التفاسير

< >
عرض

وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ
١٨
-المائدة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَقَالتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحنُ أَبنَاءُ اللهِ وأَحِبَّاؤُهُ }: أى نحن أبناء ابنى الله، فاليهود قالوا: نحن أبناء ابن الله عزيز، والنصارى قالوا: نحن أبناء ابن الله المسيح، واليهود ولو لم يكونوا ولد عزير، والنصرى ولو لم يكونوا ولد عيسى، لكن اليهود أشياع عزير، والنصارى أشياع عيسى، فنسبوا النبوة من الله لأشياع من هو ابن عندهم، لعنهم الله عز وجل.
والمنتسب الى انسان فى أمر ينسب اليه ما ينسب لذلك الشىء لما انتسبوا اليهما بالمشايعة نسبت اليهم نبوتهما المكذوبة، وكما نسب مؤمن آل فرعون الملك لقوم فرعون
{ يا قوم لكم الملك اليوم } وانما هو لفرعون، وكما كنى عبد الله بن الزبير أبا خبيب بصيغة التصغير فنسب اليه أشياعه فقيل الخبيبيون، وقيل: له وأخيه مصعب وابنه، وقيل أيضاً الخببيان له ولابنه، أو له ولأخيه مصعب، وقد روى قدنى من بصر الخبيبين قدى بالتثنية والجمع ورويته أنا بالتثنية.
وقال الفخر فى المطول على الشواهد بعدما ذكر ذلك كله: ويحتمل على الجمع أن لا يكون ذلك تغليب، بل الأصل الخبيبين فحذفت ياء النسب كقولهم الأشعرين وكالأعجمين عجمين، لأنه يقال أعجمين، وقيل: مراد اليهود نحن أبناء رسل الله، فحذفوا المضاف، ومراد النصارى أنهم تأولوا يحكون عن المسيح أنه يقول فى الله أنه أبى الذى فى السماء، وانى لا أشرب الخمر حتى أشربها فى جوار أبى فى الجنة، وأذهب الى أبى وأبيكم، واذا صليتم فقولوا: يا أبانا الذى فى السماء، تقدس اسمك.
وفى الباب الثامن من الانجيل لمتى يكتبون كتباً بأيديهم، ويزيدون فيها وينقصون، ويسمونها أناجيل، وينسبون لمتى وغيره، قال عيسى للحواريين، فليضىء نوركم قدام الناس ليروا أعمالكم الصالحة ويمجدوا أباكم الذى فى السماوات.
وقال فى الفصل التاسع: أحسنوا الى من أبغضكم، وصلوا من يطردكم ويغتصبكم لكيما تكونوا أبناء أبيكم الذى فى السماوات. وقال أيضاً: كونوا مثل أبيكم السمائى، فهو كامل، وقال فى دعاء عندهم، هو كالفاتحه الكريمة عندنا، وهو فى الانجيل الذى زعموه انجيلا أن يقولوا: وأبوينا الذى فى السماء.
وذكروا عن متى فى الباب التاسع والثمانين قال عيسى: أقول لكم انى لا أشرب عصير هذه الكرمة الى اليوم الذى أشربه معكم جديداً فى ملكوت أبى، ولا يصح عند المسلمين أن عيسى قال ذلك، فلو صح لم يرد بالأب الا التعظيم والعطف كفر الوالدانية، وتعظيم الابن أباه كما قال أحمد بن قاسم الأندلسى الحجرى: لا يفهم من تسمية عيسى ابن الله الا أنه نبى مقبول عند الله، قال: وقد قرأت فى الانجيل أن واحداً من الحواريين قال لسيدنا عيسى عليه السلام: أنت ابن الله حقيقة؟ قال له سيدنا عيسى عليه السلام: أنت قلت، ولم يقبل منه ذلك، وعندهم أناجيل وقال: ان دينهم مفتوح للزيادة والنقصان.
قال: وأما الانجيل الذى كتبت منه هذه النصوص، فحذفوا منه ذلك، وبرهان ما قلنا أن المراد بالنبوة الصلاح ما مر من قوله: لكى ما تكونوا أبناء أبيكم الذى فى السماوات.
وعن السدى: أوحى الله تعالى الى اسرائيل أول ولدك بكرى، فظلت اليهود بذلك، وانما المعنى أنه بكر فى التشريف أو النبوة.
وعن ابن عباس: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن أصار، ويحرز بن عمرو، وشاس بن عدى فكلموه، وكلمهم صلى الله عليه وسلم ودعاهم الى الله، وحذرهم نقمته، فقالوا: ما تخوفنا يا محمد نحن أبناء الله وأحباؤه كقول النصارى، فنزلت الآية تكذيباً لهم قبحهم الله.
وزعم اليهود أنهم يقيمون فى النار أربعين يوماً ثم ينادى مناد أن أخرجوا من النار كل مختون من بنى اسرائيل، فاما أن يقول أوائل اليهود والنصارى بالبنوة على حقيقة، واما أن يقولوه على معنى الرحمة والتعظيم كما قال الحسن: انهم قالوا: قربنا من الله وحبه ايانا كقرب الولد من والده، وحب الوالد لولده، وعلى كل حال يحرم ذلك، فان كل ما يوهم الشرك والنقص فى الله حرام ولو لم يرد المتكلم به ما لا يجوز، وقد يقول بعض أهل المغرب الأقصى، وبعض أهل مغربنا هذا بأنه ربى وهو حرام لا يجوز، ولو لم يرد الشرك لأنه لفظ شرك.
{ قُل }: يا محمد ان كان ذاكم.
{ فَلِمَ يُعَذِبُكُم بِذُنُوبِكُم }: كما أقرت اليهود بتعذيب أيام معدودة يا اخوان القردة والخنازير، فبعضكم صيره قردة، وبعضكم خنازير مسخاً بذنوبهم، ومن ورائهم النار الدائمة وهى أيضا لكلكم، كأنى أراكم مواقعيها الا من اتبع ما أمر الله به، واجتنب ما نهى الله كما قال الله.
{ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّن خَلَقَ يَغفِرُ لِمَن يَشَآءَ }: الغفران له بأن يوفقه للتوبة.
{ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءَ }: تعذيبه بأن يخذله لا مزية لكم على سائر البشر، فهل رأيتم أبا يعذب ابنه أو يمسخه؟! وهل رأيتم حبيباً يعصى حبيبه؟!
{ وَللهِ مُلكُ السَّمَاوَاتِ والأَرضِ وَمَا بَيْنَهُمَا }: كل ذلك ملك له لا شىء منه ابناً له ولا صاحبة له، ومن يملك ذلك لا شبه له، والولد والصاحبة لا بد من شبههما الزوج والأب.
{ وَإِلَيهِ المَصِيرُ }: بالبعث للأجسام والأرواح للجزاء بما فعلوا من خير وشر، فلا يقل أحد انى حبيب الله، ولا شريف لا يعذبنى، اذ لا يؤمن مكر الله، ولا يعبر الحب والشرف، أو يتصور أن يغير التقوى عند الله.