التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ
٤
-محمد

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فَإِذَا لَقِيتُمُ } من اللقاء وهو الحرب أو لقيتم في المحاربة*
{ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرِّقَابِ } الاصل اضربوا الرقاب ضرباً فحذف الفعل وقدم المصدر وأنيب منابه مضافاً للمفعول مثل سبحان الله للاختصار وفيه التوكيد لان النصب دليل الفعل المحذوف ولو كان نائباً عنه وبدلا من اللفظ به وضرب الرقاب كناية عن القتل سواء كان بضربها أو بضرب غيرها كما يقال ضرب الامير رقبته وضرب عنقه وضرب ما فيه عيناه وضرب علاوته بكسر العين وهى الرأس ما دام في الرقبة وخص الرقاب لان القتل أكثر ما يكون بضربها ولتصوير القتل بأشنع صوره وهو ازالة العضو الذي هو رأس البدن وأعلاه وأوجهه ومشتمل على حواس ولا حياة مع زواله فما وجدتم القتل به فاقتلوا.
"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية الى حيّ فأصابوهم فقطعوا شجرة وأضرموها ناراً وألقوا فيها رجلا فمات فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال لم أبعث لأعذب بعذاب الله ولكن بعثت بضرب الاعناق" .
"وبعث صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل فقال ان أمكنك الله من فلان فاحرقه بالنار ثم قال ردوه فرجع فقال قلت ذلك وأنا غضبان لا يحل لأحد أن يعذب بعذاب الله فان قدرت فاضرب عنقه" .
وفي الحديث "لا يجتمع كافر وقاتله في النار" .
وقال "ما أغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار وقال غبار في سبيل الله ودخان جهنم لا يجتمعان في جوف عبد ولا يجتمع الشح والايمان في قلب عبد" .
"وقال: لغدوة في سبيل الله وروحة خير من الدنيا وما فيها ولموقف الرجل في الصف أفضل من عبادة ستين سنة" "وقال لابن رواحة وقد تخلف عن الخارجين للغزو في يوم الجمعة ليصلي الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أنفقت ما في الارض جميعاً ما أدركت فضل غدوتهم" وغير ذلك*
{ حَتَّى إِذَآ أَثْخَنْثُمُوهُمْ } بالغنم في القتل وقهرتموهم مأخوذ من الشيء الثخين أي الغليظ أى أثقلتموهم بالقتل والجراح ومنعتموهم النهوض والحركة* { فَشُدُّواْ } أى احكموا* { الْوَثَاقَ } بفتح الواو وقرئ بالكسر وهو ما يوثق به أي احفظونهم لئلا يفلتوا منكم ولئلا يهربوا وذلك في الاسارى*
{ فإِمَّا مَنّاً بَعدُ وَإِمَّا فِدَآءً } مصدران مؤكدان حذف عاملهما أي فاما تمنون مَنّاً بعد الاسر واما تفدون فداء وقرئ (فدى) بالفتح والقصر خيرهم بين أن يمنوا بالاطلاق من غير شيء وأن يفادوهم بمال أو أسارى المسلمين والآية محكمة عند جمهور العلماء وقوله فاضربوا فوق الاعناق الخ ونحوهما كقوله فاما تثقفنهم ففي الحرب الخ وأجاز لهم أيضاً الاسترقاق والقتل فهذه مبينة لقوله
{ { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وهو الصحيح وهو مذهب الشافعية والحسن وعطاء وابن عمر والثوري والشافعي وأحمد واسحاق وابن عباس وحجتهم ان النبي صلى الله عليه وسلم عمل بذلك والخلفاء بعده وانه مَنّ على أبي عروة الجمحي قال الزمخشري وعلى أثال الحنفي وقال غيره ثمامة بن أثال الحنفي ذلك انه بعث صلى الله عليه وسلم خيلاً لجهة نجد فجاءت به فربطوه بسارية في المسجد فخرج صلى الله عليه وسلم اليه فقال ما عندك يا ثمامة فقال عندي خير يا محمد إن تقتل تقتل ذا ذم وإن تنعم تنعم على شاكر وان أردت المال فلك ما شئت وقال له ذلك في اليومين بعده فقال ما ذكر فقال اطلقوه فانطلق الى نخل قريب من المسجد فاغتسل ودخل المسجد وقال أشهد ان لا اله الا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله والله ما كان على الارض أبغض اليّ من وجهك وأنت الآن أحب الوجوه اليَّ والله ما كان دين أبغض اليَّ من دينك وأصبح أحب اليّ وبلدك أحب البلاد وان خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر فلما قدم مكة قيل له صبأت قال لا ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأسرت الصحابة رجلاً من بني عقيل فأوثقوه وكانت ثقيف قد أسرت مسلمين ففاداه بهما.
وقال أبو حنيفة وأصحابه إما القتل واما الاسترقاق وإما المن والفداء نزلا في يوم بدر ثم نسخا بالآيات السابقة أم نزلا مخصوصين ببدر وعليه قتادة والضحاك والسدي وابن جريج والاوزاعي وأصحاب الرأي لئلا يعودوا حرباً للمسلمين.
وقال مجاهد: (إما الاسلام وإما القتل) وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد بالمن أن يمن عليهم بترك القتل ويسترقوا أو يمن عليهم فيخلوا للجزية ان كانوا من أهل الذمة أو بالفداه أن يفادى بأساراهم أسارى المشركين. فقد رواه الطحاوي مذهباً عن أبي حنيفة والمشهور انه لا يرى فداؤهم لا بمال ولا بغيره ومذهبنا التخيير.
"وكان أبو عروة الجمحى ممن أسر ببدر قال يا رسول الله مُنَّ عليّ فاني فقير ولي بنات فرقَّ النبي صلى الله عليه وسلم فخلى سبيله ولم يأخذ منه شيئاً فقدم مكة فهجا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شاعراً فلما خرج المشركون الى أحد قالوا أخرج معنا قال ان محمداً قد منّ عاماً أولا فخلى سبيلي فأنا أكره أن أقاتله فقال له أبو سفيان أنفق على عيالك فخرج معهم فلما قاتلوا أخذ أسيراً فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا عدو الله ألم أمنّ عليك في العام الاول فرجعت الى مكة فهجوتنى فقال اني خرجت كرهاً يا محمد فمن عليّ هذه المرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا والله لا نمسح خديك فتقول سخرت بمحمد مرتين فاضربوا عنقه فقتل صبراً فقال النبي صلى الله عليه وسلم اما انه من جهد البلاء أن يقتل المرء صبراً"
{ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } آلاتها وأثقالها التي لا تقوم الا بها كالسلاح والخيل وأنشد الزمخشري للأعشى*

وأعددت للحرب أوزارها رماحاً طوالا وخيلاً ذكوراً

وقيل لعمرو بن معد يكرب وأصل (الوزر) ما يحمله الانسان والسلاح يحمل والخيل تجري وكأن الحرب حاملة لذلك لانها لا بد لها منه فاذا انقضت فكأنها وضعته والاضافة للملابسة والمراد حتى يمسك أهل الحرب عن القتال اسلاماً أو مسالمة وقيل الحرب جمع حارب أو اسم جمعه كصاحب وصحب وقال الحسن وقتادة (أوزارها) ذنوب أهلها من الشرك والمعاصي أي حتى سلموا وأضاف (الاوزار) اليها للملابسة أو يقدر مضاف وقيل حتى تضع حربكم أوزارهم أي شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا وقال مجاهد حتى ينزل عيسى فيقتل الدجال ويكسر الصليب ويقتل الخنزير وتضع الجزية فلا تقبل من كتابي بل اما القتل أو الاسلام أو حتى تدخل الملل كلها في الاسلام فلا يبقى جهاد وذلك عند نزوله.
وفي الحديث
"الجهاد ماض منذ بعثني الله الى أن يقاتل آخر أمة الدجال وقال من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق من ناوأهم الى يوم القيامة" ولا يقتل الا الذكر الحر المكلف و (حتى) غاية للضرب أو للشد أو للمنّ أو للفداء متعلقة باحدها ويقدر مثلها لغيره وان علق بالمن أو الفداء على قول أبي حنيفة فالمعنى (حتى تضع حرب بدر أوزارها)* { ذَلِكَ } خبر المحذوف أى الأمر فيهم ما ذكر أو مفعول أي افعلوا بهم ذلك*
{ وَلَوْ يَشَآءُ اللهُ لاَنتَصَرَ مِنْهُمْ } أي لانتقم منهم باستئصال ببعض أسباب الهلاك كالخسف والزلزلة والموت العام والغرق والملائكة وغير ذلك من جنود الله من غير القتال منكم* { وَلَكِنِ } أمركم بالقتال*
{ لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ } أيها الناس بأن يجاهد المسلمون ويصبروا فيجازوا ثواباً عظيماً ويعذب المشركين على أيديهم معاجلة لبعض ما أعد لهم من العذاب وليرتدع بعضهم عن الشرك*
{ وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ } أي جاهدوا وهذه قراءة الجمهور وقرأ عاصم في رواية (قتلوا) بالفتح واسقاط الالف وقرأ أبو عمرو وحفص وعاصم في رواية (قُتِلُوا) بالبناء للمفعول من الثلاثي وقرئ بتشديد التاء والبناء للفاعل أو (قَتَّلوا، قُتِّلوا) للمفعول.
قال قتادة: (نزلت فيمن قتل من المؤمنين يوم أحد وقد فشى قتالهم وجرحاهم)* { فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي لن يضيعها ويحبطها وقرئ بالبناء للمفعول ورفع الاعمال وقرئ (يَضِل) بفتح الياء ورفع الاعمال وكان المسلمون يقولون لمن خرج غازياً انه كلما تباعدت عن أهلك ازددت من الله قرباً قاله الحسن