التفاسير

< >
عرض

وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَٰتِ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ مُحْصَنَٰتٍ غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٍ وَلاَ مُتَّخِذَٰتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٥
-النساء

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } مصدر { يَنكِحَ } بدلا من { طَوْلاً } بدل اشتمال، والرابط محذوف، والطول: الغنى أى طولا نكاح المحصنات المؤمنات به، ويجوز أن يكون طولا، بمعنى نيلا، فيكون مصدر { يَنْكِحَ } مفعولا به لطولا، فيكون ذلك من أعمال المصدر المنون، وذلك أنه يقال: طلت الشىء بمعنى نلته، وأصل الطول الفضل والزيادة، وسمى به الغنى، لأنه ينال به ما لا ينال مع الفقر، والمحصنات المؤمنات: الحرائر المؤمنات.
{ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ }: أى فانكحوا بعضاً مما ملكه إخوانكم المؤمنون من إمائهم المؤمنات، وذلك أن الإنسان لا يتزوج أمة نفسه وتسرى أمة نفسه لا يشرط فيه عدم استطاعة الطول، فظهر أن المراد تزوجك بأمة أخيك المؤمن، بشرط عدم استطاعة نكاح الحرة، كما ذكر وشرط من خوف العنت كما يذكر بعد، فذلك شرطان، وشرطاً ثالثاً، هو الإيمان، كما قال { المُؤْمِنَاتِ } وعدم الطول: أن لا يكون عند ما يتزوج به الحرة، ويقوم بمئونتها، ولو وضيعة، ويلتحق بذلك ما إذا لم يجدها، بأن امتنعن منه، وقد وجد ما يصدق ويقوم بها والمراد بالغنى هنا ما يطيق به الحرة صداقاً ومؤنة، فما نعت لمفعول محذوف، أى فانكحوا بعضاً مما ملكت أيمانكم أو فتيات مما ملكت أيمانكم، ويقدر مضاف، كما رأيت أى إيمان إخوانكم، ومن الثانية بيان متعلقة لمحذوف حال منها، والفتاة الشابة مطلقاً فى أصل اللغة، والمراد هنا الأمة شابة أو غيرها وذلك عرف للعرب، ونكاح الأمة أيسر بقلة صداقها، وإنما قل لنقصها ولأنها تشتغل بخدمة سيدها، فمن انتهى عليه إذا كانت عنده وعلى زوجها، إذا كانت عنده. قال عمر رضى الله عنه: أيما رجل تزوج أمة فقد أرق نصفه يعنى يصير ولده رقيقاً، وإنما منع الحر من نكاحها إلا بالشرطين لأن ولد الأمة عبد ولو كان زوجها حرا ففى تزوجها تنقيص الولد، وللولد على أبيه أن يختار له أفضل ما يجد من النسب، ولأن السيد أعظم حقا من الزوج إذا اجتمع السيد والزوج على الأمة إذ لسيدها استخدامها إلا وقت احتياج الزوج لجماعها، ولأن له بيعها ولو أبى الزوج، ولأن مهرها ملك لسيدها، فلا تقدر أن تهبه أو بعضه لزوجها، ولأن الأمة قد تعودت الخروج ومخالطة الرجال، وهى داعى وقاحة وزنى، وخرج بقوله عز وجل { المُؤْمِنَات }: الإماء الكتابيات، فلا يجوز نكاحها، ولو وجد الشرطان لاجتماع الرق والشرك، ولا يجوز تسريها أيضاً لذلك خلافاً لابن عباد -رحمه الله - وقال ابو حنيفة: يجوز تزوج الأمة المسلمة والأمة الكتابية إن لم تكن فى عصمته حرة مسلمة ولو كان عنده ما يتزوج به الحرة المسلمة، وما يقام بها، ولم يخفف العنت، وروى جواز الأمة المسلمة ولو لم يخف العنت، ووجد الحرة عن على والحسن البصرى وابن المسيب ومجاهد والزهرى، وفسر أبو حنيفة ما فى الآية من المنع، بما إذا كانت عنده محصنة مؤمنة، وفسر النكاح بالوطىء، فمن استطاع وطء حرة مؤمنة هو من كانت هى عنده زوجة، مع ذلك رأى هو وعلى ومن ذكرته: المنع فى الآية تنزيهاً وإرشاداً لا تحريماً، ويجوز للعبد نكاح الأمة نكاح الأمة ولو أطاق الحرة، ولم يخف العنت، أو كانت تحته حرة. وقال أبو حنيفة: لا يجوز له تزوج الأمة إن كانت تحته حرة.
{ واللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ }: تحقيقاً فلا تكلفون إيمان الإماء على الحقيقة، بل اكتفوا بما ظهر من إيمانهن، فيجوز لكم تزوجهن على ما ظهر من إيمانهن، ولا تعتبر تفاضل الإيمان بينكم وبينهن، فإنكم لا تحققونه فرب أمة أفضل إيماناً من حر أو حرة واعتبروا مطلق الإيمان فاستبيحوا نكاحهن لفضله، ولا يمنعكم منهن ما فيهن من خسه بالرق، فقد جبرت بالإسلام الذى هو المعتبر مطلقاً لا لفضل النسب، فإن الناس كلهم من آدم وحواء، ففى الإماء أيضاً نسب يجمعكم، كما قال الله جل وعلا.
{ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ }: أى أنتم وإمائكم كشىء واحد لاتفاق النسب ودين الإسلام، قال على:

الناس من جهة التمثيل أكفاءُ أبوهمُ آدمٌ والأم حواء

وكانت العرب تفتخر بالأنساب وتبالغ، والآية رد عليهم فى المبالغة، وعن ابن عباس: معنى الآية أن المؤمنين بعضهم أكفاء، جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم.
{ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ }: أى ملاكهن، فمن تزوجت بغير إذن سيدها فهى زاينة، لقوله صلى الله عليه وسلم:
"العاهر هى التى تنكح نفسها" وهذا فى الحرة والأمة أو فى الحرة تكون الأمة أولى بذلك، وإن زوجت نفسها بلا إذن أو بإذن، فإن أجاز بعد العقد، وقبل الدخول جاز وقبل بعد العقد، وإن أجاز بعد الدخول لم يصح، وقد حرمت وإن كانت ملكاً لامرأة فلتوكل رجلا يزوجها، وأجاز أبو حنيفة أن تزوج المرأة أمتها وأن يقول السيد والسيدة للأمة زوجى نفسك، فتزوج نفسها، فيصح ولو لم يتكلم بالإجازة بعد العقد، لقوله { بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ }. وأما الطفل والمجنون فيزوج أمتهما وعبدهما وليهما، وقيل: لا يزوجهما، وقيل: يزوج أمتهما بعبدهما، ومجيز تزويج الطفل المميز وليته يجيز تزويجه أمته أو عبده أو توكيله والإذن فى الشىء إجازته، وفسرته السنة بأن يقول سيدها ومثله ولى المرأة فى تزويجها: زوجتكها.
{ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ }: يقدر مضاف أى أدوا إلى مواليهن مهورهن لأنهن ملك لسادتهن، فمهورهن لهم، ودخل فى ذلك أن مهر أمة المرأة للمرأة وتعطاه ولا يعطى مهر أمة الطفل أو المجنون له بل لقائمه، وروى بعض أصحاب مالك عن مالك أن مهر الأمة ملك لها فتعطاه متمسكاً بظاهر الآية، وليس كذلك لظهور أن مال المملوك لسيده، فيقدر مضاف كما رأيت، ويجوز أن يقدر بإذن أهلهن أو به، أى: وآتوهن أجورهن بإذن أهلهن، أو آتوهن أجورهن به، أى بإذنهم، فحينئذ لا يقدر مضاف، ودل على هذا المحذوف ما قبله، أعنى ناسب ما قبله، تقدير ذلك، وإلا فالدليل خارجى وهو أن مال الإنسان لا يمكن لآخر إلا بإذنه، ودلت الآية أن النكاح لا يكون بلا صداق وحكى بعضهم الإجماع على أن مهر الأمة لسيدها لعدم الاعتداد بالقول المذكور عن مالك، أو لرجوج مالك عنه، أو لعدم صحته عنده عن مالك أو لأنه لم يطلع عليه.
{ بِالْمَعْرُوفِ }: متعلق بآتوهن، ومعنى المعروف: أن يعطوا أجورهن بلا مطل ولا ضرار، ولا نقص، عما عقد عليه، وقيل: متعلق بمحذوف حال من أجورهن، أى آتوهن أجورهن معبرة بالمقدار المعروف لأمثالهن، وهذا ضعيف لأن لمولى الأمة أن يزوجها بصداق تستحق أكثر منه، وإنما الممنوع أن يزوجها على أن لا صداق لها.
{ مُحْصَنَاتٍ }: حال من الهاء فى { آتوهن } أى مزوجات لكم.
{ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ }: غير زانيات، حال ثان من هاء آتوهن، وحال من المستتر فى محصنات، بمعنى أحصن أنفسهن بالإسلام أو أحصنهن الله.
{ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ }: أخلاء واحد بعد واحد، يرفثن معهم بالكلام وانكشاف ما لا يحل كشفه، بلا زنى، ويجوز أن يكون غير مسافحات بمعنى غير مجاهرات السفاح وهو الزنى ولا متخدات أخدان بمعنى ولا متخذات أخلاء فى السر للزنى.
{ فَإِذَآ أُحْصِنَّ }: أحصنهن المولى بالتزويج، أو أحصنهن الزوج بالتزوج، وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائى بالبناء للفاعل، أى إذا أحصن أنفسهن أو أحصن فروجهن، أو أحصن أزواجهن.
{ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ }: أى بزنى.
{ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ }: أى الحرائر التى لم يتزوجن.
{ مِنَ الْعَذَابِ }: والذى عليهن منه مائة جلدة فللإماء خمسون وهو نصفها تزوجن أو لم يزوجن، فالعذاب الإيلام بالجلد لا بالرجم، لأن الرجم لا يتنصف وليس قوله { فَإِذَآ أُحْصِنَّ } شرطاً لتنصيف بل هو بيان لكونهن مع التزوج لا يجاوزن خمسين جلدة وإن حدهن لا يزيد بالتزوج على الخمسين بل يبقى خمسين، كأنه قيل: يبقى حدهن على الخمسين إذا أحصن وهذه العبارة تفيد كونه قبل التزوج وبقاءه عليهن بعده والأظهر أنه صلى الله عليه وسلم قد عرف قبل نزول الآية أن حدهن الخمسون هكذا، فنزلت الآية تبين بقاءه مع التزوج دفعاً لتوهم ارتفاعه كما يرتفع حد الحرة معه، وكذا حد العبد، وقيل: إن لم يحصن العبد أو الأمة جلد أربعين جلدة، وقال طاووس لا حد على من لم يتزوج من المماليك لظاهر قوله تعالى: { فَإِذَآ أُحْصِنَّ }. وعنه صلى الله عليه وسلم:
"إذا زنت أمة أحدكم فليحدها، ثم إذا زنت فليجلدها، ثم إذا زنت فليحدها، ثم إذا زنت فليبعها ولو بظفير" أى لعلها تنحصن عند مشريها إما بهيبته أو إحسانه، أو تزويجه إياها أو تسرية. وفى رواية كلما قال فليحدها زاد ولا يعتقها.
{ ذَلِكَ }: أى نكاح الأمة عند عدم الطول.
{ لِمَنْ خَشِىَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ }: أى لمن خشى الزنى، سمى عنتاً لأن العنت المشقة، والزنى سبب للمشقة الحاصلة لعذاب الدنيا والآخرة، ويجوز أن يكون المعنى لمن خشى المشقة فى تحمل عدم الوطىء ثم رأيت مثله للخازن والحمد لله، ولا يتزوج أمة على حرة، كتابية ولا يتزوج الحر الأمة واحدة، روى عن ابن عباس ذلك، وعن سعيد بن المسيب والحسن: يتزوج الحرة على الأمة فيكون للحرة يومان، وللأمة يوم، والنفقة كذلك، ولو كانت الحرة كتابية، والأمة مسلمة، وكذلك عن على، وقيل: المراد بالعنت: الحد، وقيل: أصل العنت انكسار العظم بعد الجبر، ثم استعير لكل مشقة.
{ وَأَنْ تَصْبِرُواْ }: متعففين من الزنى.
{ خَيْرٌ لَّكُمْ }: قال سعيد بن جبير: ما نكاح الأمة إلا قريب من الزنى ما رخص الله فيه، إلا إذا لم يجد طولا وخشى العنت، وقال مع ذلك { وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُم } ذلك ذكر الشيخ هود -رحمه الله تبارك وتعالى: ألا قولى وقال مع ذلك { وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُم } والمراد إن تصبروا عن نكاح الإماء وذلك لأن ولد الأمة من غير سيدها عبد، وعنه صلى الله عليه وسلم
"الحرائر صلاح البيت، والإماء هلاك البيت" .
{ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }: إذ أباح لكم ما تحتاجون إليه ولم يعاقبكم إذا لم تصبروا عنهن فتزوجتموهن.