التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً
٥٩
-النساء

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الأَمرِ مِنكُم }: أصحاب الأمر منكم، أى من ولى أموركم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعده، كأئمة العدل بعده صلى الله عليه وسلم، وأمراء الأجناد على عهده صلى الله عليه وسلم وبعده، والقضاء والحكام والعاملين، وكل من صحت له شرعا ولاية على المؤمنين فى مصلحة الدين أو الدنيا ما لم يدع لمعصية، ثم رأيت هذا العموم للزجاج والحمد لله.
قال السدى: نزلت فى خالد بن الوليد، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سرية وفيها عمار بن ياسر، فلما قربوا من القوم هربوا منهم، وجاء رجل إلى عمار قد أسلم فأمنه عمار، فرجع الرجل فجاء خالد فأخذ مال الرجل، فقال عمار: انى قد أمنته وقد أسلم، فقال خالد، تجير على وأنا الأمير، فتنازعا وقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجاز أمان عمار، ونهاه ان يجير الثانية على أمير، فأنزل الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الأَمرِ مِنكُم }.
وانما صح ذلك لخالد، لأنه ما أمن الرجل إلا بعد أن تغلب المسلمون على ماله، وكان ملكا لهم، وقد أمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل خالد فى المال، بأن جعله من الغنيمة، وأجاز أمان عمار فى نفس الرجل، قال:
" يجير على المسلمين أدناهم " أى يصح اجارة أدناهم.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما: نزلت فى عبد الله بن حذافة ابن قيس بن عدى السهمى، إذ بعثه النبى صلى الله عليه وسلم فى سرية.
وقال ميمون بن مهران والكلبى: ان أولوا الأمر أصحاب السرايا، واختاره البخارى، وروى فى ذلك حديث ابن مهران.
وقيل: هم العلماء، وبه قال أكثر التابعين، واختاره مالك والطبرى، وهو قول الحسن وعطاء، ومجاهد والضحاك، وجابر بن زيد، وابن عباس، قال ابن العربى: والصحيح عندى أنهم الأمراء والعلماء، أما الأمراء فلأن الأمر منهم، والحكم إليهم، وأما العلماء فلأن سؤالهم متعين على الخلق، وجوابهم لازم، وامتثال فتواهم واجب، ويدخل فيه تأمر الزوج على الزوجة، لأنه حاكم عليها انتهى.
وما مر عن الطبرى نسبه اليه ابن العربى، ونسب اليه الخازن أنه قال: أولى الأقوال بالصواب قول من قال: هم الأمراء والولاة، لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الولاة، والأئمة فيما كان طاعة لله عز وجل، أو مصلحة للمسلمين، وكذلك قال أبو هريرة: الأمراء، وهو رواية عن ابن عباس، قال على بن أبى طالب: حق على الامام أن يحكم بما أنزل الله، ويؤدى الأمانة، فاذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا، وعنه صلى الله عليه وسلم:
" إِن أمر عليكم عبد حبشى مجدع فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله " .
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِسمعوا وأطيعوا وإِن استعمل عليكم عبد حبشى كأنه رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله" " وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أطاعنى فقد أطاع الله ومن عصانى فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعنى ومن يعصى الأمير فقد عصانى " .
"ولما أمر أسامة بن زيد بن حارثة الى أهل أبنا قال قوم: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين، فخرج صلى الله عليه سلم وقد عصب رأسه، وعليه قطيفة فى مرض موته فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد أيها الناس ما مقالة بلغتنى عن بعضكم فى تأمير أسامة ولئن طعنتم فى إمارة أسامة لقد طعنتم فى أمارة أبيه من قبله وايم الله ان كان للإِمارة لخليقا وان ابنه من بعده لخليقا للإمارة وإن كان لمن أحب الناس الى فاستوصوا به خيرا فانه من خياركم " .
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره إلا أن يؤمر بمعصية فان أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " وقال عكرمة: أولى الأمر أبو بكر وعمر لرواية حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" "انى لا أدرى ما بقائى فيكم فاقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر " رواه الترمذى، وقيد أولى الأمر جميع الصحابة، لما روى عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" ، قال الحسن، عن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " "مثل أصحابى فى أمتى كالملح فى الطعام لا يصلح الطعام إلا بالملح " .
قال الحسن: قد ذهب ملحنا فكيف نصلح، أراد الحسن التلهف والتشبث بالحق، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد أن أصحابى تبقى الى قيام الساعة، به أراد أنها تبقى بعد فتتعلم الأمة منهم العلم والقرآن والسيرة، ويمضون بعد الصحابة على ذلك، أو أراد بقاء ما يروون عنه صلى الله عليه وسلم، فمن خالفه كان أمره كطعام بلا ملح، واختار الفخر الرازى: ان أولى الأمر المجتهدون لقوله تعالى: { ولو ردوه الى الرسول } الآية وهم المسلمون بأهل العقد والحل، والأمر واحد الأمور، أو ضد النهى، ومنكم حال من أولى، ومن تبعيضية.
{ فَإِن تَنَازَعتُم فِى شَىءٍ }: أى اختلفتم فيه، فكان كل ينزعه عن الآخر كما لكل واحد يقول: هو لى، وكالحق يقول: كل واحد الحق معى والخطاب للناس كلهم، أولى الأمر فيما بينهم، أو العامة فيما بينهم، وأولى الأمر والعامة.
وقال الكلبى: الخطاب للسرية وأميرها.
{ فَرُدُّوهُ إِلى اللهِ }: الى كتاب الله.
{ وَالرَّسُولِ }: بأن تسألوه فى حياته، او ترجعوا الى ما حفظتم عنه فى حياته أو بعده، ومعنى الرد أن لا يعلم المتنازعون حكم الله ورسوله ومسألتهم موجودة فى الكتاب أو السنة، فيحكم بينهم بها، أو يعلموا بعد التنازع فيرجعوا اليها بلا حكم، أو يعلموا هم أو بعضهم فيكابروا فيتركوا المكابرة، ويذعنوا أو يقهروا على الاذعان، أو تكون مسألتهم غير موجودة فيهما نصا، فيردوها اليهما بان يطلبوا استنباطها منهما فى الآثار، بأن تكون قد استنبطت منهما قبل، أو يطلب المجتهد أن يستنبطها منهما ان لم تستنبط قبل، أو لم يعلم أنها استنبطت، والاستنباط يحصل بالبناء على المنصوص عليه فيهما بالقياس، أو باعتبار المفهوم، فالآية مثبتة للقياس، وأظهر من هذا فى اثبات القياس أن نعتبر أن لا ننازع فى شىء منصوص عليه فى القرآن أو السنة، بل التنازع فى الآية انما هو فى شىء لم ينص عليه فيهما، فيجب رده اليهما بالقياس على المنصوص عليه فيهما، فبطل قول من استدل على نفى القياس، بأن الله جل وعلا أوجب الرد الى الله ورسوله دون القياس، جهلا منه بأن القياس رد اليهما.
ويؤيد اثبات القياس بالآية، أن الله جل وعلا أمر بالرد إليهما بعد ما أمر بطاعتهما، فالأمر بطاعتهما فيما نصا عليه، والأمر بالرد فيما لم ينصا عليه، فالأحكام ثلاثة: حكم بالقرآن، وحكم بالسنة، وهما فى قوله تعالى: { أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } وحكم بالقياس وهو فى قوله تعالى: { فَإِن تَنَازَعتُم فِى شَىءٍ } الآية، ولنا حكم رابع وهو حكم الاجماع، لكنه مستند الى الأولين أو الثالث، وداخل فى ذلك وهو مستفاد من قوله تعالى: { وَأُولِى الأَمرِ } على ما قال الفخر: من أن الله أمر بطاعتهم، والمأمور بطاعته لا يخطأ، والمعصوم من الخطأ مجموع الأمة أو بعضها، وليس بعض الأمة، لأن الأمر بطاعتهم مشروط بمعرفتهم، ولا يمكننا معرفتهم، فوجب أن يكون مجموع الأمة أى مجموع أهل الحل والعقد، وهم المجتهدون من الولاة.
وحاصل الأربعة اثنان، لأن القياس والاجماع مبنيان على القرآن والسنة، وذلك أن الاجماع عندى اجماع على حكم يستنبطه أهل العصر من القرآن أو السنة، أو من القياس عليهما، ولم يعلم من بعدهم بما استخرجوه منه، أو على حكم بحديث علمه أهل عصر، ولم يعلمه من بعدهم.
وأما الحكم بشرع من قبلنا على جوازه فمبنى على القرآن أو السنة، لأنا لا نقول: انه من شرع من قبلنا إلا أن وجدناه عن شرع من قبلنا فى القرآن أو السنة، هذا ما ظهر لى فى المقام، وعن أبى حازم: أن مسلمة بن عبد الملك قال: ألستم أمرتم بطاعتنا فى قوله: { وَأُولِى الأَمرِ مِنكُم } قال: أليس قد نزعت عنكم اذا خالفتم الحق بقوله: { فَإِن تَنَازَعتُم فِى شَىءٍ فَرُدُّوهُ إِلى اللهِ وَالرَّسُولَ } وقيل: معنى الرد الى الله ورسوله أن يقولوا الله أعلم.
{ إِن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الأَخِر }: جوابه محذوف دل عليه رده، بل أغنى عنه رده، والرد ولو وجب على من لم يؤمن لكن يعمل به من آمن، وشرط الايمان، لأن الايمان يوجبه، وفى ذلك تهديد من لم يؤمن.
{ ذَلِكَ }: الرد.
{ خَيرٌ }: أفضل مما تزعمون أن فيه فضلا، أو ذلك الرد منفعة لكم وصلاح.
{ وَأَحسَنُ }: مما هو حسن عندكم أو وحسن.
{ تَأوِيلاً }: عاقبة مصدر أولت الشىء سميت به عاقبته، فهو مصدر بمعنى مفعول، أى أحسن شيئا يصار اليه، أى شيئه الذى يصار اليه أحسن، فافهم كقوله تعالى:
{ هل ينظرون إلا تأويله } أى عاقبته لما يأتهم تأويله أى عاقبته، وذلك من آل يئول، والمآل المرجع، ومعنى أولت الشىء بكذا فسرت مآله بكذا، والمآل والمرجع والعاقبة بمعنى.