التفاسير

< >
عرض

فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ
٣٩
-آل عمران

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ }: أنث بتأويل الجماعة، وقرأ حمزة والكسائى فناداه بالإمالة، وإسقاط التاء، والحكم على الملائكة بالنداء على المجموع فإن المنادى واحد منهم، وهو جبريل عليه السلام، وذلك أنه من جنس الملائكة، كما تقول: فلان يركب الخيل، وبنو فلا قتلوا فلانا، وإنما يركب فرساً واحداً، وقاتل فلان واحد منهم، وقال الله تعالى { { الذين قال لَهم النَّاسُ } أى نعيم بن مسعود: إن الناس أبا سفيان. ويجوز أن يكون جمع جبريل تعظيما له، عليه السلام، أو لأنه رئيس الملائكة، فمقاله مقال لهم ولو لم يقولوه، وقال قوم: بل نادته ملائكة كثرة، كظاهر الآية، واختاره بعض، وقال: إنه لا يعدل عنه إلا إن صح حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بغيره. والجمهور على أن المنادى جبريل، والمراد بالنداء التبشير فيما ينبغى أن يسرع به، وليس السامع، وليس مجرد إخبار بالوحى، بل كما نادى الرجل الأنصارى كعب بن مالك، من أعلى الجبل لما نزلت توبته كما يأتى إن شاء الله فى سورة التوبة.
{ وَهُوَ قَائِمٌ }: حال من الهاء.
{ يُصَلِّى }: حال ثان من الهاء، أو حال من المستتر فى { قَائِمٌ }، أو خبر ثان، ويجوز على قول سيبويه أن يكون نعتاً لقائم، إذ جاز نعت الأوصاف التى لم يذكر موصوفها.
{ فِى الْمِحْرَابِ }: تنازعه { قَائِمٌ } و { يُصَلِّى } وهو المسجد، وذلك أن زكريا عليه السلام هو الحبر الكبير الذى يقرب القربان، ويفتح الباب، فلا يدخلون حتى يأذن لهم فى الدخول، فبينما هو يُصلى فى محرابه عند المذبح، والناس ينتظرون أن يأذن لهم فى الدخول إذ هو بجبريل على صورة رجل شاب أبيض الثياب، ففزع فناداه يا زكريا.
{ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى } أى بولد سماه يحيى، كذلك تسميه. قال ابن عباس: سمى يحيى، لأن الله تعالى أحيا به عقم أمه، وقيل: إن الله أحيا قلبهُ بالإيمان. وقيل: لأن الله أحياه بالطاعة حتى أنهُ لم يهم بمعصية قط، وفى التسمية به دليل على فضل العربية، إذ سمى باسم عربى، وليس من العرب فمنعهُ من الصرف للعلمية، ووزن الفعل، وأجيز أن يكون عجمياً فيمنع للعجمة والعلمية، واستطهره الزمخشرى وإنما كسرت همزة { إن } بعد قوله: نادت لتضمن النداء معنى القول، ولفظ القول تكسر بعده.
وقيل: بتقدير القول أى: نادته الملائكة قائلين إن الله يبشرك. وقرأ غير نافع، وابن عامر بالفتح على تقدير الجار، أى: بأن الله. وقرأ حمزة والكسائى: يَبْشُرك بفتح الياء المثناة التحتية وإسكان الباء الموحدة وضم الشين، وكذا فى جميع القرآن لفظ يبشر، وقرأ: يُبْشِرك بضم فإسكان فكسر، فهو يتعدى بالتشديد وبنفسه وبالهمزة.
{ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ }: هى عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وسمى كلمة، لأن الله تعالى خلقه بكلمة "كن" خلقها حيث شاء، أو بتوجه الإرادة إلى خلقه، فكوّنهُ بلا أب، دلالة على كمال قدرته تعالى، وقيل: سمى كلمة لأنه يرشد الخلق إلى دين الله بكلامه، كما يهتدى بكتاب الله قبل الإنجيل وبعده. وقيل: لأن جبريل تكلم به إلى مريم تبشيراً لها به بأمر الله تعالى، وقيل: لأن الله تبارك وتعالى، أخبر الأنبياء أنه سيخلق رسولا بلا أب، ولما خلقه قال إنهُ كلمة تكلم بها للأنبياء قبلهُ، وأول من صدق له يحيى عليه السلام، وذكر الله هذا التصديق بقوله: { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّه }. قال ابن عباس: هو أكبر من عيسى بستة أشهر. وقال السدى: قتل يحيى قبل أن يرفع عيسى. وقيل: التقت أم يحيى وأم عيسى حاملتين بهما، فقالت أم يحيى: أشعرت أنى حامل، وقالت أم عيسى: وأنا أيضاً حامل، فقالت أم يحيى: إنى أجد ما فى بطنى يسجد لما فى بطنك، أى يعظمه ويؤمن به، كما قال الله جل جلاله { ومُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّه } وقيل: الكلمة من الله كتاب أنزله الله وصدق به. والجمهور على أنها عيسى، وعلى أن الكلمة كتاب، فهو التوراة وعبارة بعض توهم أنه كتاب أنزل على يحيى، وعبارة بعض: أنه كتب الله كلها، والكلام يسمى كلمة، ولو طال. قال صلى الله عليه وسلم:
"أصدق كلمة قالها لبيد: ألا كل شىء ما خلا الله باطل. وذكر لحسان الحويدرة الشاعر، فقال: لعن الله كلمته - يعنى قصيدته - ومن الله نعت كلمة" .
" { وَسَيِّداً }: عطف على الحال وهو { مُصَدِّقاً }، فهذان وما بعدهما أحوال من يحيى، متعاطفة وهن أحوال مقارنة لأن عند الله سيد حصور نبى ولو قبل أن يولد بمعنى أنه موصوف من عنده بذلك، كما أنه مصدق فى البطن ولك جعل غير الأول حالا مقدراً، أى: سيكون بعد ولادته سيداً حصوراً نبياً، ويجوز عطف الحال المقدرة على المقارنة، وبالعكس وكذا المحكية معهما ومعنى كونه سيداً أنه يفوق الناس كلهم فى أنه ما همّ بمعصية، وغيره من الأنبياء ربما همّ بما ليس ذنباً صغيراً ولا كبيراً، ولكن عد عليه معصية، لعظم مقام الأنبياء عليهم السلام، وقال قتادة: المراد أنه سيد مؤمنى أهل زمانه فى العلم والورع والعبادة والحلم. وقيل: معناه أنه حليم لا يغضبهُ شىء، وقيل: حسن الخلق، وقيل: مطيع ربه، وقيل: الذى يفوق قومه فى خصال الخير، وقيل: سخى. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سيدكم يا بنى سلمة؟ قالوا: جد بن قيس على أنا نبخله" - أى ننسبه للبخل - فقال: "وأى داء أدوى من البخل، لكن سيدكم عمرو بن الجموح" ومن فسر السؤدد بالحلم أو السخاء، فقد أحرز أكثر معنى السؤدد، ومن جوز تفسيره بالعلم والتقى ونحو ذلك، فلم يفسره بكلام العرب، ولكن راعى فيه معنى الشرف، فجعل كل يذكر ما ظهر له من الأمور المستحسنة، وذلك كما قال مجاهد: السيد، الكريم على الله.
{ وَحَصُوراً }: صفة مبالغة، أى بالغ فى حَصْر نفسه على العبادة، وعن الشهوات والملاهى، ومر بصبيان يلعبون وهو صبى، فدعوه للعب فقال: ما للعب خلقت! ويدعونه من بيته للعب فيجيبهم بذلك أيضاً، وقيل: بالغ فى حبس نفسه عن وطء النساء مع القدرة عليه زهداً ومنعاً لنفسه عما تشتهى، وصححت هذا جماعة من المحققين.
وعن ابن عباس وغيره الحصور اسم لمن لا يشتهى النساء، وقيل: عنه معناه أنه يشتهى ويمنع نفسه وهذا أولى بالنسبة لابن عباس. وممن قال أنهُ لا يشتهى سعيد بن المسيب، قال: كان لهُ مثل هذه الثوب، وقد تزوج مع ذلك ليغض بصره، وعباره بعض: أنه عنين، وهذان القولان لا يليقان بمنصب الأنبياء، لأن ذلك نقصان، والكلام فى المدح. وقيل: حصور بمعنى محصور عن المال، أى ممنوع منه، فهو فقير. وقيل: محصور عن الذنوب، أى ممنوع ومعصوم عنها، وأنكر المحققون القول بأنه هيوب، والقول بأنه لا ذكر له، لا مدح بذلك بل نقص، إلا أن قيل: هيوب للذنوب. وقد يوجه القول بأنه لا ذكر له أو لا يشتهى، لأنه مدح من حيث أن ذلك معين على العبادة، ولكن المدح لأنه سالم مشته مانع نفسه، زهداً أعظم.
{ وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ }: أى من أولاد الصالحين، والصالحون هم الأنبياء هنا، أو من جملة مطلق الصالحين، وليس الأول من تحصيل الحاصل كما قيل، ومن صلاحه أنه يعيش بالعشب، وأنه كثير البكاء من خشية الله تعالى، حتى اتخذ الدمع فى وجهه أجدوداً.