التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
١٤
-المائدة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَا نَصَارَى أَخَذنَا مِيثَاقَهُم }: من الذين متعلق باخذنا، قدم على طريق الاهتمام بتقبيح المأخوذ منهم، أخزاهم الله، وهاء ميثاقهم عائدة الى الذين، أى وأخذنا من الذين قالوا انا نصارى ميثاقهم، وقيل: من الذين خبر لمحذوف موصوف جملة أخذنا، أى ومن الذين قالوا انا نصارى قوم أخذنا ميثاقهم، كقولهم: منا قام ومنا ظعن، أى فريق قام وفريق ظعن، وانما لم يقل ومن النصارى لأنهم، قبحهم الله وأخزاهم، ابتدعوا هذا الاسم وافتعلوه، ولم يكن فيهم معناه اذ لم ينصروا الله قليل منهم، ثم زالوا كأنه قيل: ومن الذين زعموا أنهم نصارى، واذا ذكرهم فى غير هذه الآية باسم النصارى فعلى مطلق الشهرة بالاسم، ذكر الله أنه أخذ ميثاقهم على لسان رسوله عيسى عليه السلام، وعهد اليهم فى الانجيل أن يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ولا يخرج عن حكم الانجيل فلم يفعلوا كما قال عز وجل:
{ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ }: تزكوا نصيبهم من الثواب من الايمان برسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، والعمل بالانجيل، أو زال عن حفظهم بنقض الميثاق حظ من الانجيل والعلم.
{ فَأَغْرَينَا بَينَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغضَآءَ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ }: مقدرين متعلق بأغرينا لا حال مما بعده كما قيل، الا أن يقال: مقدرة أى العدواة والبغضاء مقدرى الدوام بينهم بتفرقهم، واختلاف أهوائهم كل فرقة تكره الأخرى، وصاروا كلهم أنصاراً للشيطان الا من شاء الله، والاغراء الالصاق، وقيل: الهاء لليهود والنصارى، أغرى الله بين اليهود والنصارى العداوة والبغضاء، والأول أوضح.
وكنت على عهد من قصة طويلة فى بواص بالصاد، ويقال أيضاً بالسين والآن تحصلت عليها مختصرة، وهى ما يحكى عن الكلبى أن بولس كان سبب ضلالة النصارى، وكان النصارى على دين الاسلام احدى وثمانين سنة بعد ما رفع عيسى عليه السلام، يصلون الى الكعبة، ويصومون رمضان، حتى وقع فيهم بينهم وبين اليهود حرب، وكان بولس رجلا شجاعا يهوديا قد قتل جملة من أصحاب عيسى عليه السلام، فقال يوماً لليهود: ان كان الحق مع عيسى فكفرنا به، فالنار مصيرنا، فنحن مغبونون ان دخلوا الجنة ودخلنا النار، ولكن سأحتال وأضلهم حتى يدخلوا النار، وكان له فرس يقال له: العقاب يقاتل عليه، فعرقب فرسه وأظهر الندامة، وضع على رأسه التراب.
فقالت له النصارى: من أنت؟ فقال: بولس عدوكم، وقد نوديت من السماء أن ليس لك توبة الا أن تنتصر، وقد تبت، فأدخلوه الكنيسة فدخل بيتاً فيها فأقام سنة لا يخرج منه ليلا ولا نهاراً حتى تعلم الانجيل، ثم خرج فقال: نوديت أن الله قد قبل توبتك فصدقوه وأحبوه، ثم مضى الى بيت المقدس، واستخلف عليهم نسطور، وعلمه أن عيسى ومريم والاله كانوا ثلاثة، ثم توجه الى الروم وعلمهم اللاهوت الناسوت، وقال لهم: لم يكن عيسى بانسى ولا بجنى، ولكنه ابن الله، وعلم ذلك رجلا يقال له: يعقوب، ثم دعى رجلا يقال له: ملكان وقال: ان الاله لم يزل ولا يزال عيسى.
فلما استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحداً واحداً وقال لكل واحد منهم: أنت خالصتى، وقد رأيت عيسى فى المنام فرضى عنى، وقال لكل واحد منهم: انى غداً ذابح نفسى فادع الناس الى نحلتك، ثم دخل المذبح فذبح نفسه وقال: انما أفعل لمرضاة عيسى.
فلما كان يوم ثالثة، دعا كل واحد منهم الناس الى نحلته، فتبع كل واحد منهم طائفة من الناس، فافترقت النصارى ثلاث فرق: نصطورية، ويعقوبية، وملكانية، ويقال: ملكية، فاختلفوا واقتتلوا، فقال الله تعالى:
{ وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم } ولم يذكر الله تعالى قولا مقروناً بالأفواه والألسن الا كان ذلك زوراً.
ويروى أن بولس يهودى الخ ألقى العداوة بين اليهود والنصارى، كان بينهم وبين النصارى قتال كثير، وقتل منهم خلقاً كثيراً، وأراد أن يحتال بحيلة تقع بها العداوة والبغضاء بينهم، فيتقاتلوا بها الى يوم القيامة، فغاب عنهم زماناً طويلا، ثم جاءهم وجعل نفسه أعور وقال لهم: أتعرفوننى؟ قالوا: أنت الذى فعلت ما فعلت فينا من القتل، قال: قد فعلت ذلك كله الا أن الله سبحانه وتعالى قد وفقنى للتوبة والرجوع الى الحق، بسبب أنى رأيت عيسى عليه السلام فى النوم، نزل من السماء فلطم وجهى لطمة فقأ بها احدى عينى وقال: أى شىء تريد من قومى؟ أما تستحيى من الله! أما تخاف عقابه! فخررت ساجداً لله تعالى بين يديه، وتبت على يديه، وعلمنى شرائع دينه، وأمرنى أن ألحق بكم، وأكون بين ظهرانيكم، وأعلمكم شرائع دينكم كما علمنى عيسى فى المنام.
فقبلوه، واتخذوا له غرفة، فصعد تلك الغرفة، وفتح كوة الى الناس فى الحائط، وكان يتعبد فى الغرفة، وربما اجتمعوا اليه وسألوه فيجيبهم من تلك الكوة، وربما يقول قولا كان فى الظاهر منكراً فيذكرون عليه القول فيفسره تفسيراً يعجبهم، فانقادوا له كلهم، وكانوا يقبلون قوله فى جميع ما يأمرهم به.
فقال يوماً من الأيام: اجتمعوا عندى، وقد حضرنى علم أبثه لكم، فاجتمعوا فقال لهم: أليس الله تعالى خلق هذه الأشياء فى الدنيا لمنفعة ابن آدم؟ كقالوا: نعم، فقال: فلم تحرمون على أنفسكم من بينها الخمر والخنزير، وقد خلق لكم ما فى الأرض جميعا، فأخذوا قوله، فاستحلوا الخمر والخنزير.
ولما مضى على ذلك أيام دعاهم وقال: حضرنى علم اسمعوا ذلك منى وانتفعوا به، فقالوا: ما هو؟ فقال لهم: من أين تطلع الشمس من نواحى الأفق؟ فقالوا: تطلع من قبل المشرق. قال: ومن أى ناحية يطلع القمر والنجوم؟ فقالوا: من قبل المشرق. فقال: ومن يرسلهم من ميل المشرق؟ قالوا: الله تعالى. فقال: فاعلموا أن الله تعالى من قبل المشرق، فاذا صليتم فصلوا اليه، فحولوا صلاتهم الى المشرق.
ولما مضى على ذلك أيام دعا بطائفة منهم، وأمرهم أن يدخلوا عليه فى الغرفة فقال لهم: جاءنى عيسى عليه السلام الليلة فقال لى: رضيت عنك لأجل علمك، وتعلمك قومى، فمسح يده على عينى فبرئت، فاعلموا أنى أريد أن أجعل نفسى الليلة قرباناً لأجل عيسى، وقد حضرنى علم أريد أن أخبركم به فى السر لتحفظوه عنى، وتدعوا الناس اليه، فقال: هل يستطيع أحد أن يحيى الموتى، ويبرىء الأكمه والأبرص الا الله تعالى؟ فقالوا: نعم. قال: ان عيسى فعل هذه الأشياء، فاعلموا أنه هو الله، فخرجوا من عنده، ثم دعا بطائفة ثانية فأخبرهم أن عيسى ابن الله، ثم دعا بالثالثة فأخبرهم أن الله ثالث ثلاثة، وقال لكل واحدة من هؤلاء الطوائف: انى أريد أن أجعل نفسى قرباناً لعيسى عليه السلام الليلة.
ثم خرج فى بعض الليلة، وغاب عنهم فأصبحوا ولم يجدوه فى موضعه، فقالوا: انه قد التحق بعيسى، فجعل كل واحد يدعو الناس الى ما سمع منه لعنه الله، وكفرت كل طائفة بالأخرى، ووقع بينهم القتال فاقتتلوا، وبقيت بينهم العداوة الى يوم القيامة وهم: النسطورية قالوا: المسيح ابن الله، والملكانية قالوا: ان الله ثالث ثلاثة: المسيح وأمه والله، واليعقوبية قالوا: ان الله هو المسيح.
والعداوة ما يحصل بالجارحة من مجاوزة الحد، كشتم باللسان، وضرب باليد، والبغضاء فى القلب تلد العداوة، واطلاق البغضاء على ما باللسان فى قوله تعالى:
{ { قد بدت البغضاء من أفواههم } مجاز.
{ وَسَوفَ يُنَبِّئُهُم اللهُ بِمَا كَانُوا يَصنَعُونَ }: يجازيهم فى الآخرة بما عملوا فى الدنيا.