التفاسير

< >
عرض

وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ
٥٠
إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ
٥١
-آل عمران

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ }: عطف على { رسولا } أو حال حذف عامله وصاحبه، أى وجئتكم مصدقاً، وجملة جئتكم: معطوفة على جئتكم، وكل رسول يصدق الكتب، والرسل قبله، فعيسى مصدقاً لموسى وتوراته.
{ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِى حُرِّمَ عَلَيْكُمْ }: أى جئتكم لأحل لكم، أو عطف على معنى "بآية" لأن حاصل معنى قوله "بآية" لأجل أن أظهر لكم ما أيدنى الله تعالى به، ويجوز تعليق "بآية" بحال، فيعطف مصدقاً ولأحل عليه، أى ملتبساً "بآية" ومصدقاً وكائنا، لأحل وليس النبى يحل أو يحرم من نفسه، ولكن المعنى: لأبين لكم أن الله حلل لكم أشياء، حرمت فى التوراة، فالإنجيل نسخ بعض التوراة، وليس ذلك بداء - تعالى الله عنه - ولكن حرم فى التوراة أشياء هى فى قضائه أن تحريمها ينتهى وقت كذا، وهو وقت نزول ناسخها، وذلك كالشحوم والثروب، وبعض السمك، وهو ما له حرفشة، وبعض الطير وهو ما له منها صيصية، ولحم الإبل، والعمل فى السبت، فقد حل ذلك لليهود من عهد الإنجيل، وإن كان الإنجيل أحل غيرهن فقد أحلهن لهم القرآن، وأعنى بالثروب: الشحم الذى يغشى الكرش والأمعاء. وكان عيسى عليه السلام، على حكم التوراة، يستقبل بيت المقدس، ويعتبر السبت، ثم رفع السبت بأمر الله، ووضع الأحد مكانه وقال قتادة إن بعض الناس زادوا تحريم أشياء بعد موسى، فجاء عيسى بتحليلها، فليس بنسخ، وقيل: إنه أحل جميع ما حرم عليه، وذلك نسخ فبعض: بمعنى جميع، كذا قيل. يعنى قائله: جميع ما يمكن تحليله، وأما ما تحليله مستحيل فى حق الله، كالزنا وأكل أموال الناس ظلماً، فلا، ولكن لا يحسن التعبير، بأن بعض بمعنى: كل على الحقيقة، ولا المجاز مع إمكان إبقائه على معناه، لبقاء بعض آخر، وهو ما استحال تحليله، وفاعل التحريم هو الله تبارك وتعالى، وقرئ: حرم بالبناء للفاعل، وهو أيضاً الله، وأجيز أن يكون موسى، بدلالة التوراة عليه وكونه معلوماً عندهم، وقرئ: حرم بالتخفيف وفتح الحاء وضم الراء.
{ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّنْ رَّبِّكُمْ، فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، إِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ، هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ }: يعنى بآية أخرى ألهمنى الله إياها تدل على رسالتى، هى قولى: { إن الله هو ربى وربكم .. } إلخ وليس المراد أن قوله ذلك معجزة، بل المراد أن قوله ذلك عمل بمقتضى الرسالة بعدما آتيتها بالمعجزة، فالجملة مقول لقول محذوف، هو خبر لمحذوف كما رأيت، وجملة { فَاتَّقوا اللهَ وَأطِيعُون } معترضة فإن قوله: هى قول:
{ { إن الله هو ربى وربكم.. } إلخ نعت لآية { ومن ربكم } نعت أول، أو متعلق { وجئتكم }. وقرىء بفتح همزة أن على الإبدال من آية، أو تقدير جار، أى على أن الله، أى بآية دالة على أن الله ربى وربكم، أو لأن الله وعلى تقدير اللام يعلق باتقوا، أو باعبدوه بعده، على زيادة الفاء بعده، وإن علمت أن المراد بالآية هنا آية غير ما تقدم، علمت أن قوله { جِئتُكُمْ بآيَةٍ مِّن رَّبِّكُم } تأسيس لا تأكيد، أو للأول، فيكون الأول لتمهيد الحجة، والثانى لتقريبها إلى الحكم، ولذلك رتب على الثانى قوله { فَاتَّقُواْ اللَّه } بالفاء، أى: اتقوا الله فى مخالفتى، لمجيئى إليكم بمعجزات تقطع عذركم، وأطيعونى فيما أدعوكم إليه وهو التوحيد. كما قال: إن الله هو ربى وربكم، والعمل كما قال { فاعبدوه }، واسم الإشارة عائد إلى المذكور من التوحيد والعبادة أو عائد إلى المذكور من العبادة المقيدة بقيد كونها مسببة، عن كونه ربا لهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: "قل آمنت بالله، ثم استقم" وفى الآية الرد على نصارى نجران وغيرهم فى دعواهم أن عيسى إله بالحصر فى قوله: إن الله هو ربى وربكم، وتعريض بأنهم على غير صراط مستقيم.