التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ
١١
-الحجرات

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ } اي لا يسخر بعض المؤمنين من بعض اذ قد يكون المسخور منه خيراً من الساخر عند الله والناس لا يطلعون الا على ظاهر الاحوال والمعتبر خلوص الضمائر وتقوى القلوب فقد يسخر الرجل بذي عاهة او من رث حاله او بالعي وغير ذلك ولعله يكون اخلص وأتقى من الرجل فيكون مهينا لمن عظم الله والسلف يحذرون ذلك غاية قال عمر بن شرحبيل لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه خشيت ان اصنع مثل الذي صنع وعن ابن مسعود البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب لخشيت ان احول كلبا والآية نزلت في ثابت بن قيس وذلك انه كان في اذنه وقر فكان اذا اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اخذوا مجالسهم اوسعوا له الى جنبه ليسمع واقبل يوما وقد فاتته ركعة من الفجر وانصرف صلى الله عليه وسلم فاخذوا المجالس وكان الرجل اذا جاء ولم يجد مجلسا أقام قائما فلما فرغ ثابت من الصلاة جعل يتخطاهم ويقول افسحوا ففسحوا الا رجلا بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فقال له تفسح فقال قد اصبت مجلسا فاجلس فجلس خلفه مغضبا ولما انجلت الظلمة غمز ثابت الرجل فقال من هذا قال انا فلان فقال له ثابت ابن فلانه ذكر حالة يعير بها في الجاهلية فنكس الرجل رأسه واستحى فنزلت فقال ثابت لا افخر بعدها على احد ابدا في الحسب وقال الضحاك نزلت في وفد بني تميم المذكورين وكانوا يستهزئون بفقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كعمار وخباب وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة اي لا يستهزئ غني بفقير ولا مستور عليه بمن لم يستر عليه ولا ذو حسب بلئيم وأشباه ذلك مما ينصه به قيل والمعنى وجوب ان يعتقد كل أحد ان المسخور به لعله بما كان عند الله خيرا من الساخر وجملة { عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ } مستأنفة جواب للسؤال عن علة النهي والا فالأصل ان توصل بما قوله بالفاء والقوم الرجال خاصة لأنهم القوام بأمور النساء الرجال قوامون على النساء قال صلى الله عليه وسلم "النساء لحم على وضم إِلا ماذب عنه" والذابون هم الرجال وذلك صريح في الآية وفي قول زهير:

أقوم آل حصن أم نساء

واما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد هم الذكور والاناث فليس لفظ القوم بمعتاد للفريقين. ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الاناث لأنهن توابع لرجالهن وقيل القوم لجماعة من الرجال او من الرجال والنساء معا وعليه فذكر النساء بعد عطف الخاص على العام لزيادة سخريتهن وهو اسم جمع وجمعه لقوام وجمع أقوام أقاويم وقيل هو في الأصل جمع قائم كصوم وزور جمعي صائم وزائر وعليه فاقاويم جمع جمع الجمع وقيل اصله مصدر قام قال بعض العرب اذا اكلت الطعام احببت قوما اي يتحدثون معي وابغضت (قوما) قياما لانه يستحب القعود بعد الأكل الا في العشاء وعسى اما تامة وما بعدها فاعل او ناقصة وما بعدها اسمها اغنى عن خبرها لاشتماله على المسند والمسند اليه او ناقصة اسمها ضمير الشان وما بعدها خبرها مفسر له ولو كان في تأويل المفرد اعتبارا لوجود الجملة قبل التأويل او لان ان انما دخلت بعد وقوع ما بعدها خبرا وهو جملة وبسطت ذلك في النحو* { وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ } اي ولا تسخر مؤمنات من مؤمنات اذ قد يكون المسخور منهن خيرا من الساخرات نزلت في نسائه صلى الله عليه وسلم عيرن أم سلمة بالقصر قاله أنس " وقال ابن عباس في صفية بنت حيي قال لها بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم يهودية بنت يهوديين وروي عن أنس أنه بلغ صفيه أن حفصة قالت بنت يهودي فبكت فدخل عليها صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال ما يبكيك قالت ان حفصة قالت بنت يهودي فقال صلى الله عليه وسلم إنك لابنة نبي وعمك نبي وانك لتحت نبي ففيم تفتخر عليك ثم قال اتقي الله يا حفصة" والمراد باليهوديين يهودي ويهودية وهما أبوها وأمها فغلبت المذكر والمراد بالنبي موسى وبالعم هارون عليهما السلام كما روي انه قال "هلا قلت إِن أبي هارون وإِن عمي موسى أن زوجي محمد" وروي أن عائشة كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية وكانت قصيرة وعن ابن عباس ان ام سلمة ربطت حقويها بسبنية وسدلت طرفها خلفها تجره فقالت عائشة لحفصة انظر ما تجر خلفها كانه لسان كلب ونكر القوم والنساء اما للبعضية أي (بعض المؤمنين والمؤمنات) واما لافادة الشباع ان تصير كل جماعة منهم منهية عن السخرية وانما لم يقل رجل من رجل ولا امرأة من امرأة اعلاما باقدام غير واحد من رجالهم أو نسائهم على السخرية وتشنيعا للشأن الذي كانوا عليه ولأن مجلس الساحر لا يكاد يخلوا ممن يلتهي ويستضحك على قوله ولا يأتي ما عليه من النهي والانكار فيكون شريك الساخر في الوزر وكذا كل من يطرق سمعه فيستطيبه ويضحك به فذلك وان اوجده واحد يؤدي الى تكثير السخرية وانقلاب الواحد جماعة وقوما والسخرية لا تجوز وان على منافق او مشرك الا على معصية يذكرها ذما لفاعلها أوجه الله وردعا عنها لا للانتقام او العجب ولا يجوز السخرية بما خلق الله من نحو لون وطول او عرض مطلقا وقرأ ابن مسعود (عسوا ان يكونوا، عسين ان يكن) فهي ذات الخبر وتامة ما بعدها بدل او ناقصة وما بعدها بدل مغن عن الخبر ومتعديه بمعنى قارب وما بعدها مفعول* { وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ } وقرأ يعقوب بضم الميم واللمز الطعن باللسان وقال بعض أو بالاشارة وغيرها مما يفهم وعن بعض أن الهمز لا يكون الا باللسان والصحيح انه يكون باليد وعن الثعالبي اللمز في المشهد والهمز في المغيب وقيل عكس هذا وعنه صلى الله عليه وسلم شر الناس ذو الوجهين الذي يلقى هذا بوجه وذاك بوجه وهو نوع من الغيبة لأنه ذكر المؤمن قصد الضر والغيبة ذكره بما يضره ولو من غير قصد ضر والمراد لا يلمز بعضكم بعضا وقال انفسكم لأن المؤمنين كنفس ومن لمز اخاه كأنه لمز نفسه وقيل لا تفعلوا ما تلمزون به لأن من فعل ما يستحق به اللمز فقد لمز نفسه اي تعرض للمزها مثل ان يفعل قبيحا او يلمز غيره فيلمز لأنه لا يخلو من عيب والصحيح المشهور الأول اي خصوا أنفسكم بالانتهاء عن العيب فيها والطعن فيه ولا عليكم ان تعيبوا غيركم (فمن لا يدين) بدينكم ولا يسير بسيركم ذما للمعصية وزجرا عنها لا لحظ من حظوظ الهوى قال صلى الله عليه وسلم "اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس" أي لا بما ليس فيه فان بهتان الياري حرام ولو مشركا وقد قال الحسن في الحجاج اخرج اليّ بنانا قصيرة فلما عرفت فيها الأعنه في سبيل الله ثم جعل يطبطب شعرات له ويقول يا أبا سعيد يا أبا سعيد ولما مات قال اللهم أنت أمته فأقطع سنته فانه أتانا أخيفش أعيمش يخطر في مشيئته ويصعد بالمنبر حتى تفوته الصلاة لا من الله يتقي ولا من الناس يستحي فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون لا يقول له قائل الصلاة أيها الرجل هيهات دون ذلك السيف والسوط* { وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالأَلْقَابِ } أي لا يدع بعضكم بعضاً بلقب السوء والنبز مختص بلقب السوء عرفاً والتنابز تفاعل من النبز ويقال (تنازب) تفاعل من النزب والمعنى واحد.
وقيل (التنابز) التلاقب وهو ذكر كل لقب آخر والمراد لقب السوء الذي يضر الملقب كما هو نص الآية في القول الأول.
وأما ما كان مدحاً كالصديق والعتيق لأبي بكر والفاروق لعمر وأسد الله لحمزة وسيف الله لخالد فحسن في أهله ولقد لقبوا عثمان ذا النورين لتزوجه بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قيل: ولقبوا علياً أبا تراب لقب مدح وقل من المشاهير في الجاهلية والاسلام من ليس له لقب ولم تزل هذه الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجري في مخاطبتهم ومكاتبتهم ولم ينكرها الشرع ولقد لقب الزمخشري جار الله لانه جاور بيت الله خمس سنين قال صلى الله عليه وسلم
"من حق المؤمن على أخيه أن يسميه بأحب أسمائه اليه" فالتلقيب والتكنية بما هو حسن من السنة والأدب الحسن وقد قال عمر: أشيعوا الكنى فانها منبهة وكذا ما لا يكرهه من الألقاب يجوز دعاؤه به وتسميته به ليعرف لا للاستحقار كقولهم (سليمان الأعمش) و (واصل الأحدب) وكقولهم (الأعرج) وهؤلاء ليسوا منا ولكن التنابز بالألقاب لا يجوز ولو على منافق أو مشرك الا بما كان ذماً لهم لوجه الله لا سخرية وعبثاً أو لهواً والمرجع الى الكراهية فلو كره أحد أن تكنيه أبا الخير لم يجز تكنيه به قال أبو جبيرة بن الضحاك وهو أخي ثابت بن الضحاك الأنصاري فينا نزلت هذه الآية بني سلمة قدم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا رجل الا له اسمان او ثلاثة فيقول رسول الله يا فلان فيقال مه يا رسول الله انه يغضب من هذا الاسم وقال ابن عباس (التنابز) أن يدعى بمعصية تاب منها وقيل قول الرجل يا كافر يا فاسق يا منافق وقيل قول الرجل لمن اسلم من اليهودية يا يهودي او من النصرانية يا نصراني وهكذا وقيل ان تقول يا كلب يا حمار يا خنزير لأخيك او لمن هو في الوقوف* { بِئْسَ الاسْمُ } هو حقيقة الاسم الذي يتنابز به وقيل حقيقة ما ذكر من اسم يسخر به واسم يلمز به واسم يتنابز به والمراد ذكر الاسم ولذا ابدل منه قوله* { الْفُسُوقُ } والمخصوص محذوف اي التنابز او جعل الفسوق هو المخصوص فحذف المضاف وهو ذكر وابقى المضاف اليه وهو الاسم وقيل استعمل الاسم بمعنى الذكر كقولهم ظار اسمه بالخير أو بالشر بين الناس اي ذكره بالخير او الشر* { بَعْدَ الإِيمَانِ } استقبح الجمع بين الايمان والفسق الذي يأباه الايمان والفسق ما ذكره من السخرية واللمز والتنابز فدل انها فسق واستقبح ذكر احد باسم كفر بعد ايمانه اي ما اقبح قولهم يا يهودي لمن اسلم من اليهود وامن وقيل المراد كل الفسق* { وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ظلم نفاق بوضع العصيان موضع الطاعة وتعريض النفس للعذاب وعنه صلى الله عليه وسلم "لعن المؤمن كقتله والشهادة عليه بالكفر كقتله" وقال "ما من مسلمين الا بينهما من الله ستر فان قال احدهما كلمة هجر خرق ستر الله وان قال احدهما لصاحبه يا كافر فقد وقع الكفر على أحدهما"