التفاسير

< >
عرض

يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
١٣٥
-النساء

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ }: ملازمين القيام بالعدل مجتهدين فيه.
{ شُهَدَآءَ للهِ }: لوجه الله وهو خبر ثان للكون، أو حال من الضمير المستتر فى قوامين، والمراد بالقسط العدل مطلقا، فى تحمل الشهادة وفى أدائها، وفى الحكم، والأمر والنهى وغير ذلك، أى قوموا قياما عظيما بالعدل حال كونكم مقيمين الشهادة لوجه الله ان شهدتم، ويجوز أن يراد قوامين بالعدل فى أدائها، قاصدين فى أدائها وجه الله.
{ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ }: ولو شهدتم على أنفسكم، أو ولو كانت الشهادة على أنفسكم، بأن تقروا على أنفسكم، وتنصفوا على أنفسكم، لأن حقيقة الشهادة بيان الحق بحسب طاقة الانسان على نفسه، أو قريبة أو غيرهما كما قال:
{ ولو كان ذا قربى } ويجوز أن يراد بقوله: { وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ } ولو عليكم وعلى قرابتكم كذا ظهر لى، والله أعلم، والحمد لله، ثم أنى رأيته نصا فى قوله:
{ أَوْ الوَالِدَيْنِ وَالأَقرَبِينَ }: فليس ذلك بجائز، لأنه مذكور فى الآية بعد، فلا يراد بأنفسكم الولدان والأقربون، وعلى تتضمن الأضرار فى الجملة، أى ولو أقررتم على أنفسكم أو الوالدين والأقربين بما يكون وبالا عليكم أو عليهم، وثنى الوالد ولم يجمعه اعتبارا لأبوى كل واحد من المخاطبين، أو أريد جنس الأبوين الصادق بالآباء والأمهات، ويجوز أن يراد بقوله: { شُهَدَآءَ للهِ } شاهدين لله تبارك وتعالى بالوحدانية، وعليه فقوله: { وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الوَالِدَيْنِ وَالأَقرَبِينَ } متعلق بمعنى قوله: { قَوَّامِينَ } أى تقومون على أنفسكم وأجيز تعليقه بقوامين والمعنى الأول غير هذين مع تعليقه بشهداء، أو بكانت، أو شهدتم، أو أقررتم أو نحو ذلك أولا.
وقيل: الخطاب فى الآية لقرابة طعمة بن أبيرق، يقول لهم الله: لا تراعوا قرابة طعمة، فشهدوا له بما ليس حقا بل أشهدوا بما هو الحق ولو مضرة عليه، والأولى تعميم الخطاب، أمرنا الله جل وعلا أن نشهد بالحق، لا نركن الى غنى لغناه، ولا نثقل عليه لغناه، ولا نرحم فقيرا لفقره فنشهد له بما ليس له، كما قال الله جل وعلا:
{ إِن يَكُنْ غَنِياً أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا }: أى ان يكن المشهود عليه غنيا أو فقيرا أو كل واحد من المشهود عليه والمشهود له، وقرأ ابن مسعود عبد الله: ان يكون غنى أو فقير على أن كان لها فاعل، وليس لها خبر، ولا قول فى القرآن كان ناقصة اذا كان لها خبر، ولا أقول تامة اذا كان لها فاعل لا خبر تأدبا عن لفظ النقص، ولو كان معناه عدم الدلالة على الحدث، أو عدم المصدر، أو كان معناه الاحتياج، وذكر التمام فى بعض ألفاظ كان ملوح الى النقص فى غيرها، ثم ان لغة الفصحاء افراد ما يعود الى المعطوف والمعطوف عليه بأو التى لأحد الشيئين لا بمعنى الواو نحو: زيد أو عمرو قائم، ونحو: زيد أو عمر أو بكر قائم، لأن المراد أحد هؤلاء، وانما ثنى فى قوله: { فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا } لأن هذا من باب الاستخدام البديعى، فان ضمير التثنية عائد الى جنس الغنى والفقر، وجنس الغنى واحد، وجنس الفقر آخر، وذلك اثنان لا الى الغنى والفقير المفروض أن الشهادة لهما أو عليهما.
ويدل لذلك قراءة أبى: فالله أولى بهم الجمع أى بالأغنياء والفقراء، وليست نصا لجواز أن يضمر لاثنين ضمير الجمع لارادة الجنس، واعتبار عموم الجنس، لأن المفروض أن الشهادة لهما أو عليهما يتعددان، ومعنى الله أولى بهما أن الله أعلم بمصالحهما، ولولا أن الشهادة مصلحة لهما لما شرعها الله، فلا تشهدوا الغنى بما ليس له خوف فأمنه، أو طمعا فى ماله، ولا تشهدوا عليه بما ليس عليه تحاملا عليه، ولا تشهدوا على فقير بما ليس عليه احتقارا له ولا له بما ليس له ترحما قوله: { اللهُ أَوْلَى بِهِمَا } تعليل قائم مقام الجواب، أى ان يكن غنيا أو فقيرا فلا تشهدوا بما لا يجوز، أو لا تمتنعوا من الشهادة خوفا من الغنى أو طمعا فيه، أو ترحما على الفقر أو احتقار له، لأن الله أولى بالأغنياء والفقراء اذ هم عبيده.
{ فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعدِلُوا }: أى لأن تعدلوا، أى لأن تحكموا بالحق، وتكونوا عدولا أى لا تتبعوا الهوى لتتصفوا بالعدالة، ومن اتبعت هواه لا يكون عادلا، بل جائز أو يجوز أن يقدر ارادة أن تعدلوا، أى ارادة أن تتصفوا بالعدالة ضد الجور، والوجهان عائدان الى النهى، كأنه قيل: اتركوا الهوى ارادة العدالة أو لعدلوا، أو يجوز أن يكون المعنى لا تتبعوا الهوى كراهة ان تعدلوا بين الناس، أو لئلا تعدلوا بينهم فحذف لام التعليل ولا النافية، وفيه كثرة الحذف.
ويجوز أن يكون المعنى ارادة أن تعدلوا عن الحق، أو لتعدلوا عنه، وهذه الأوجه عائدة الى المنهى عنه، وهو الاتباع، وأوجه الآية كلها من العدل الا قولى ارادة أن تعدلوا عن الحق، أو لتعدلوا عنه، فمن العدول، واذا قدرنا المضاف ككراهة أو ارادة فالمصدر مما بعد أن مفعول لأجله، واذا قدرنا لام الجر فمجرور أو منصوب لاختلافهم فى المحل بعد حذف الجار، قبل أن وان.
{ وَإِن تَلْوُا }: أصله تلويوا من لوى يلوى، كرمى يرمى، ثقلت الضمة على الياء، فنقلت للواو قبلها، وسكنت الياء فحذفت لالتقاء الساكنين، أو حذفت الضمة فحذفت الياء بالتقائهما، وضم ما قبلها لواو الجمع، وقرأ حمزة وابن عامر: وان تلوا بضم اللام بعدها واو واحدة هى واو الجمع، من ولى يلى، حذفت الواو التى قبل اللام كحذفها من وعد يعد، ووزن يزن، والياء من بعد اللام لالتقاء الساكنين اذ نقلت ضمتها لثقلها الى اللام الساكنة قبلها، أو حذفت فضمت اللام لواو الجمع، والمعنى على قراءة الجمهور: وان تلووا ألسنتكم عن اقامة الحق فى الشهادة أو الحكم من لى الشىء بمعنى امالته، وعلى قراءة حمزة وابن عامر أن وليتم اقامة الشهادة أو الحكم فجئتم بالحق.
{ أَوْ تَعْرِضُوا }: عن أدائها بالحق أو الحكم به.
{ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }: فيجازيكم عليه، والآية تعم كل وساطة بين الناس، وعن ابن عباس: الآية فى الخصمين يكونان بين يد القاضى، فيكون لى القاضى واعراضه لأحدهما، وقال ابن زيد وغيره فى الشهود: يلوى الشاهد الشهادة بلسانه، ويعرض عن أدائها، وكذلك الولاية فى قراءة حمزة وابن عامر الحاكم أو الشهود.