التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً
٥٨
-النساء

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُم أَن تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا }: عام فى كل أمانة يحل تبليغها حتى السلام، أو الكلام يقول لك الانسان بلغه الى فلان، فقلت فى قلبك أو لسانك وقلبك: نعم، وأما ما يحرم تناوله فلا يجوز تبليغه، ولو سمى لغة أمانة كأمانة نميمة أو خمرة أو دلالة على عورة مسلم، ومال حرام، طلب منك تبليغ ذلك الى من أراد الطالب تبليغه اليه، وهو أهله فى زعم الطالب، وليس بأهله، فلا يجوز.
ومجمع الأمانة أن كل ما فرض عليك الله، أو حرمه من حقوقه أو حقوق عباده، فهو أمانة تمتثل شأنها، وإن شئت فابسطها الى ثلاث: حق الله كالصلاة والصوم، وحق العباد كقضاء ديونهم وانفاق من لزمت نفقته، وحق الله والعباد، وهو ما لم يتعين صاحبه كالزكاة وأنواع الكفارات، أو الى ثلاث هكذا: اعمال القلب والجوارح فى عبادة الله، وكفها عن معصية الله، وأداء حقوق العباد.
وأما ما يستحب أو يكره فأمانة أذن الله لنا فى أدائها، وهو فعل المستحب، وترك المكروه، وفى تركها وهى مأمور بها أمر ندب، والذى فى الآية ما وجب أداؤه، ولك أن تعم الآية لهما على استعمال الكلمة فى معنييها أو مجازها وحقيقتها، أو على استعمال الأمر فى مطلق الطلب، وتناولت الآية العامة والخاصة كولاة الأمر، وعثمان بن طلحة، الذى نزلت الآية فى شأنه.
قال صلى الله عليه وسلم:
" "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالرجل راع فى أهل بيته وهو مسئول عنهم والعبد راع فى مال سيده وهو مسئول عنه " وعنه صلى الله عليه وسلم: " أد الأمانة الى من أئتمنك ولا تخن من خانك " وعنه صلى الله عليه وسلم: " لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له " .
وعن أنس: ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: " لا ايمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له " والآية نزلت فى عثمان بن طلحة الجحبسى من بنى عبد الدار، وليس عبد الدار أبا متصلا به، بل من أجداده، ولو قيل عثمان بن طلحة بن عبد الدار، وكان سادن الكعبة، أعنى خادمها.
قال ابن عباس:
"لما فتح النبى صلى الله عليه وسلم مكة، طلب مفتاح البيت من عثمان بن طلحة، فذهب ليعطيه إياه، فقال العباس: بأبى أنت وأمى اجمعه لى مع السقاية، فكف عثمان يده مخافة أن يعطيه العباس، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: هات المفتاح، فأعاد العباس قوله، وكف عثمان فقال النبى صلى الله عليه وسلم: هات المفتاح ان كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فقال هاكه يا رسول الله بأمانة الله، فأخذ المفتاح ففتح الباب ونزل جبريل بهذه الآية: { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُم } الآية فأعطاه أياه" .
وقوله: يا رسول الله ظاهره أنه آمن قبل نزول الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ان كنت تؤمن" الخ زجر عن منع المفتاح، كما تقول لمن آمن: ان كنت قد آمنت فافعل كذا، والمراد تحقق ايمانك، ويدل لذلك ما رواه محدث الأندلس أبو عمرو بن عبد البر، وابن مندة، وابن الأثير: "أن عثمان بن طلحة هاجر الى المدينة فى هدنة الحديبية سنة ثمان مع خالد بن الوليد، ولقيهما عمرو بن العاص مقبلا من عند النجاشى، فرافقهما وهاجر معهما، فلما رآهم النبى صلى الله عليه وسلم قال: رمتكم مكة بأفلاذ كبدها" والمعنى أنهم وجوه مكة، فأسلموا، ولما كان فتح مكة أسلم عثمان المفتاح الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رده اليه وقال: خذوها يا بنى طلحة خالدة مخلدة لا ينزعها منكم إلا ظالم.
وفي رواية جاء جبريل عليه السلام فقال: ما دام هذا البيت أو لبنة من لبناته قائمة فان المفتاح والسدانة فى أولاد طلحة، فكان المفتاح مع عثمان، ولما مات دفعه لأخيه شيبة، فالمفتاح والسدانة فى أولادهم الى يوم القيامة.
ومن حديث ابن عمر: أقبل النبى صلى الله عليه وسلم عام الفتح وهو مردف أسامة على القصواء، ومعه بلال وعثمان، حتى أناخ عند البيت ثم قال لعثمان: "ائتنا بالمفتاح" فجاءه بالمفتاح، ففتح الباب. ودل الحديث الذى يذكر فيه أن عليا لوى يده فنزع منه المفتاح أنه لم يؤمن إلا بعد الفتح، ولعله أسلم كما مر ثم ارتد أو داخله الشك، ثم تحقق ايمانه والحمد لله بعد الفتح، وذلك أنه روى أنه لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح، أغلق عثمان الكعبة، وصعد السطح فطلب صلى الله عليه وسلم المفتاح فقيل: انه مع عثمان فطلب منه فأبى وقال: لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه المفتاح، فلوى على بن أبى طالب يده وأخذ منه المفتاح، وفتح الباب، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى البيت، وأفسد ما كان فى البيت من التماثيل، وصلى ركعتين، وأخرج مقام ابراهيم ووضعه فى موضعه.
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله العباس أن يعطيه المفتاح، ويجمع له السقاية والسدانة، فنزلت هذه الآية، فأمر عليا أن يرده الى عثمان، ويعتذر اليه ففعل، فقال عثمان: أكرهتنى وآذتنى، ثم جئت ترفق، فقال: لقد أنزل الله فى شأنك قرآنا وقرأ الآية عليه، فقال عثمان: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
فهبط جبريل عليه السلام، وأخبر النبى صلى الله عليه سلم أن السدانة فى أولاد عثمان أبدا، ثم أن عثمان هاجر، ودفع المفتاح الى أخيه شيبة، فالمفتاح والسدانة فى أولادهم الى يوم القيامة، وهذه الهجرة غير واجبة عندنا، لأنها بعد الفتح، ثم رأيت فى المواهب: أن ابن ظفر قال قوله: لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه، وهم لأنه كان ممن أسلم فلو قال هذا كان مرتدا وانتهى.
وما تأولت به أولى من التوهم.
قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة، وهو يقرأ هذه الآية، وما سمعتها قبل فأعطى عثمان المفتاح، وروى أنه رد المفتاح الى عثمان، ورماه اليه فقال: إن الله قد رضيكم له فى الجاهلية والاسلام، وقال صلى الله عليه وسلم عام الفتح:
" كل مأثرة كانت فى الجاهلية تحت قدمى إلا السدانة والسقاية فإِنى قد أمضيتهما لأهلهما" " وقرىء: الأمانة بالافراد، وفتح التاء والأمانة مصدر سمى به الشىء المأمون عليه، وقيل: الخطاب فى الآية للولاة بأداء الأمانة والحكم بالعدل كما يناسبه قوله تعالى:
{ وَإِذا حَكَمْتُم بَينَ النَّاسِ أَن تَحكُمُوا بِالعَدلِ }: اذا: معطوف على اذا محذوفة، وكلتاهما خارجة عن المصدر، { وَأَنْ تَحكُمُوا } معطوف على { أَن تُؤَدُّوا } واذا: المحذوفة متعلقة بيأمر، والعطف من العطف على معمولى عامل، أى إن الله يأمركم اذا ائتمنتم أن تؤدوا الأمانات الى أهلها، واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، فلك أن تقدر يأمركم محذوفا بعد الواو، تتعلق به معطوفا على يأمركم المذكور بلا حاجة الى تقدير اذا، أى ان الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الى أهلها، ويأمركم اذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، وعلى هذا يتعلق: أن تحكموا بيأمر المحذوف، فانه على تقدير الباء، كما فى أن تؤدوا أو بأن تحكموا، ولا يصح تعليق اذ بيأمر المذكور بلا واسطة العطف على اذا محذوفة، إذ لا يحسن أن يقال: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الى أهلها إذا حكمتم بين الناس، وأن تحموا بالعدل.
اللهم أن يقدر مؤخرا عن بالعدل، فيتعلق بحصة أن تحكموا من يأمر المذكور، فان لقوله: أن تحكموا حصة فى يأمر، ولقوله: أن تؤدوا حصة فيه، فيتعلق بحصة أن تحكموا فيه.
والحاصل أنه يتعلق بيأمر باعتبار تسلط يأمر على أن تحكموا دون اعتبار تسلط على أن تؤدوا، ويتعلق بتحكموا، لأن معمول صلة أن لا يتقدم عليها خلافا للكوفيين، وسواء فى وجوب العدل فى الحكم أن يكون الحاكم من قبل الامام أو السطان، أو أن يكون حكمه الخصمان على الحكم المأتى يوما اذا قضى قضيته أن لا يجور ويعدل.
قال صلى الله عليه وسلم:
" المقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين وهم الذين يعدلون فى أنفسهم وأهلهم وما ولوا" " وقال صلى الله عليه وسلم: " أحب الناس إِلى الله يوم القيامة وأدناهم عنده مجلساً إِمام عادل، وأبغض الناس عند الله وأبعدهم منه مجلسا إِمام جائر " .
{ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ }: كسرت عين نعما تبعا للنون، وأصلها الكسر، ولكن كثر اسكانها جدا فكان الأصل فصار كسرها بعد اعتبار الاسكان تبعا للنون، مع أن كسر النون نقل من العين، فسكن العين، وأتبعت النون العين فى الكسر، ثم سكنت العين تخفيفا، أو أدغمت ميم نعم فى ميم ما، وفاعل نعم مستتر عائد الى مبهم يفسره التمييز الذى هو ما، وجملة يعظكم به نعت لما فهى نكرة موصوفة، أو ما فاعل نكره موصوفة أو معرفة موصولة بالجملة بعدها، والمخصوص بالمدح محذوف، أى تأدية الأمانة والحكم بالعدل.
{ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا }: عالما بأقوالكم.
{ بَصِيراً }: عالما بحكامكم وما تفعلون فى الأمانات.