التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَٰبَ ٱلسَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً
٤٧
-النساء

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ }
الخطاب لليهود، وما نزلناه هو القرآن، وما معكم: التوراة، ويجوز أن يكون الخطاب لليهود والنصارى، وما معكم: التوراة والإنجيل ولا يمنع من تعميم الخطاب لليهود والنصارى، ما يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلم أحبار اليهود: عبد الله بن صوريا، وكعب بن الأشرف وغيرهما فقال:
"يا معشر اليهود اتقوا الله، وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذى جئتكم به لحق قالوا: ما نعرف ذلك، وأصروا على الكفر، فأنزل الله هذه الآية وأمرهم بالإيمان"
. { مِّنْ قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً }: أى نمحوها، فإن الطمس المحو وهو متعد، كما هنا، والطمس أيضاً: الاندراس، وهو لازم، وتنكير الوجوه للتحقير، ومعنى طمسها: إزالة الحواجب والعيوم والأنوف والأفواه فتكون كالجبهة ولا حسرة أشد من حسرة ذلك، إذ تعقبها أيضاً حسرة الآخرة.
{ فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا }: أى فتكون بذلك الطمس قد صيرنا على هيئة أقفيتنا ليس فيها صورة الحاجب وما ذكر، والفاء سببية لأن الإخبار بحال الشىء غير نفس الشىء، فصحت السببية فإن التصريح بالطمس غير التصريح بتحقق كونها كالقفا، بل كونها كالقفا مسبب عن الطمس، تقول: محيت ذنوب فلان فكان كطفل، والحاصل أن المحو غير الحاصل من المحو، وقد أظلت التكرير، ولا أدرى أيفهم أم لا؟ ولا بأس بتحصيل السببية بوجه لا خفاء فيه، وهو أن يؤول الطمس بإرادة الطمس، فيكون الرد على الإدبار بمعنى نفس الطمس، فهو مسبب عن إرادته، وهذه الإرادة قريبة من الفعل موافقة للإرادة الأزلية، ويجوز كون لتفصيل المجمل، فإن الطمس كما يطلق على المحو، يطلق على مطلق التغير ذاتاً أو شأناً ففسره بالتصيير على صورة الإدبار، وهى الأقفية ويجوز أن يراد بالطمس محو ما فى الوجه من حاجب وعين وأنف وفم، ويرد الوجوه على أدبارها: أن تجعل الحواجب والعيون والأنوف والأفواه فى الأقفية من وراء، كم يدل عليه كلام عبد الله بن سلام الآتى، وكلام كعب الأحبار الآتى، فيكون محل وجوههم كالجبهة أو كالقفا، والفاء على هذا التفسير لمجرد التعقيب لا سببية ولا تفصيل، وعن ابن عباس: خمس الوجوه: انتزاع العينين فقط وردهما فى القفا، والفاء أيضاً للتعقيب، وذلك كله فى الدنيا على ما يتبادر، فإذا كانت كذلك فى الدنيا، كانت فى الآخرة، وقيل: ذلك فى الآخرة، وعلى كل حال لم يقع فى الدنيا، أما على أن ذلك وعيد فى الآخرة فظاهر.
وأما على أنه وعيد فى الدنيا، فلأنه مشروط بعدم الإيمان وكفى فى رفع ذلك عنهم إيمان طائفة منها، وكما يرفع العذاب بحج من يحج، وبالصبيان فى المكتب، وبالبهائم الرتع، والصبيان الرضع فى الدنيا عن مستحقيه. وقيل: إن ذلك يقع فى الدنيا ولا تقوم الساعة حتى تمسخ طائفة من اليهود، روى أن عبد الله بن سلام لما سمع الآية أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتى أهله وأسلم، وقال: يا رسول ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهى فى قفاى. وهذا منه رحمهُ الله تفسير للطمس، بمحو تخاطيط الوجه وتصييرها فى محل القفا من خلف، وكذا قول كعب الأحبار فى خلافة عمر رضى الله عنه، فإنه لما سمع الآية قال: أسلمت يا رب قبل أن يصيبنى وعيد هذه الآية، وعن مالك: أول إسلام كعب الأحبار أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية { يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَاب.. } الآية فوضع كعب يده على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته فأسلم فكأنه قال: والله لقد خفت ألا أبلغ بيتى حتى يطمس وجهى. وقيل: إن الطمس غير متعين لأن الله جل وعلا أخبرنا أنه يفعل بهم إحدى الفعلتين، إما الطمس وإما اللعن كما قال:
{ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ }: على أن المراد لعنهم على لسان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كما لعنوا على لسان داود، وقيل: معنى طمس الوجوه إزالة احترامها وقبولها، ومعنى ردها على أدبارها أن يكسوها الذل والهوان، فإن الطمس تغيير فهو تغيير غير محسن، أو طمسها ما ذكر، وردها على أدبارها: ردها أو رد أصحابها إلى الشام إلى أذرعات منه وأريحا منه، وذلك بإجلاء بنى النضير وقريظة إليهما من أرض العرب، وسمى ذلك ردا لأنهم جاءوا منهما قديماً. وقيل: المراد بالوجوه الرؤساء، أى تغير حال رؤسائهم من العز إلى الذل والهوان، ومن النعمة إلى البؤس، ومن البلد إلى الغربة، وقال الحسن ومجاهد: الطمس إعماء أبصار القلوب عن الاعتبار، والأسماع عن الإصغاء إلى الحق، وردها هو ردها باختيارهم عن الهدى إلى الضلالة، والوجوه هو أنفسهم، وذلك تغيير بالجزء عن الكل، أو الرؤساء والأحبار، والفاء فى هذه الأقوال للتعقيب. وقال مقاتل: المراد بلعنهم مسخهم قردة وخنازير، والصحيح أن ليس المراد بلعنهم: مسخهم لجمع اللعن والمسخ فى قوله عز وجل:
{ من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير } وعلى القول الآخر: سمى المسخ لعناً أن فيه إبعاداً وطرداً، والهاء فى نلعنهم: لأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا، دل عليهم ذكر الوجوه، أو دل عليهم ذكرهم بطريق الخطاب فى قوله عز وجل: { يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَاب } على طريق الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، أو الهاء للوجوه على أن المراد بالوجوه الرؤساء.
{ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ }: الأمر هنا واحد الأمور، ومعنى الشىء الذى قضاه جل وعز من وعيد أو غيره، ولعل أصله أيضاً من الأمر ضد النهى على أنه بمعنى المأمور بالوقوع، أو المأمور به، فإن كثيراً ما يكون قدر الله بواسطة من يأمره الله بفعله، كالملك، والنبى، والدابة والطائر، بل لا مانع من إبقائه على أنه ضد النهى، أى: كان أمر الله بوقوع شىء أو بإيقاعه.
{ مَفْعُولاً }: يفعله الله أو من أمره الله بفعله فلا بد من وقوع الطمس والرد أو اللعن.