التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ
٣
-الدخان

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ } أي الكتاب من اللوح المحفوظ اى السماء الدنيا*
{ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } ليلة القدر ونسخه الملائكة فيها ثم كان جبرائيل ينزل به وهو في بيت العزة نجوماً على حسب الوقائع ثلاث آيات وأربعاً وخمساً وأقل وأكثر وهي المراد بمواقع النجوم.
وذلك قول قتادة والحسن وابن زيد والجمهور.
وقال عكرمة الليلة المباركة ليلة النصف من شعبان وتسمى ليلة النصف من شعبان الليلة المباركة وليلة البراءة وليلة الصك وليلة الرحمة وسميت ليلة البراء وليلة الصك لان البندار اذا استوفي الخراج من أهله كتب لهم البراءة في الصك والله عز وجل يكتب للمؤمن البراءة من النار ليلة النصف من شبعان وانه قام بشرائط العبودية ويكتب للكافر البراءة من الجبار وانه استخف بحق الله وانما سميت ليلة مباركة لانها ذات بركة في ذاتها أو لمجاورة الملائكة فيها للآدميين وقربهم.
وفي الحديث يسح الخير ليلة النصف من شعبان سحاً وكذلك سميت ليلة الرحمة لنزول الرحمة وتسمى أيضاً ليلة القسمة للارزاق وليلة التقدير لما يقضي الله فيها وتنسخ السفرة الكرام فيها اسم كل من يموت من شعبان الى شعبان ويعطون النسخ لملك الموت فيها وينتظر الوقت وقيل في ليلة القدر والصحيح الأول وان الرجل ليظلم ويفجر ويحج وينكح يعرش ويبنى وقد نسخ اسمه من الاحياء ولا ليلة أفضل منها بعد ليلة القدر والتحقيق ليلة المولد فليلة القدر فليلة الاسراء فعرفة فالجمعة فليلة نصف شعبان فليلة العيد وكذا أيامها والليل أفضل من النهار وقيل النهار وهذا في غير تلك الليالي أما هن فأفضل من نهرتهن والملك يقبض كل ذي روح.
وقالت المعتزلة: (الثقلين فقط) والمبتدعة (ان أعوانه يقبضون أرواح البهائم) دونه وخص ذكر النكاح والغرس ونحوهما لعظمهما وغيرهما كذلك ويقبض ولو في البحر على الصحيح ويقبض روح نفسه عند بعض.
والصحيح ان الله يقبضها وذلك بعد فناء الخلق وظاهر القبض ان الروح جوهر.
وعن ابن عباس: (تقضى الأقضية) كلها ليلة النصف من شعبان) أي تظهر للملائكة وقضاؤها أزلي وتعطى لأربابها ليلة القدر فقيل أربابها جبرائيل وعزرائيل وميكائيل تعطى نسخة الأرزاق لميكائيل ونسخة الحرب والزلزلة والصاعقة والخسف لجبرائيل ونسخة العمل لاسماعيل صاحب سماء الدنيا ليفتح السماء للعمل المقبول والذي لم يؤمر برده ونسخة الموت لملك الموت وكذا المصائب.
وفي رواية تعطى ليلة السابع والعشرين فهى ليلة القدر وأول من يعلم بموت الانسان حافظه لانه يعرج بعمله وينزل برزقه فيرى ان لا رزق له.
وكان صلى الله عليه وسلم يكثر الصوم حتى يقال انه لا يفطر والافطار حتى يقال لا يصوم وأكثر صيامه في شعبان فقالت له عائشة فقال فيه:
"انه شهر ينسخ فيه لملك الموت من يقبض وأرجو أن ينسخ اسمي وأنا صائم" ومراده أن ينسخ أثر الصوم لان النسخ ليلاً والصوم نهاراً أو لعله قال ذلك لانه يواصل ان شاء لو النسخ نهار والتسليم لملك الموت ليلاً والصوم متقدم على ليلة النصف والا فمعنى صائم عازم على الصوم وبركة الصوم تعود على ما قبله.
وروي انه يكثر الصوم فيه ليموت صائماً ان مات فيه. وقال أيضاً بعد سؤاله أكثر صومه لغفلة الناس فيه ولرفع صحائف الأعمال الى الله فيه ويثبت التعليل بجميع ذلك وكان يتحرى أيضاً صوم الاثنين والخميس لعرض الأعمال فيهما على الله عالماً بها فقيل تعرض فيهما مفصلة وأعمال العام في شعبان وغيره مجملة وقيل كل يوم وليلة يعرض تفصيلاً والجمعة والعام اجمالاً وقيل اليوم والليلة ترفع أعمالهما بلا عرض وفائدة العرض اجمالاً وتفصيلاً الترغيب والترهيب وكلمة لا اله الا الله تصعد بنفسها وترفع الأعمال كل يوم وكل ليلة وتقابل باللوح المحفوظ.
ولا يكمل صلى الله عليه وسلم الا رمضان وقيل يكمل شعبان في بعض الاعوام وقيل يفطر منه قليلاً أولاً وتارة آخر وتارة وسطاً.
وفي الحديث:
"أفضل الصوم بعد رمضان المحرم" ولم يكثر صومه بل أكثر صوم شعبان لانه علم ذلك آخر الحياة ولانه تعرضه فيه موانع الصوم ولم يستكمل غير رمضان لئلا يظن وجوبه كذا قيل وفيه انه يجب الشيء بقوله لا بعمله وقيل يستكمله وحده لدفع اللبس بغيره وأفضل الأشهر للصوم بعد رمضان وليلة النصف من شعبان والمحرم ورجب فذو الحجة فذو القعدة فشعبان وتسمى أيضاً ليلة نصفه ليلة تكفير الذنوب ذنوب السنة الصغار وليلة القدر ذنوب العمر وليلة الجمعة ذنوب الاسبوع ووجه التسمية لا يوجب التسمية وان لم تصادف الذنوب أثبتت حسنات قيل وتخفف من الذنوب الكبار وعن قومنا الكبار لا يمحوها الا التوبة أو الحج المبرور وحق العبد لا بد من محاللته وتسمى أيضاً ليلة الاجابة لانه لا يرد دعاء فيها وكذا في ليلة الجمعة وأول ليلة من رجب وليلتي العيدين وليلة القدر ورمضان ويوم عرفة وتسمى أيضاً ليلة الحياة لانه لا يموت شيء بين مغربها وعشائها لانشغال الملك بقبض الصحف أو بتهيئتها للقبض ليلة القدر وتسمى ليلة عيد الملائكة وعيدهم الآخر ليلة القدر وقيل عيدهم الليلتان لانهم لا ينامون وتسمى ليلة الشفاعة أيضاً لسؤاله صلى الله عليه وسلم الشفاعة لأمته، فيها سأله داود أن يجيب دعاء من دعا فيها وتسمى أيضاً ليلة الجائزة لما فيها من اعطاء الأرزاق والأمطار وغيرها وليلة الرجحان لرجحان ثواب العمل فيها على ثوابه في غيرها كما وكيفاً وليلة التعظيم لانها أعظم الليالي بعد ليلة القدر ولعظمها بنزول القرآن فيها وغفران العظائم وليلة القدر وليلة الغفران والعتق من النار وان قلت فضلت هذه الليلة لذاتها أو لنزول القرآن فيها.
قلت: قيل تفضيل الأزمان والاماكن لذاتها ورجحه بعض وقيل تفضيلها باعتبار تضعيف العمل فيها وعليه ابن عبد السلام وقيل باعتبار ما يقع فيها من عمل وغيره وقال السبكي منها ما لذاته كقبر النبي فانه ينزل عليه بنفسه من الرحمة والملائكة والتعظيم ما لا يوصف ولا عمل فيه والبركة في هذه الليلة اما لنزول القرآن فيها أو لمعنى لا نعلمه وعلى التفضيل للذات فنزول القرآن زيادة تشريف ولانها ليلة افتتاح الرحمة ونزول القرآن ليلاً لانه وقت الخلوة والاختصاص ومجالسة الملوك وهي أشرف من مجالستهم نهاراً.
وأكرمت جماعة من الأنبياء ليلاً قال الله عز وجل
{ { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ } الخ أقام الحجة على قومه وقال { { فأسر بأهلك } الخ وقال { { سوف أستغفر لكم ربي } ودعا سحر ليلة الجمعة وقرب موسى نجياً ليلاً وأسرى بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليلاً وانشق له القمر ليلاً وآمن به الجن ليلاً وخرج الى الغار ليلاً وقدم الله عز وجل ذكر الليل على النهار في غير آية وهو محل الاجابة والغفران والعطاء وأكثر أسفاره صلى الله عليه وسلم ليلاً لان الارض تطوى فيه والليل أصل لخلق الظلمة قبل النور واذا كان أول الشهر وسواده يجمع ضوء البصر ويجد كليل النظر ولكن قيل لا ليل في السماء فمعنى نزوله فيها ليلاً نزوله وقت الليل في الأرض وقد علمت ان الصحيح ان المراد بالليلة المباركة هنا ليلة القدر ويدل له شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن فعين وقت نزوله من الشهور وبين في هذه الآية انه في الليل وعين الليل بقوله في ليلة القدر ويوافقه فيها { { يفرق كل أمر } فان القدر معناه التقدير في قول والفرق تقدير.
قال ابن عباس: (يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كان في السنة كله الا السعادة والشقاوة فتكتبان مرة ولا تمحوان وقيل أراد فراغ الكتابة فيها وان ابتداءها ليلة النصف من شعبان وعن بعضهم ان الواو للعطف لا للقسم لكراهة قسمين معاً وهذا بناء على ان { حم } قسم والكتاب القرآن وقيل جميع الكتب قال على الاول للعهد الذكري لذكره (بحم) على انها اسم للقرآن وفي غير هذه السورة قبلها وعلى الثانى للاستغراق واعتراض الثانى باقتضائه ان الكتب كلها نزلت ليلة النصف من شعبان أو ليلة القدر.
وأجيب بأن المراد بالهاء في { أَنزَلْنَاهُ } على الاستخدام أو للوح قال للعهد الذي في ذهن النبي صلى الله عليه وسلم وابن عباس على الأول وأسند الابانة أي التبيين للقرآن لحصولها به وأكد الكلام بالقسم وان لانكار المشركين نزوله ولعل معنى نزول اللوح نزول ما فيه وقيل الكتاب اللوح والهاء القرآن وقيل الهاء للامر بعدها أي أنزلناه أمراً من عندنا كقولك ضربته زيداً ونزل بعد نزوله جملة منجماً أي مفرقاً في عشرين سنة وقيل ثلاث وعشرين وقيل خمس وعشرين على الخلاف في مدة اقامته في مكة بعد البعثة وقيل نزل الى سماء الدنيا في عشرين ليلة قدراً وثلاث وعشرين أو خمس وعشرين في كل ليلة قدر ما ينزل في سنتها مفرقاً بحسب الوقائع وقيل نزل من اللوح المحفوظ أول ما نزل منه الى سماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل منجماً في أوقات مختلفة من سائر الأوقات الى أن تم وقيل نزل جملة على السفرة في بيت العزة بلا واسطة جبرائيل ونجومه على جبرائيل في عشرين ليلة قدراً وثلاث وعشرين أو خمس وعشرين ونجمه جبرائيل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في أحد تلك الأعداد وانما نزل أولاً جملة الى السماء في بيت العزة تعظيماً له ولمن نزل عليه باعلام سكان السموات انه آخر الكتب الرسل لأشرف الأمم ونزل بعد ذلك مفرقاً تشريفاً له ولأمته وليثبت به فؤاده فانه اذا كان الوحي يتجدد في كل حادثة كان أقوى للقلب ويحدث سرور عظيم له لمجيء الملائكة من عند الله وهو في كل مكان وكان أجود ما يكون في رمضان لكثرة لقائه جبرائيل عليه السلام وليتحفظ وينزل آية فأكثر وأقل نزلت عشر في قصة الافك وعشر من أول سورة المؤمنين ونزل
{ { غير أولى الضرر } الخ وحده وهو بعض آية والغالب انه ينزل خمساً خمساً فينبغى تعلمه كذلك ويأخذه جبرائيل من اللوح وقيل يلهم وأحرف القرآن في اللوح كل واحد كجبل قاف وتحت كل معان لا يحيط بها غير الله فقيل ينخلع النبي الى صورة الملك أو يتغلب عليه الصفات الملكية فيأخذه كأنه أخذه ملك عن ملك أو ينخلع جبريل الى صورة البشر فكأنه أخذه بشر عن بشر والواضح أنه يبقى على حاله وجبرائيل تارة يبقى على صورة الملك وتارة لا وقيل: كيفية الوحي سر لا يدرك بالعقل وانما يعرف انه جبرائيل لاظهار الله على يديه معجزات عرفه بها أو خلق فيه علماً ضرور يعرفه به والراجح نزول اللفظ والمعنى نزل المعنى وقيل عبر النبي وقيل المعنى وعبر جبريل.
{ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } فسر به وبالجملة بعده جواب القسم كأنه قيل أنزلناه لان من شأننا الانذار أي التخويف أي انا على ما نحن عليه من الاجلال كنا مخوفين بالقرآن من عصى لا نأخذهم من غير انذار لاجل رحمتنا وكنا للدلالة على الوقوع في الماضي مع البقاء الى الحال وتقدير بالقرآن مذهب المدابغي والحق ان المراد مطلق الانذار فيشمل الانذار بغير القرآن كالتوراة وخص الانذار لانه المقصود بالارسال ولعمومه المكلفين لان الطابع ينذر ليزداد ويدوم وينذر عن سلب المعرفة والبشارة خاصة بالطابع وأما فبشرهم بعذاب فمجاز وقيل أعم مطلقاً وعن بعضهم ان الجملة جواب القسم وانا أنزلناه معترضة لتفخيم المقسم عليه والمختار ان الجواب { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ } وعليه ابن هشام لسبقه وسلامته من اللازم على ان الجواب { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } فان يفرق من تتمة الاعراض وقد تخلل بينهما المقسم عليه