التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً
٧٧
-النساء

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ }: أى تعجب يا محمد بالذين.
{ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ }: عن قتال المشركين.
{ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَأَتُوا الزَّكاةَ }: واشتغلوا بعبادة الله، وهؤلاء هم المؤمنون آذاهم المشركون بمكة قبل الهجرة، فكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيذن لنا فى قتال المشركين، فقد آذونا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" كفوا أيديكم عن القتال فانى لم أومر به " فالقائل كفوا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الله لأنه تعالى هو ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال.
والذين قيل لهم هم: عبد الرحمن بن عوف، وهو من بنى زهرة، والمقداد بن الأسود من كندة، وقدامة بن مظعون الجمحى، وسعد بن أبى وقاص، وجماعة تسارعوا الى القتال وقالوا: يا رسول الله ذرنا نتخذ معاول فنقاتل بها المشركين.
وعن الحسن: قال عبد الرحمن بن عوف: ألا نأتى فى المشركين بمعاولنا فنقتلهم فى رحالهم، هذا قول الجمهور وهو المشهور عن ابن عباس، والآية دليل أن الزكاة فرضت فى مكة كالصلاة.
وقال مجاهد، عن ابن عباس: ان الآية فى قوم من اليهود، طلبوا موسى عليه السلام أن يقاتل بهم عدوهم، فنهاهم، ولما أمرهم بعد تولوا عن القتال وخشوه، ذكرهم الله وعاب ذلك منهم، زجرا للمؤمنين من هذه الأمة أن يكونوا مثلهم فى ذلك، أن يرغبوا فى القتال قبل الإذن فيه، ويعرضوا عنه بعد الإذن، وقيل: نزلت فى المنافقين.
{ فَلَمَا كُتِبَ }: فرض فى المدينة على المفعول الأول، أو كان وأما على الآخر فالأمر بالكف فى المدينة، والأمر بالقتال فيها أيضا، وأما على أن الكلام فى اليهود ففى بلادهم مع موسى عليه السلام.
{ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إِذَا }: حرف مفاجأة قرن بها جواب لما، والمانع من قرنه بالفاء، وإذا الفجائية يقدر لها جوابا، أى كانت فيهم الزلزلة والاضطراب إذا:
{ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ }: قوم منهم، ومنهم نعت فريق، وخبره جملة قوله تعالى:
{ يَخْشَونَ النَّاسَ }: أن يقاتلوا الكفار، كفار مكة ومن يشايعهم من الكفرة، رغبة عن الموت، أو يخشون قتل الكفار لهم.
{ كَخِشْيَةِ اللهِ }: خشية ثابتة كخشية الله، أو خشية مثل خشية، أو يتعلق بيخشون، أى خشية بأس الله الذى ينزل على من يشاء.
{ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً }: من خشية الله، وأشد حال مقدم على صاحبه، وهو خشية، وخشية معطوف بأو على المصدر المحذوف المنعوت بقوله كخشية الله، أو على الكاف فى جه جعلها اسما، ويجوز أن يكون كخشية الله متعلقا بمحذوف حال من الواو أو الكاف، أو الكاف اسم حال من الواو على تقدير مضاف، أى ثابتين كأهل خشية الله، أو مثل أهل خشية الله، فيكون أشد معطوفا على الحال المذكور بوجهيها، وخشية تمييزا، أى وأشد من أهل خشية الله.
وأما اذا جعلنا كخشية الله مفعولا مطلقا، أى خشية ثابتة كخشية الله، أو مثل خشية الله، فلا يجوز عطف أشد على خشية، على أن يكون أشد مجرورا بالفتحة لا منصوبا، لأن الخشية لا توصف بأنها خاشية، فضلا عن أن يقال: أنها أشد خشية، ولأن اسم التفضيل لا يكون من جنس ما بعده اذا كان ما بعده منصوبا، اللهم إلا على سبيل المبالغة والتجريد، بأن أكد الخشية حتى جرد منها خشية، أو أن يقال: ان اسم التفضيل وتمييزه هنا واحد، لأن ذلك قد يكون فلا يلزم أن يكون للخشية خشية، كقراءة
{ فالله خير حافظا } ان جعلنا حافظا تمييزا فانه كخير حافظ بالجر لو قرىء به، فيجوز جر أشد بالفتح عطفا على لفظ الجلالة، كأنه قيل: كخشية الله، أو كخشية انسان أشد خشية. وأو معنى الواو عطفت خاصا على عام، كما تقول: زيد جيد وأجود الناس، وعالم وأعلم الناس، أو بمعنى بل، أو الشك باعتبار غير الله سبحانه وتعالى، أى يشك الانسان الناظر فى خشيتهم، أهى كخشية الله أو أشد وتقدم الكلام على مثله.
{ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتَالَ لَولا أَخَّرْتَنَا إِلىَ أَجَلٍ قَرِيبٌ }: أراد القول بألسنتهم، وا لله أعلم، وأجيز أن يكون بقلوبهم بلا نطق، والاستفهام تعجب، ولولا حرف تحضيض، والأجل القريب أجل الموت الذى لا بد منه، وأرادوا الموت بلا قتل، وذلك أن يموتوا فى فراشهم، أو زعموا أن المقتول مات بغير أجله، وهذا أنسب بالمنافقين، فهو مما يقوى أن يراد بالذين قيل لهم المنافقون، ويقويه أيضا أن ما بعد من الآيات فيهم وهو أيضا أنسب باليهود.
واذا قيل: الذين قيل لهم هم المؤمنون فالأجل القريب الوقت الذى يظهر فيه الاسلام، ويكثر عدد أهله، أو أجل الموت الموهوم بلا قتال، لأن البشر مطبوع على حب الحياة، ولو كان مؤمنا، بالمؤمنون ان قالوا ذلك على هذا الوجه فلعلهم قالوه فى نفوسهم، أو بالطبع أو باللفظ، وذلك خوف وجبن، ثم تابوا.
وقيل: قالوا ذلك كراهة لقتل آبائهم وأبنائهم وأقاربهم، وليس تعرضا لأمر الله، لأن المؤمن لا يتعرض، وقد قيل: إن ذلك سؤال طلب حكمة، ويناسبه أنهم لم يجابوا بالتوبيخ، بل أمر الله نبيهم أن يباشرهم بالجواب، بأن متاع الدنيا قليل، وأن الآخرة خير لمن اتقى، وبالموت بالقتال الشهادة المقتضية للتمتع الكثير الدائم، والرزق بعد الموت وبعد البعث، فلا تؤثروا القليل الفانى وهذا حكمة أجيبوا بها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" "والله ما الدنيا فى الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه وأشار الى السبابة فى اليم فلينظر بم يرجع" .
{ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالأَخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى }: قل يا محمد لهم: تمتع الدنيا، أو ما يتمتع به منها قليل كماً وزماناً لفنائه، وأيضا متكدر، والآخرة أى متاعها خير من متاع الدنيا لكثرته ودوامه، وعدم تكدره، وقد يدخل التكدر فى القلة، لأن النعمة اذا تكدرت زال التلذذ بها أو نقص حتى يزول الكدر أو يستأنس به، ولمن اتقى متعلق بخير، أو بمحذوف حال من الضمير فى خير، ان جعل خير اسم تفضيل باقيا على معناه، أو خارجا وبمحذوف وجوبا نعت لخير ان جعل بمعنى منفعة.
{ وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً }: لا ينقص من ثوابكم مقدار الخيط الرقيق الذى يكون فى شق نواة التمرة، أو ما يفتل من الوسخ بين الأصبعين، ففتيلا مفعول ثان لتظلم على حذف مضاف، كما رأيت لتضمينه معنى النقص المتعدى لاثنين، ويجوز أن يكون مفعولا مطلقا بمعنى ظلما ما، واذا كان الأمر كذلك فلا ترغبوا عن القتال، ويجوز أن يكون لا نقص من آجالكم بالقتال شىء، أو لا تظلمون فى آجالكم ظلما ما، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائى، ولا يظلمون بالتحتية على طريق الالتفات، أو على أنه خارج عن حكاية القول.