى خلقاً باطلا، أو حال من التاء، أو مفعول لأجله، أى لعبت المعانى تابعة لهذه الأعاريب، وما صدق الكل إن خلق السماوات والأرض حكمة، لا عبث ضائع، لأنه خلقهن ليكن مبدأ لوجود الإنسان والملائكة والجن، وسبباً للمعاش، وليكن آيات على وجوده تعالى وكمال قدرته، وداعيات إلى الطاعة لينال المطيع الجنة.
{ سُبْحَانَكَ }: أى نزهناك تنزيهاً عن العبث، وعدم الحكمة فى شىء ما من فعلك وقولك، ومن فعله خلق السماوات والأرض، وجملة سبحانك إذ ناب على الجملة معترضة بين المفرع عليه وهو اعترافهم بأنه لم يخلق السماوات والأرض عبثاً، والمفرع بالفاء، وهو ما بعدها فى قوله:
{ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }: أى لا تعذبنا بنارك على تقصيرنا فى تفكيرنا فى خلق السماوات والأرض، وفى التفريع بالفاء إشعار بأن علمهم بأن الخلق للحكمة حامل لهم على قولهم قنا عذاب النار، أى احفظنا عنه وامنعه عنا.