التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
٥٢
-آل عمران

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ }: تحقق عيسى منهم الكفر، كما يتحقق الشىء المحس بالإحساس من الحواس، وذلك أن الكفر معقول لا يحس بحاسة، ولكن شبه العلم به بعلم ما يعلم بالحاسة، ثم إنه لا مانع من أن يبقى أحسَّ على ظاهره، لأنه أحس كفرهم بأذنيه، إذ سمع منهم ألفاظ الكفر، والتلفظ بلفظ الكفر بلا حكاية الكفر.
{ قَالَ مَنْ أَنْصَارِى }: وسكن الياء غير نافع وابن كثير وأبى عمرو.
{ إِلَى اللَّهِ }: متعلق بمحذوف، والمحذوف حال، وهو كون خاص، وصاحب الحال الياء، أى من أنصارى ذاهباً إلى الله، أو ملتجئاً إلى الله، وأنصار: جمع ناصر، والمعنى من ينصرنى حال كونى ذاهباً إلى الله، أو ملتجئاً إليه، أو من ينصرنى ضاما نصره إياى، إلى نصر الله إياى، وصاحب الحال أيضاً الياء، ويجوز تعليقه بأنصار على تضمين معنى مضيفين، أى: من الذى يضيفون أنفسهم إلى الله فى نصرى، بأن ينصرونى مع الله، ويجوز تعليقه بأنصار، بلا تضمين، إن جعلنا { إلى } بمعنى "مع"، أو "فى" أو اللام، أى فى دين الله، أو لأجل الله، والمعية حاصلة مع إبقاء { إلى } على أصلها أيضاً، لأنك إذا أنهيت بشىء إلى شىء، فقد جمعتهما ولذلك أنكر الزجاج وغيره مجىء { إلى } بمعنى "مع" واستقلوا بذلك.
{ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ }: أى أنصار دين الله، والحوارى: صفى الرجل وخالصته من الحور، وهو البياض الخالص، يقال لنساء القرى: حواريات، لصفاء ألوانهن وخلوصه، وغلبة البياض عليهن. ويقال للدقيق: حوارى، لأنهُ الخالص من جملة الدقيق، وحوّرت الثوب: بيضته. قال أبو جلدة اليشكرى فى نساء القرى:

فقل للحواريات يبكين غيرنا ولا يبكنا إلا الكلاب النوائح

روى جابر بن عبد الله أنه ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق، فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبى حواريات، وحواريى الزبير" . وفى رواية: "وحواريى من أمتى الزبير" . فسمى أنصار عيسى حواريين لخلوص نياتهم، ونقاء سرائرهم، وظهور نور العبادة عليهم، وحواريو الأنبياء من أخلصوا نياتهم فى نصر الأنبياء، فهذا الاسم لقبهم الله به، بعد إجابة عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، أو كانت نياتهم قبل ذلك خالصة فى الله، وعلى كل حال فهم فى الأزل مستحقون لهذا الاسم. وقيل: سموا لأنهم ملوك يلبسون الثياب البيض استنصر بهم عيسى على اليهود، وقيل: لأنهم قصارون، يحورون الثياب، أي يبيضونها. وبه قال الحسن، وعن مجاهد والسدى: سموا لبياض ثيابهم. وأما تفسير الحوارى الذى يستعان به فليس من اللغة، بل من حيث إن الرجل يستعين بصفيه لما علم عيسى على نبينا وعليهِ الصلاة والسلام، من بنى إسرائيل الكفر، وعلم أنهم أرادوا قتله، خرج هو وأمه يسيحان فى الأرض فدخلا قرية فأضافهما رجل، وأحسن إليهما وكان لتلك القرية ملك جبار، فجاء الرجل يوماً حزيناً، ومريم عند امرأته، فقالت مريم: ما شأن زوجك، أراه كئيباً حزيناً؟. قالت: لا تسألينى. قال مريم: أخبرينى لعل الله يفرج كربه. قالت المرأة: إن لنا ملكاً جباراً، وقد جعل على كل رجل منا يوماً يطعمهُ فيه هو وجنوده، ويسقيهم الخمر، وإن لم يفعل عاقبه، واليوم نوبتنا، وليس عندنا سعة لذلك. فقالت: قولى له لا يهتم بذلك، فأنا آمر ابنى أن يدعو له فيكفى ذلك. ثم قالت مريم لعيسى ففى ذلك، فقال عيسى: إن فعلت ذلك وقع شر. قالت مريم: لا تبالى وهو قد أحسن إلينا وأكرمنا. فقال أعيسى: قولى لهُ إذا قرب ذلك الوقت فاملأ قدورك وخوابيك ماءً ثم اعلمنى. ففعل الرجل ذلك ثم دعا الله عيسى - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - فتحول ماء القدور مرقاً ولحماً وماء الخوابى خمراً لم ير الناس مثلها، فلما جاء الملك وأكل من ذلك الطعام وشرب من تلك الخمر، قال: من أين لك هذا الخمر؟ فقال: من أرض كذا.. وقال الملك: إن خمرى منها وليست مثل هذه. فقال: هى من أرض أخرى.. فلما رآه قد خلط فى كلامه، شدد عليه، فقال الرجل: أنا أخبرك.. إن عندى غلاماً لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه الله إياه وإنهُ دعا الله تعالى فجعل الماء خمراً، وكان للملك ابن يريد استخلافه فى ملكه وقد مات قبل ذلك بأيام، وكان يحبه حبا شديداً، فقال الملك: إن رجلا دعا الله حتى صار الماء خمراً بدعوته، ليستجاب لهُ فى إحياء ابنى، فطلب عيسى وكلمهُ فى ذلك فقال له: لا تفعل فإنهُ إن عاش وقع شر، فقال الملك: لا أبالى إذا رأيته فقال عيسى: إن أحييتهُ تتركنى وأمى نذهب حيث نشاء؟ قال: نعم.. فدعا الله عيسى فعاش الغلام، فلما رآه أل مملكته قد عاش تبادروا إلى السلاح وقالوا: أكلنا هذا الملك حتى إذا دنا أجله أراد أن يستخلف علينا ابنه، فيأكلنا كما أكلنا أبوه، فقاتلوه فظهر أمر عيسى وقصدوا قتله، وكفروا به، وقيل: إن اليهود عرفوا أنه المسيح المبشر به فى التوراة، وأنه ينسخ دينهم، ولما أظهر الدعوة اشتد عليهم ذلك، فأخذوا فى إيذائه وطلبوا قتله، وكفروا. فقيل: إنهُ ذهب يسيح فى الأرض، ومر بجماعة يصطادون السمك، وكانوا اثنى عشر رجلا ومعهُُ أمه. فقال عيسى عليه السلام: ما تصنعون. قالوا نصيد السمك. قال: أفلا تمشون حتى نصيد الناس لحياة الأبد، قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عيسى بن مريم عبد الله ورسوله، فسألوه آية تدل على صدقه. وكان شمعون وهو رئيسهم، قد رمى بشبكة فى الماء، فدعا الله عيسى فاجتمع فى الشبكة من السمك ما كادت تتمزق من كثرته، ومعهُ يعقوب ويوحنا فاستعانوا بأهل سفينة أخرى، وملأوا السفينتين من السمك، فآمنوا به وانطلقوا يصطادون الناس إلى دين الله تعالى، فهم الحواريون القائلون: نحن أنصار الله، وروى أيضاً أن مريم عليها الصلاة والسلام، قد سلمت عيسى إلى أعمال شتى - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - وكان آخر من سلمته إليه قصارين صباغين، دفعته إلى رئيسهم ليتعلم منهم فاجتمع لهُ ثياب، وعرض له سفر، فقال لعيسى: إنك قد تعلمت هذه الصنعة وأنا خارج للسفر ولا أرجع إلى عشرة أيام، وهذه ثياب مختلفة الألوان وقد علمت على كل واحدة بخيط، على الآخر الذى يصبغ له، وأريد أن تفرع منها وقت قدومى. وخرج المعلم إلى سفره، فطبخ عيسى حبا واحداً على لون واحد، وأدخل فيه جميع الثياب وقال: كونى بإذن الله على ما أريد منك، ثم قدم الرجل فقال لعيسى: ما فعلت؟ قال: فرغت منها. فقال: وأين هى؟ قال فى الحب. قال: كلها؟. قال نعم. قال: لقد أفسدت على الثياب. قال عيسى: لا.. ولكن قم فانظر. وقام عيسى وأخرج ثوباً أحمر وثوباً أخضر، وثوباً أصفر، وثوباً أسود، حتى أخرجها كلها على الألوان التى يريد، فجعل الرجل يتعجب، وعلم أن ذلك من الله تعالى، فقال للناس: تعالوا فانظروا، فآمن به هو وأصحابه، فهم الحواريون. وروى أن أحداً من الملوك صنع طعاماً، وجمع الناس عليه، وكان عيسى - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - على قصعة من قِصَاعه فكانت لا تنقص، فذكروا الواقعة لذلك الملك فقال لهم: أتعرفونهُ؟ قالوا: نعم.. فذهبوا وجاءوا بعيسى - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - إليه فقال: من أنت؟ قال عيسى بن مريم فقال له إنى أترك ملكى وأتبعك، وتبعه ذلك الملك مع أقاربه، فهم الحواريون. والأظهر أن هؤلاء كلهم الحوارين، فمنهم ملوك، ومنهم قصارون وصباغون ومنهم صيادون.
{ آمَنَّا بِاللَّهِ }: إنه ربنا لا غيره.
{ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }: ديننا دين الإسلام، لا يهودية ولا نصرانية أو منقادون لما يأمر الله به، أو ينهى عنه، واستشهدوا عيسى بإسلامهم ليؤدى شهادته عنهم يوم القيامة. يوم تشهد به الرسل لمن أجابهم، وأجيز أن يكونوا طلبوا الشهادة من الله تعالى.