التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً
١٠٥
-النساء

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ }: نزلت هذه الآية فى طعمة بن أبيرق بن أبى ظفر بن الحارث من بنى ظفر، ويقال له أيضا: طعيمة بن أبيرق، وله ثلاثة أخوة: بشر وبشير ومبشر، وكان بشير رجلا منافقا يهجو أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم فى أشعاره وينسبها لغيره، فكان المسلمون يقولون: والله ما هو الا شعر الخبيث، فقال شعرا ينتفى من ذلك:

أفكلما قال الرجال قصيدة نحلت وقالوا ابن أبيرق قالها

قال قتادة بن النعمان: "كان بنو أبيرق أهل فاقة، فابتاع عمى رفاعه بن زيد دقيقا من دقيق الشام فجعله فى مشربة له، وفى المشربة درعان له وسيفان، فعدى على المشربة من الليل، فلما أصبح أتانى عمى رفاعة فقال: يا ابن أخى أتعلم أنه قد عدى علينا فى ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا، وذهب بطعامنا وسلاحنا، قال: فتحسسنا فى الدار وسألنا فقيل لنا: قد رأينا بنى أبيرق استوقدوا نارا فى هذه الليلة، ولا نراه الا على بعض طعامكم، وقد قال بنو أبيرق: نحن نسأل الله، والله ما نرى صاحبكم الا لبيد بن سهل.
قال قتادة: ولبيد هذا رجل صالح مسلم، فسمع لبيد ذلك، فاخترط سيفه ثم آتى بنى أبيرق فقال: والله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة، فقالوا: اليك عنا أيها الرجل، فوالله ما أنت بصاحبها، فسألنا فى الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لى عمى: يا ابن أخى لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بهذه القصة، فأتيته صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه فقال: أنظر فى ذلك، فلما سمع بذلك بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له: أسير بن عروة، فكلموه فى ذلك، واجتمع اليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ان قتادة بن النعمان وعمه عمدا الى أهل بيت منا أهل صلاح واسلام يرمونهم بالسرقة على غير بينة.
قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته فقال: عمدت الى أهل بيت ذكر منهم اسلام وصلاح فرميتهم بالسرقة من غير بينة، فرجعت ووددت أن أخرج من بعض مالى ولم أكلمه، فأتيت عمى فقال: ما صنعت فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله المستعان فلم نلبث أن نزلت الآيات، وارتد بعد ذلك طعمة صريحا وهرب الى مكة، فروى أنه نقب حائط بيت ليسرقه، فانهدم الحائط عليه فقتله"
، ويروى أنه تبع قوما من العرب فسرق منهم فقتلوه، وقيل: انه لما نزل القرآن فيه ارتد صريحا فهرب لمكة، ثم نقب الحجاج بن غلاط حائطا ليسرق فوقعه عليه حجرا ضره، ولما أصبح أخرجه أهل مكة، فلقى قوما من العرب فقال لهم: ابن سبيل ومنقطع به فحملوه، ولما جن الليل سرقهم ثم ركبوا فى أثره ولحقوه وضربوه بالحجارة حتى قتلوه، ويجمع بين هذا وما مر بأن ما مر من أنه مات تحت النقب أنه يشارف فيه الموت.
وقال ابن عباس:
"ان طعمة هذا سرق درعا من جار له اسمه قتادة ابن النعمان فى جراب دقيق" ، ويجمع بين هذا وما قبله بأن قتادة هذا سكن مع عمه رفاعة فى دار عمه، فذكر ابن عباس أن السرقة من قتادة، وما كانت من مال عمه وداره، قال ابن عباس: "فجعل الدقيق ينتثر من خرق وخبأها عند رجل من اليهود يسمى زيد بن السمين، فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد، وحلف ما أخذها ولا له بها علم، فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى الى منزل اليهودى، فأخذوها فقال: دفعها الىَّ طعمة وشهد له ناس من اليهود، فقال بنو ظفر: انطلقوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقوا فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا: ان لم تفعلوا هلك، وافتضح وبرىء اليهودى، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل لقول قومه: أن طعمة وأهله أهل اسلام وصلاح، وهمَّ أن يعاقب اليهودى، وقيل: همَّ أن يقطع يده فنزلت الآية" .
وذكر الحسن: أنه لما اتهم طعمة بالسرقة، وفشا القول فيه استودع السرقة عند الرجل اليهودى، ثم قال: انكم اتهمتمونى بالدرع، وما زلت أبحث وأسأل حتى وجدتها عند فلان اليهودى، فجاء قوم طعمة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه أن يعذر صاحبهم فنزلت الآيات. وقيل: ان زيد بن السمين ما ودع درعا عند طعمة فجحده، فنزلت الآيات ولعله كان ذلك كله.
{ بِمَا أَرَاكَ اللهُ }: أى بما أعلمك الله أياه بالوحى به اليك حقا أو بما أعلمك الله حقا بالوحى به اليك، والرؤية علمية، والمفعول الثانى والثالث مقدران تعدت اليهما بنفسهما، وللأول بالهمزة، ويجوز أن يكون من الرؤية المتعدية لواحد بمعنى العرفان، وتعدت للأول بالهمزة، فصار له اثنان، أى بما عرفك الله بتشديد راء عرفك وصيرك معتقدا له، ويجوز أن يكون مستعار من رؤية البصر برؤية العرفان للتأكيد، كأنما علمه بالوحى شىء يراه بالبصر، قال عمر رضى الله عنه: يقول: لا يقولن أحدكم قضيت بما أرانى الله تعالى، فان الله تعالى لم يجعل ذلك الا لنبيه عليه الصلاة والسلام، وأما الواحد منها فرؤيته بحق لا معرفة.
{ وَلا تَكُن لِّلخَآئِنِينَ خَصِيماً }: أى لا تكن من جهة الخائنين تخاصم لهم من يدعى عليهم أنهم خانوه، فاللام متعلق بخصيما لا على التقوية، بل على التعليل أو النفع، فليس الخائنين مفعولا لخصيما، والخائنون طعمة ومن ركن اليه من بنى ظفر، والمدعون عليه اليهود وقتادة ورفاعة.