التفاسير

< >
عرض

فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا ٱسْتَحَقَّآ إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا ٱعْتَدَيْنَآ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ
١٠٧
-المائدة

هميان الزاد إلى دار المعاد

(فَإِنْ عُثِرَ): اطلع وهو مبنى للمفعول ولا ضمير فيه، به نائب الفاعل هو قوله:
{ عَلَى أَنَهُمَا اسْتَحَقَآ إِثْماً }: استوجبا نسبة الاثم أى الذنب اليهما لفعلهما ما هو ذنب كالتحريف والكتم، كذا ظهر لى، وأعجب من قول القاضى فعلا ما أوجب اثماً، وتأوله بأنه أراد تفسير الاثم بلازمه وهو العقاب، ثم رأيت ما ذكرته وجهاً ثانياً فى الكشاف، لكن ذكر أولا ما ذكره القاضى، فيحتاج لهذا التأويل الذى أولت به كلام القاضى والضميران فى أنهما استحقا للاثنين أو آخران.
{ فَآخَرَانِ }: مبتدأ أى فشاهدان آخران، فمسوغ الابتداء بالنكرة كونها بعد فاء الجواب، وكونها نعتاً لمحذوف، وكونها منعوتة بقوله: { مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِم } وساغ الفصل بالخبر، لأن مجزوم الجزاء أزال كون الخبر أجنبياً من الموصوف، والخبر هو قوله:
{ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا }: أو آخران فاعل لمحذوف أى فليقم الشهادة شاهدان آخران، وجملة يقومان مقامهما نعت لآخران، أو حال من منعوته المحذوف.
{ مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِم }:أى من الذين أخذ غيرهم ما لهم من الحق فيما يقولون، وادعاه غيرهم أنه حق له وهم الورثة.
{ الأَوْلَيَانِ }: تثنية أولى بفتح الهمزة واسكان الواو، بمعنى أقرب أو أحق، فالمعنى الأقربان الى الميت بالرحم والنسب أو الأحقان بالميت لقرب الرحم والنسب، أو الأحقان بالشهادة، وذلك أن الأقرب أعرف بمال الميت، وأمره والأوليان بدل من آخران أو من ألف يقومان، أو خبر لمحذوف أى هما الأوليان، أو مبتدأ خبره آخران، ويقومان صفة آخران وكذا من الذين، أو من الذين حال من ألف يقومان، أو آخران مبتدأ والأوليان خبره لجواز الأخبار بالمعرفة عن النكرة المخصصة.
قرأ حفص، وعلى، وأبى وابن عباس، استحق بالبناء للفاعل، فيكون الأوليان فاعل استحق، ومفعول استحق فى هذه القراءة محذوف تقديره استحق الأوليان التخصيص بالشهادة، أى من الورثة الذين استحق عليهم الرجلان اللذان هما أقرب الورثة التخصيص بالشهادة، أى استحقا على سائر الورثة أن يخصوهما بأن يشهد المزيد قربهما.
وقرأ حمزة، ويعقوب، وعاصم فى رواية أبى بكر: الأولين بفتح الهمزة واسكان اللام قبلها وفتح الواو مشددة وكسر اللام بعدها وفتح النون على أنه نعت الذين، أو بدل الذين، وقرىء الأولين بهذا الضبط الا اللام بعد الواو فمفتوحة، والياء فسكونها حى، والنون فمكسورة تثنية، والقراءة التى قبل هذه جمع، ونصبه فى هذه على المدح.
وقرأ الحسن ببناء استحق للفاعل والأولان بهذا الضبط الا أنه بالألف مكان الياء على أنه فاعل استحق، ومعنى الأولية فى القراءات الثلاث بتشديد الواو تقدمهم على الأجانب فى الشهادة، لأنهم أعلم بأحوال الميت.
{ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَدَتُنَآ أَحَقُّ مِن شَهَادِتهِمَا }: أولى بأن تقبل اللام لام جواب القسم، أو لام الابتداء، والجملة جواب يقسمان، وأحق اسم تفضيل على بابه لاحتمال أن يكون شهادة لكن استحقا اثماً حقاً، ولأن من الناس من يميل اليها ويقول: انها حق لكونها نفعاً له.
{ وَمَا اعْتَدَيْنَا }: ما جاوزنا الحق فيها، ولا فى اقسامنا عليها.
{ إِنَّآ إِذاً }: اذا اعتدينا، لو اعتدينا، او اذا اعتدينا لو كنا ممن يعتدى.
{ لَمِنَ الظَّالِمِينَ }: الواضعين الشىء فى غير موضعه، بأن وضعنا الباطل موضع الحق، أو الناقصين حظ أنفسهم وحق غيرهم، روى أن تميم بن أوس الدارى، وعدى بن زيد خرجا فى تجارة من المدينة الشام وهما نصرانيان، ومعهما بديل بن أبى مريم، قيل: هو من بنى سهم، أى هو مولى فيهم، وكان مسلماً مولى عمرو بن العاص، قيل: كان من المهاجرين، ولما وصلوا الشام مرض بديل، فكتب كتاباً فيه جميع ما معه من المتاع، وألقاه فى متاعه ولم يخبرهما بالكتاب، ولما اشتد وجعه أوصى اليهما وأمرهما أن يدفعا متاعه الى أهله اذا رجعا الى المدينة.
وفى رواية ابن عباس أنهما خرجا الى الشام قبله بتجارة، وقدم عليهما وهما فى الشام بتجارته، وكان تميم بعد اسلامه يقول: يرى الناس كلهم من هذه الآية الا اياى، وعدى بن زيد، ثم انه لما اشتد وجعه وأوصاهما مات، ففتشا متاعه فوجدا فيه اناء من فضة منقوشاً بالذهب فى وسطه ثلاثمائة مثقال فضة فغيباه وباعاه بألف درهم، وقسماها لكل واحد خمسمائة، وهو أعظم تجارته قصد به الملك، كان تميم يخبر بذلك كما رواه ابن عباس.
ولما قضيا حاجتهما من الشام انصرفا الى المدينة، فدفعا المتاع الى أهله ففتشوه، فوجدوا فيه الكتاب، وفى الكتاب ذكر الاناء والمثاقيل وماله كله، فجاءوا اليهما فقالوا: هل باع صاحبنا شيئاً من متاعه؟ قالا: لا. قالوا: فهل اتجر تجارة؟ قالا: لا. قالوا: فهل طال مرضه فأنفق شيئاً على نفسه؟ قالا: لا. قالوا: انا وجدنا فى متاعه صحيفة فيها تسمية ما كان معه، وانا فقدنا اناء من فضة مموهاً بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال فضة، قالا: لا ندرى انما أوصى الينا بما وصلكم، وما لنا علم بالأناء، وفى رواية: ما ترك غير هذا، ولا دفع علينا غيره، فخاصموهما الى النبى صلى الله عليه وسلم فأصرا على الانكار، فنزلت الآية:
{ يآ أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } الى آخرها فحلفهما رسول الله صلى الله عليه سلم بعد صلاة العصر عند المنبر، فخلى سبيلهما، ثم وجدوا الاناء بمكة، وقال من وجدوه عنده: اشتريناه من عدى بن زيد، وتميم بن أوس.
وفى رواية ثم وجد الاناء بأيديهما بعد حلفهما، فأتاهما بنو سهم قبيلة بديل، فقالا: قد اشتريناه منه، ولكن لم يكن لنا عليه بينة فكرهنا أن نقر لكم به، وقيل: وجدوه بعد التحليف عند تميم، فقال: اشتريته ونسيت أن أذكره لكم، وعلى كل حال فرفعوهما الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل: { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَهُمَا اسْتَحَقَآ إِثْماً } الى آخره فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبى رفاعة وهما من بنى سهم، وحلفا وهما الآخران الأوليان اللذان ممن استحقا، وعدى وتميم اللذان عثر على أنهما استحقا اثما اذ قال أهل مكة: اشترينا الاناء منهما، فهذه أمارة يتهمان بها، أو أقرا أنا اشتريناه من بديل، فهذا اقرار والشراء دعوى.
وفى رواية: كان تميم بن أوس بعد اسلامه يقر على نفسه أنى لما أسلمت بعد قدوم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة، تأثمت من ذلك فأتيت أهله وأخبرتهم الخبر، وأديت اليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبى مثلها، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه سلم، فسألهم البينة فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم على أهل دينه، فحلف فأنزل الله تعالى:
{ { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } الى قوله: { أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم } فقام عمرو بن العاص، ورجل آخر يعنى المطلب بن أبى رفاعة فحلفا، فنزعت خمسمائة درهم من عدى، وذلك أنه مات بديل بأرض ليس فيها حينئذ اسلام، ولا يلزم أن يجعل المحتضر وصيين، وانما ذكر الله اثنين ان قلنا انهما وصيان لأن ذلك واقعة حال بديل.