التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ
١٠١
-المائدة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تَبْدَ لَكُمْ تَسُؤكُمْ }: لا تسألوا رسولكم عن أشياء ان يظهرها الله لكم تضركم بما فيها من المشقة، وجملة الشرط والجواب نعت لأشياء، وعطف على هذا النعت نعتاً آخر بقوله:
{ وَاِن تَسْألُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القُرْآنُ }: وهو زمان بقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم.
{ تُبْدَ لَكُمْ }: لأنه لا تسألوه شيئاً الا أوحى الله فيه اليه صلى الله عليه وسلم، فيتعلق عليكم حكمها كأنه قيل: لا تسألوا عن أشياء ضارة لكم ان أبديت مظهرة، ولا بد ان سألتهم عنها، ونعت أشياء بنعت ثان بلا عطف وهو قوله:
{ عَفَا اللهُ عَنْهَا }: أى لم يذكرها الله بالتحريم أو التشديد فيكون سؤالكم سبباً للتحريم أو التشديد، قال أبو عمرو عثمان بن خليفةرحمه الله : قوله: { يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تَبْدَ لَكُمْ تَسُؤكُمْ } الآية ذكر
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالناس الظهر ذات يوم فقال: اسألونى عما شئتم، ولا يسألنى اليوم أحد منكم عن شىء الا أجبته فقال الأقرع بن حابس: الحج واجب علينا فى كل عام؟ فغضب عليه الصلاة والسلام حتى احمرت وجنتاه فقال: لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لم تفعلوا، ولو لم تفعلوا اذن لكفرتم، ولكن اذا أمرتكم بشىء فأتوا منه ما استطعتم، واذا نهيتكم عن شىء فانتهوا " فنزلت هذا الآية.
وقيل:
" انها نزلت بسبب رجل جاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أين مكان أبيك فى النار؟ فقال: بحذاء مكانك فى النار، فقال: من أبى يا رسول الله؟ فقال: أبوك حذافة بن قيس " وهو غير المنسوب اليه وقيل " بسبب رجل جاءه فقال له: ما تلد ناقتى يا رسول الله فألح عليه، فقال: منك تلد زيادة" .
وقيل: هذه الأجوبة كلها فى مكان واحد، فلما رأى عمر الجواب قد اشتد فخاف فقام وقال: رضيت بالله رباً وبالاسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وأعوذ به من سوء عاقبة الأمور. فسكت الناس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: انما سأل الرجل عن مكانه فقال فى النار انتهى.
ويؤخذ من قوله: اذن لكفرتم أن ترك الفريضة يسمى كفراً، وقيل فى الذى قال له: أين مكان أبيك فى النار أنه أراد معيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن الذى قال ما تلد ناقتى خاف أن تلد انسانا، ولعله أيضا يشبهه، وذلك لأنه قد نكحها كما أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: منك تلد، فكان لسانه ساعياً عليه.
قال أنس بن مالك:
" خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعنا مثلها قط، فقال: لو تعلمون ما علمت لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيراً فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم، فقال رجل: من أبى؟ فقال: فلان، فنزلت الآية: { لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ }" وبين فى رواية أخرى عن أنس اسم السائل المبهم فى كلام السؤالات، واسم أبيه المبهم فى الرواية الأولى، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس، فصلى الظهر، فقام على المنبر فذكر الساعة، فذكر فيها أموراً عظاماً ثم قال: من أحب أن يسألنى عن شىء فليسأل فلا تسألونى عن شىء أخبرتكم به ما دمت فى مقامى فأكثر الناس البكاء، وأكثر أن يقول سألوا، فقام عبد الله بن حذافة السهمى فقال: من أبى؟ فقال: أبوك حذافة، ثم أكثر أن يقول اسألونى، فبرك عمر على ركبتيه وقال: رضينا بالله رباً، بالاسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، فسكت ثم قال: عرضت على الجنة والنار فى عرض الحائط فلم أر كاليوم فى الخير والشر " .
قال الزهرى: فأخبرنى عبيد الله بن عبد الله بن عقبة قال: قالت أم عبد الله بن حذافة لعبد الله بن حذافة: ما سمعت ابناً قط أعق منك، آمنت أن تكون أممك قارفت بعض ما تقارف أهل الجاهلية فتفضحها على أعين الناس! فقال عبد الله بن حذافة: لو ألحقنى بعبد أسود للحقته، وكان قبل ذلك لا ينسب الى حذافة.
وما ذكر فى السؤالات أن الآية فى الحج هو قول على بن أبى طالب، الا أنه لم يذكر على اسم السائل وكذا أبو هريرة لم يذكره وفى رواية أبى هريرة زيادة، وعلى قال: نزل:
{ ولله على الناس حج البيت } الآية فقال الناس: يا رسول الله فى كل عام ولم يذكر اللفظ اذن لكفرتم وهو مراد، قال أبو هريرة: " أنه قال صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا فقال رجل أفى كل عام؟ فسكت صلى الله عليه وسلم حتى قالها ثلاثا قال: ذرونى ما تركتكم، ولو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، وانما هلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم اذا أمرتكم بشىء فأتوا منه ما استطعتم، واذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه " والسائل قيل: الأقرع، وقيل: سراقة بن مالك، وقيل: عكاشة بن محصن.
وفى رواية قال للسائل:
" ويحك ما يؤمنك أن أقول نعم، والله لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم فاتركونى ما تركتكم فانما هلك من كان قبلكم بكثرة " الخ ما مر.
وعن مجاهد: لا تسألوا عن أشياء هى البحيرة والوصيلة والحامى، الا ترى أنها مذكورة بعد ذلك بقوله:
{ ما جعل الله من بحيرة } الآية، قلت: هذا ضعيف اذا لم يثبت أنهم سألوا عنها، فلو سألوا لكان السؤال هو المطلوب، ومراد النبى صلى الله عليه وسلم أن يسألوا عنها وعن أمثالها من الحلال والحرام، اذ لا يخفى أنها أموال مضيعة حقيقة بالكف عن تحريمها، فكيف ينهون عن السؤال عنها، وانما أراد السؤال عن الحلال والحرام بلا تكلف، والوعظ وأمر الآخرة وأهوالها كما قال ابن عباس.
ومعنى الآية: لا تسألوا عن أشياء فى ضمن الانباء عنها مساءلتكم اما بتكليف شرعى يلزمكم، واما بخبر يسؤكم، ولكن اذا نزل القرآن بشىء وابتدأكم ربكم بأمر فحينئذ ان سألتم عن تفصيله وبيانه يسر لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ان الله عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها " ويجوز أن يكون قوله: { وَاِن تَسْألُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } وعيداً أى ان سألتم عنها لقيتم غب ذلك صعوبة.
وفى رواية عن ابن عباس رضى الله عنه:
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب، فكانوا يتعرضون له بالسؤال فى خلال خطبته، وأكثروا حتى أغضبوه، اذ كانوا يسألون عما لا يعنيهم، فقال: لا أسأل عن شىء الا أجبت قال سلمان: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء فقال: الحلال ما أحل الله فى كتابه، والحرام ما حرمه الله فى كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفى فلا تتكلفوا " .
وقيل: المعنى فى قوله تعالى: { وَاِن تَسْألُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } ان صبرتم حين ينزل القرآن بحكم من فرض، أو نهى أو حكم وليس فى ظاهرة شرح ما تحتاجون اليه، ومست حاجتكم اليه، فان سألتم عنه حينئذ يبد لكم كما سألوا عن عدة التى لا تحيض بعد نزول عدة التى تحيض، فأنزل الله جل وعلا: { واللائى يئسن من المحيض } الآية قال بعض العلماء: الأشياء التى يجوز السؤال عنها هى ما ترتب عليه أمر الدين والدنيا من مصالح العباد، وما عدا ذلك فلا يجوز السؤال عنه، وعن سعد بن أبى وقاص " أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ان أعظم المسلمين فى المسلمين جرماً من سأل عن شىء لم يحرم على الناس فحرم من أحل مسألته " وروى أن معاوية لما أسرف فى مال الله، وربما دخل فى البطالة كتب اليه المغيرة بن شعبة واعظاً: أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال، واضاعة المال، وكثرة السؤال، أى كثرة السؤال وذلك سؤال تحمل يعنى وسؤال التعمق فى بعض أوجه تفسيره.
وعن معاوية: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأغلوطات، يعنى صعاب المسائل التى تنزل فيها أقدام العلماء، قال أبو هريرة: شرار الناس الذين يسألون عن شرار المسائل كى يغلطو بها العلماء.
{ وَاللهُ غَفُورٌ }: لمن تاب.
{ حَلِيمٌ }: لا يجعل بالعقوبة، وقيل معنى عفا الله عنها، عفا الله عن مسألتكم التى سألتموها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعاقبكم ومن شأن الله جل وعلا أنه غفور حليم، وعلى هذا فجملة عفا الله عنها مستأنفة، ولكن جعلها نعتاً للأشياء على حذف مضاف، أى لا تسألوا عن مثل أشياء قد عفا الله عنها، أى عن هذه الأشياء ان تبد لكم تسؤكم.
وليس أشياء جمع شىء على وزن أفعال فليت الهمزة بعد ألفه لام الكلمة، ولا الهمزة الأولى همزة أفعال زائدة، لأن ما على وزن فعل بفتح فسكون لا يجمع قياساً على أفعال، بل على أفعل بفتح الهمزة واسكان الفاء، وضم العين: كبحر وأبحر اذا أريدت الكثرة، وعلى فعول بضم الفاء والعين: كقلب وقلوب اذا أريدت القلة، ولأنه لو كان أشياء بوزن أفعال لصرف، لأن همزته بعد الألف حينئذ أصل، ولما منع الصرف علمنا أن هذه الهمزة للتأنيث، فالمنع لألف التأنيث، وأصل همزة التأنيث ألف تأنيث، وهمزة التأنيث زائدة، وكذا الألف قبلها، فالهمزة الأولى قبل الشين أصل لا زائدة وهى لام الكلمة، وقدمت على الفاء، والفاء الشين، والعين والباء فوزنه لفعاء بفتح اللام واسكان الفاء، وهو اسم جمع، وأصله قبل التقديم شيئاء بفتح الشين واسكان الباء بعدها همزة هى لام الكلمة بعدها ألف وهمزة زائدتان، ولما قدمت الهمزة الأولى على الشين سكنت الشين ليبقى وزن المفرد، لأن هذا غير جمع، والأصل بقاءه فى غير الجمع، وهذا هو الصحيح وعليه الجمهور وهو قول الخليل وسيبويه.
وقيل: أشياء جمع شىء وهمزتاه زائدتان كالألف، فالهمزة الأولى همزة الجمع، والآخرة همزة التأنيث، والهمزة التى هى لام الكلمة محذوفة، ووزنه أفعاء بفتح الهمزة واسكان الفاء على أن أصل شىء شيىء بفتح الشين وكسر الياء الأولى واسكان الياء بعدها، وبعد الياء الآخرة همزة بوزن صديق ونصيب، حذفت الياء الآخرة الزائدة وسكنت الأولى، وذلك تخفيف فوزن الجمع أفعلاء بفتح الهمزة واسكان الفاء وكسر العين، وأصله أشيئاء بفتح الهمزة واسكان الشين وكسر الياء بعد همزة هى لام الكلمة وبعدها ألف وهمزة للتأنيث والياء هذه هى عين الكلمة، والياء الزائدة محذوفة فحذفت الهمزة التى هى لام الكلمة تخفيفاً.
وقيل: وزنه أفعلاء كذلك الا أن أصل شىء شيىء بتشديد الياء بوزن فعيل حذفت الياء الزائدة وهى الأولى فى المفرد، وجمع بعد حذفها، وقلبت الهمزة التى هى لام يائه لوقوعها بعد كسرة الياء هى عين، فحذفت أيضا هذه الياء التى هى عين، فوزنه بعد الحذف أفلاء وفيه تكلف لا دليل عليه ولا داعى، وقيل: وزن أشياء أفعال وأنه جمع شىء ويرده أنه ممنوع الصرف، وقد بسطت القولين فى غير هذا.