{ لَنْ تَنَالُواْ الْبِرَّ }: البر: إما العمل الصالح وإما ثواب الله ورضاه فإذا كان بمعنى العمل الصالح، ففيه وجهان: الأول أن يقدر مضاف، أى لن تنالوا ثواب البر، أى ثواب العمل الصالح، والثانى أن لا يقدر، ولكن المعنى لن تبلغوا كمال الخير وحقيقته، وفسر بعضهم البر بالتقوى، وهى داخلة فى اسم العمل، ولو كانت تركا، لأن الترك لله سعى فيما يقرب إليه وفسره بعض بالطاعة، ووجه اتصال الآية بما قبلها، إنما قبلها فى أن الكافر لا ينتفع بإنفاقه والمؤمن ينتفع به، فدين الله تبارك وتعالى بها كيفية الإنفاق النافع للمؤمنين وهم المخاطبون بها.
{ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ }: والآية فى النفقة المندوب إليها على الصحيح، لا فى الزكاة، وكل شىء كان لنفس مالكه، أدنى قليل من الحبِّ له وأنفقه، ولو كان أحقر شىء، فقد دخل فى قوله { مِمَّا تُحِبُّون } فعن الحسن: كل شىء أنفقه المسلم من ماله يبتغى به وجه الله، ويطلب ثوابه حتى التمرة، فإنه يدخل فى قوله: { لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّون } وفى رواية عنه أن النفقه فى الآية هى الزكاة وكذا روى عن ابن عباس والضحاك، فقيل: نسخت بآية الزكاة على أن هذه فى إخراج الزكاة، وعطاء أفضل المال فيها، ونسخ لزوم إعطاء الأفضل، ووجب الأعدل من المال، وقال القاضى: الآية فى نفقة التطوع والواجبة، والجمهور على أن الآية فى النفقة المندوب إليها، "كان عبد الله بن عمر يشتهى أكل السكر بالموز، فكان يشترى ذلك، ويتصدق به، وكان مريضاً، فاشتهى سمكة طرية فحملت إليه على رغيف فقام سائل بالباب، فأمر بدفعها إليه، ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أى ما أمرؤ اشتهى شهوة فرد شهوته، وآثر على نفسه، غفر الله لهُ" . قال حمزة ابن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر خطرت على قلبه هذه الآية: { لَنْ تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } قال عبد الله: فذكرت ما أعطانى الله فما شىء أحب إلى من فلانة، فقلت: هى حرة لوجه الله تعالى. قال: ولولا أنى لا أعود فى شىء جعلته لله لنكحتها. وروى أن ابن عمر خرج فاشتهى عنباً، وذلك فى الشتاء فخرج بنوه، فاشتروا لهُ عنقوداً بدرهم، فلما أتى به أخذ منه حبة، فإذا سائل يسأل، فأعاد الحبة فى موضعها، ثم قال: يا سلام ناوله العنقود، ثم اشتراه منه بدرهم ثم جاء به إليه، وقال: كل شهوتك، فأعاد السائل، فأعادها إلى موضعها وفعل كالأول، فكان كذلك إلى ثلاث مرات ومات ابن عمر ولم يأكله. وعن عمرو بن دينار: "لما نزلت هذه الآية { لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون } جاء زيد بن حارثة بفرس يقال لها سيل، كان يحبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: تصدق بهذه يا رسول الله، فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأسامة بن زيد ابن حارثة، فقال: يا رسول الله إنما أردت أن أتصدق بها، وظن أن صدقته لم تقبل إذ تصدق بها على ولده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قبلت صدقتك" . وفى رواية: "كان زيد وجد فى نفسه فلما رأى ذلك منه النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: أما أن الله قد قبلها" . وروى أن أبا ذر نزل به ضيف، فقال للراعى: إيتنى بخير إبلى، فجاء بناقة مهزولة، فقال للراعى: لم جئتنى بها؟ فقال الراعى: وجدت خير الإبل فحلها، فذكرت يوم حاجتكم إليه. فقال: إن اليوم حاجتى إليه ليوم أوضع فى حفرتى، وعن مجاهد: كتب عمر بن الخطاب إلى أبى موسى الأشعرى أن يبتاع لهُ جارية من سبى جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى، فلما جاءته أعجبته، فقال: إن الله عز وجل يقول { لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون } فأعتقها.
والإنفاق فى الآية شامل للتحرير، فإذا حررت عبداً فقد أنفقت نفسه عليه، وشامل للنفع بالجاه والطاعة والنفع بالبدن والقتال، فقد يقتل فى الله فيكون أنفق نفسه فى الله. وفى رواية أنهُ اشترى جارية، فلما رآها أعجبته فأعتقها، قيل له: لم أعتقها ولم تصب منها؟ فقال: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، وروى أبو عبيدة عن جابر بن زيد عن أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة الأنصارى أكثر رجل مالا بالمدينة من نخل، وكان أحب مَالهُ إليه برحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من مائها وهو طيب، قال أنس: فلما نزلت هذه الآية { لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون } "قال أبو طلحة: إن أحب مالى بئر حاء، وأنها لصدقة لله، أرجو برها وأدخرها عند الله فضعها يا رسول الله صلى الله عليك وسلم حيث شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بخ بخ.. ذلك مال رابح، يروح بصاحبه إلى الجنة، وقد سمعت ما قلت وأنا أرى أن تجعلها فى الأقربين، قال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله. فقسمها أبو طلحة على أقاربه، وبنى عمه" ، وأنا هو - بتخفيف النون، وفتح الهمزة قبلها - وتجعلها هو بالمثناة الفوقية، وقوله فى الأقربين: أراد به أقارب أبى طلحة، وأفعل: هو مضارع للمتكلم مرفوع، ولعل قوله يروح بصاحبه إلى الجنة: تفسير من جابر أو من أبى عبيدة، ثم رأيت أنهُ غير مذكور فى صحيح مسلم وكذا لم يذكره القاضى، وقال القاضى: رابح أو رايح، وبرحاء: اسم واحد للبستان المذكور - بفتح بائه وكسرها وفتح الراء وضمها - والمد والقصر، فيعلا أو فيعلى من البراح: وهى الأرض المنكشفة، وليس بئراً مضافاً إلى حاء، كما قيل، والكلام على الحديث مبسوط فى شروح الكتب الحديث، وتكلم عليه الشيخ أبو عمر، ومحمد بن أبى ستة فى حاشية الصحيح، صحيح الربيع جازاهما الله بالجنة. وفسر بعضهم الآية بأن تنفق من مالك ما أنت محتاج إليه، وعن عبد الله ابن مسعود: إيتاء المال على حبه، أن تنفق وأنت صحيح شحيح تؤمل الحياة وتخشى الفقر. فتطيقه بالآية أن تقول ما للإنسان محبوب إليه، ما دام فى الحياة لم يخش الموت، فإذا أنفق منه فقد أنفق مما أحب، وعن أبى هريرة: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله أى الصدقة أفضل قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تهمل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا، إلا وقد كان لفلان" ومن التبعيض، كما قرأ عبد الله بن مسعود: حتى تنفقوا بعض ما تحبون، ويجوز أن تكون للبيان، أى: حتى تنفقوا شيئاً هو أفضل ما تحبون. قال القشيرى: من أراد البر فلينفق بعض ما يحب، ومن أراد البر فلينفق جميع ما يحب. وقيل: إذا كنت لا تصل إلى البر إلا بإنفاق محبوبك، فمتى تصل إلى البار وأنت تؤثر عليه حظوظك.
{ وَمَا تُنْفِقُواْ }: لله.
{ مِنْ شَىْءٍ }: أى من أى شىء محبوب، أو غيره و{ من } للبيان متعلقة بمحذوف نعت لـ { ما } الشرطية، أفاد النعمة تعميم المراد بما فى كل ما يطلق عليه لفظ شىء.
{ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }: يجازيكم بحسبه جزاء وجزائه لا يقدر قدره ومن ورائه فضله، والله أعلم وأحكم، وما توفيقى إلا به.
"وقالت اليهود للنبى صلى الله عليه وسلم: إنك تزعم أنك على ملة إبراهيم وكان إبراهيم لا يأكل لحوم الإبل وألبانها، وأنت تأكل ذلك فلست على ملته فقال النبى صلى الله عليه وسلم: كان ذلك حلالا لإبراهيم قالوا: كلما تحرمه اليوم؟ كان محرماً على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا؟ فأنزل الله عز وجل: { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِى إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ، عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ }" .