التفاسير

< >
عرض

قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ
٢٦
-المائدة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ قَالَ فَإِنهَا }: أى الأرض المقدسة.
{ مُحَرَّمَةٌ عَليْهِم }: ممنوعة عنهم، لا يدخلونها ولا يسكنونها غير عبدى يوشع وعبدى كالب.
{ أَربَعِينَ سَنَة }: أربعين ظرف زمان متعلق بمحرمة، وبعد الأربعين يدخلها من حيى منهم ممن ولدوا فى أرض التيه، وممن دخل التيه دون عشرين سنة من عمره، وباقيهم أميتهم فى التيه، وقيل: حيى بعض الباقى فدخلوها وهو الظاهر المتبادر أنها لهم بعد الأربعين، وقيل: لم يدخلها أحد ممن قال: انا لن ندخلها، بل ما توفى التيه بعد قتل الجبارين أولادهم، فقيل: هم أربعين سنة يرحلون عند الصبح الى مصر، فيمسوا فى موضع رحلوا منه، وقيل: لما أيسو تركوا الرحيل، وذلك نقمة عليهم، ونعمة وراحة على موسى وهارون ويوشع وكالب.
وقيل: ان الله حرمها عليهم تعبداً لا منعاً، وهذا بعيد لأنه لو كان ذلك لعصوا وخرجوا، وأيضاً لفظ يتيهون يضعف هذا، وقيل: أربعين متعلق بيتيهون بعده، فيكون التحريم مطلقاً غير مقيد بمدة على هذا، فهى محرمة أبداً عليهم فى هذا القول الى الموت، فماتوا كلهم فى التيه، فلم يدخلها الا من ولد فى التيه أو دخل التيه غير بالغ الحلم، والأصل تعلق أربعين بمحرمة، لأن فيه عدم التقديم، واذا علق بمحرمة كان التيه مطلقاً فيصدق بأنهم تاهوا حتى أيسوا من اهتداء الطريق الى مصر فتركوا الرحيل، والأظهر أن يعلق بأحدهما فبقدر مثله للآخر.
روى أنهم دخلوها بعد الأربعين، وهو يقوى تعليقه بمحرمة، ومن بقى منهم فتحوها مع موسى فتح أريحا، وأقام فيها ثم مات، وقيل: قبض فى التيه وأوصى يوشع بقتال الجبارين، وصحح الأول لاشتهار أن موسى قتل عوجاً، فهو الذى قاتل الجبارين، وجعل يوشع على مقدمته، واختلفوا: هل كان موسى يخرج من التيه وهارون حيث شاءا؟
أو أما أن يقال لم يدخلاه لقوله:
{ فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } فلا يصح لأنه بلا شك يضرب لهم الحجر للماء.
{ يَتِيهُونَ فِى الأَرضِ }: يمشون فيها على طريق متحيرين لا يدرون الطريق، قيل: أربعين سنة فى ستة فراسخ، يسيرون من الصباح الى المساء، فاذا هم فى موضع الرحلة، وهم ستمائة ألف فارس، ولكل مائة ألف فرسخ مسيرة نصف يوم، وقيل: ستة فراسخ عرضاً، واثنا عشر طولا، وقيل: تسعة عرضاً وثلاثون طولا، ولم يصب من ذلك تعب ولا مشقة موسى وهارون ويوشع وكالب، بل راحة ولهم زيادة درجات كما أعان ابراهيم على النار، وجعلها برداً وسلاماً، وزاد له درجات.
وفى بعض القول: مات فيه هارون، ثم بعده موسى بسنة، وقيل: ماتا خارجاً، وقيل: مات موسى ودخل يوشع بعده أريحا بثلاثة أشهر، أما اذا قيل: ان التحريم تعبد، وأنهم يعرفون الطريق فلا اشكال فى حصر المفازة لهم وهو ضعيف كما مر، الا أن يقال: انهم بعدما يعصون ويعاندون ينقادون، وأما اذا قلنا انهم لا يجدون الطريق فذلك خرق عادة من الله، ولولا ذلك لاتبعوا كوكباً أو الشمس والقمر، فيتصلون بالطريق أو بقرية، ويخرجون، ويمكن أن الله عز وجل ستر عنهم الشمس والقمر والنجوم كما قال الله تعالى:
{ وظللنا عليهم الغمام } وكما مر أن عموداً من نور يضىء لهم فى الليل.
{ فَلا تَأسَ }: لا تحزن.
{ عَلَى القَومِ الفَاسِقِينَ }: لخروجهم عن أمر الله لما دعى عليهم فعوقبوا بطول التيه ندم فحزن، فأوحى الله اليه: { لا تَأسَ عَلَى القَومِ الفَاسِقِينَ } فانهم أحق بالتيه لفسقهم، وأجاز الزجاج أن يكون هذا خطاب لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بأن لا يحزن على يهود زمانه فى بلاده، فانهم لم يزالوا أهل عناد، والواضح أن الخطاب لموسى عليه السلام، قيل: بعث الله يوشع بعد الأربعين المذكورة فى الآية نبياً، فأخبر بنى اسرائيل بأنه نبى، وأن الله تعالى أمره بقتل الجبارين فصدقوه وتابعوه ومعه تابوت الميثاق، فحصر أريحا ستة أشهر، ولما كان الشتاء نفخوا فى القرون وضجوا ضجة واحدة، فسقط السور فدخلوها، وقاتلوا الجبابرة فهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم، تجتمع العصابة على عنق الرجل فيضربونه لا يقطعونه، وكان القتل يوم الجمعة، فبقيت منه بقية، وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت، فخشى يوشع أن يفوتوه أو يعجزوه فقال: اللهم اردد على الشمس، أو قال للشمس انك فى طاعة الله، فأذن الله للشمس أن تقف، وللقمر أن يقيم حتى ينتقم الله من أعداء الله قبل دخول السبت، فردت عليه الشمس، وزيد له فى النهار ساعة حتى قتلهم جميعاً.
قال فى عرايس القرآن: أخبرنا أبو بكر محمد بن صخر، حدثنا محمد بن عبيد الكندى، حدثنا عبد الرحمن بن شريك، وحدثنا أبى عن عروة قال:
" دخلت على فاطمة بنت على فرأيت فى عنقها خرزة ورأيت في يدها مسكتين مختلطتين وهى عجوز كبيرة، فقلت لها: ما هذا؟ فقالت: انه ليس للمرأة ان تتشبه بالرجال، ثم حدثتنى أن أسماء بنت عميس حدثتها أن الشمس غابت أو كادت تغيب، ثم أن نبى الله سرى عنه أى خفف عنه، وذلك فى مرض موته صلى الله عليه وسلم فقال: أصليت يا على؟ فقال: لا. فقال النبى صلى الله عليه وسلم: اللهم رد على علىّ الشمس فرجعت الشمس حتى بلغت نصف المسجد" ، وكذلك وقفت الشمس يوم الخندق، وقد شغلوا عن صلاة العصر حتى غابت، فردها الله حتى صلى العصر، ووقفت له صبيحة ليلة الاسراء حين انتظر العير اذا خبر بوصولها حين شروق الشمس فقيل فى ذلك كله.
وفى قصة يوشع ردت الى ورائها، وقيل: وقفت ولم تسر، وقيل: بطئت حركتها ومر التصريح ببعض ذلك فى بعض الروايات، وبعد ما فرغ يوشع من قتال الجبارين اجتمعت عليه خمسة ملوك فهزمهم بنو اسرائيل حتى أهبطوهم الى مدينة جوران، ورماهم الله بأحجار البرد، فكان من قتلهم البرد أكثر ممن قتله بنو اسرائيل بالسيف، وهرب الخمسة الملوك، واجتمعوا فى غار فأمر بهم يوشع فأخرجوا فقتلهم وصلبهم وطرحهم فى ذلك الغار، وتتبع سائر ملوك الشام واحداً بعد واحد حتى غلب على جميع أرض الشام، وصارت الشام كلها لبنى اسرائيل، وفرق عماله فى نواحيها.
ثم جمع الغنائم فلم تنزل النار، فأوحى الله الى يوشع أن فيها غلولا فدهنهم كالب بعود فمن لصقت يده بيدك ففيه غلول، فالتصقت يد رجل بيده فقال: هات ما عندك فأتاه برأس من ذهب مكلل بالياقوت قد غله، فجعله يوشع فى القربان مع الرجل، فجعل كل من غل شيئاً يأتى به، فأكلت النار جميع ذلك مع الرجل الذى أغل الرأس.
قال أبو هريرة:
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غزا نبى من الأنبياء فقال: لا يتبعنى رجل كان قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبنى بها، ولا من بنى بناء لم يرفع سقفه، ولا من اشترى غنما أو خلفات ينتظر أولادها، فغزا فدنى الى القرية حين صلوا العصر قريباً من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها على ساعة فحبست له حتى فتح الله عليه، وقال: قال الله: فيهم غلول وأمره أن يبايعوه، فقال: ليبايعنى من كل قبيلة منكم رجل، فالتصقت يد رجل بيده، فقال له: فيكم غلول، فاذهب فابحث عنه فى قومك، فمضى فرجع اليه برأس بقرة ذهباً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تحل الغنائم لأحد قبلنا" ونبأ الله كالب بعد يوشع.
قال محمد بن اسحاق: كان موسى عليه السلام يكره الموت، فأراد الله أن يحببه اليه ويكره له الحياة، فنبأ يوشع بن نون، وكان يغدو ويروح اليه، فيقول له موسى: يا نبى الله ما أحدث الله اليك؟ فيقول له يوشع: يا نبى الله ألم أصحبك كذا وكذا سنة، فهل كنت أسألك عن شىء مما أحدث الله اليك حتى كنت أنت الذى تبدينى به وتذكره، فأحب موسى الموت.
وعن عبد الصمد بن معقل: سمعت وهباً يقول: من كرامات موسى عليه السلام أنه لما ضاق ببنى اسرائيل وأوحى الله تعالى الى ألف نبى يكونون له عوناً، فلما مالوا اليهم وجد فى نفسه غيرة، فأماتهم الله لكرامته فى وقت واحد، وذكروا من شأن قصة موت هارون قبله.
عن السدى: أوحى الله الى موسى عليه السلام أنى متوفى هارون، فأت به الى جبل كذا كذا، فانطلق موسى وهارون نحو ذلك الجبل، فاذا هم بشجرة لم ير مثلها، واذا ببيت مبنى عليه وفيه سرير عليه فراش، واذا فيه ريح طيبة، فلما نظر هارون الى الفراش أعجبه فقال: يا موسى انى أحب أن أنام على هذا السرير، فقال: نم عليه، فقال: انى أخاف أن يأتى رب هذا البيت فيغضب على، فقال له موسى: لا تخف انى أكفيك رب هذا البيت، قال: يا موسى نم معى، فان جاء رب البيت غضب علينا جميعاً، ففعل ذلك فلما ناما جميعاً أخذ هارون الموت، ولما وجد هارون حس الموت قال: يا موسى خدعتنى.
ولما قبض رفع ذلك البيت والسرير وهو فيه الى السماء، وذهبت الشجرة، ولما رجع موسى وليس معه هارون قال بنو اسرائيل: قتل موسى هارون لحبنا اياه حسداً، فقال لهم: ويحكم انه أخى أفترونى أقتله؟ فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين، ثم دعا الله تعالى، فأنزل الله السرير حتى نظروا اليه بين السماء والأرض، فصدقوه.
وقال عمرو بن ميمون: مات هارون وموسى عليهما السلام فى التيه، ومات هارون قبل موسى، خرجا الى كهف فمات فدفنه موسى، وانصرف الى بنى اسرائيل، فقالوا: أين هارون؟ فقال: مات، قالوا: كذبت، ولكنك قتلته لحبنا اياه، وكان محببا، فتضرع الى ربه وشكا ما لقى منهم، فأوحى الله تعالى اليه أن ينطلق بهم الى قبره، فناداه: يا هارون، فخرج من قبره ينفط التراب عن رأسه، فقال له موسى: أنا قتلتك؟ قال: لا والله، ولكنى مت، قال: فعد الى مضجعك فانصرفوا عنه.
وعن على بن أبى طالب: ذهب موسى وهارون الى الجبل وصعداه، فمات هارون فآذاه بنو اسرائيل بأنك قتلته، فأمر الله الملائكة فحملوه، فمروا به على بنى اسرائيل، وتكلمت الملائكة بموته وبراءة موسى، وبرأه الله مما قالوا، ثم ان الملائكة حملوه فدفنوه، ولم يعلم أحد قبره الا الرخم فجعله الله أصم وأبكم.
وعن أبى هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"جاء ملك الموت الى موسى عليه السلام فقال: أجب ربك، فلطمه مرتين على عينه ففقأها، فخرج ملك الموت الى الله تعالى فقال: انك أرسلتنى الى عبد لك لا يريد الموت، قد فقأ عينى، فرد الله عينه وقال: ارجع الى عبدى فقل له: ان كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور، أى ظهره، فما وارت يدك من شعره فانك تعيش به سنة، قال: ثم ماذا؟ قال: فانك تموت، قال: فالآن أمتنى، قال: ربى ادننى من الأرض المقدسة رمية بحجر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ان ملك الموت كان يأتى الناس عياناً حتى أتى موسى ليقبضه فلطمه ففقأ عينه فكان ملك الموت بعد ذلك يجىء بخفية" .
وقال السدى فى خبر ذكره عن ابن عباس، وعن ابن مسعود، وأناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينما موسى يمشى هو وقتادة يوشع ابن نون، اذ أقبلت ريح سوداء فلما نظر اليها يوشع ظن أنها الساعة، فالتزم موسى عليه السلام وقال: يا قوم الساعة، فاستل موسى من تحت القميص، وترك القميص فى يوشع، فلما جاء يوشع بالقميص، أخذته بنو اسرائيل وقالوا: قتلت نبى الله؟ قال: لا والله ما قتلته، ولكن استل منى فلم يصدقوه، وأرادوا قتله، فقال: اذا لم تصدقونى فاخرونى ثلاثة أيام، فدعا الله عز وجل، فرأى كل رجل منهم كان يحرسه فى المنام أن يوشع بن نون لم يقتل موسى، وأن الله تعالى قد رفعه أى أماته.
وقال وهب بن منبه، خرج موسى عليه السلام لبعض حاجاته، فمر برهط من الملائكة يحفرون قبراً فأقبل على الملائكة ووقف عليهم، فاذا هم يحفرون قبراً لم ير قط شىء مثله، ولا أحسن منه، ولم ير مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة، فقال لهم: يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر؟ قالوا: نحفره والله لعبد كريم على ربه، قال: ان هذا العبد من الله بمنزلة عظيمة، ما رأيت كاليوم مضجعاً مثله، فقالت الملائكة: يا نبى الله أتريد أن تكون ذلك؟ قال: وددت أن يكون ذلك لى، قالوا: فانزل فاضطجع فيه، فنزل فتوجه الى ربه، ثم تنفس فقبض روحه، ثم ردت عليه الملائكة التراب.
وقيل: ان ملك الموت أتاه فقال له: يا موسى أشربت الخمر؟ قال: لا. فأسكته فقبض روحه، ويرى أن يوشع بن نون رأه بعد موته فقال له: كيف وجدت الموت يا نبى الله؟ قال: كشاة تسلخ وهى حية، وقيل: أتاه ملك الموت بتفاحة من الجنة فشمها، فقبض روحه، ويروى أنه لما مات موسى عليه السلام قال بعض الملائكة لبعض: مات موسى بن عمران، فمن الذى يطمع فى الحياة وعمره مائة وعشرون سنة، منها عشرون فى ملك أفريدون، ولا يعلم أحد أين قبره، وانما سأل موسى كما مر أدنى قبره من بيت المقدس رمية حجر لئلا يعرف الناس قبره، فيفتتنوا به ولشرف بيت المقدس، واستجاب الدفن فى مواضع الفضل والبركة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لو كنت هنالك لأريكم قبره الى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر " .
وانكر بعض الناس أن يلطم موسى ملك الموت عليهما السلام، وأجيب بأنه لم يعرف أنه ملك الموت، بل ظنه رجلا قصده بسوء فدفعه باللطمة، ولم يقصد فقأ عينه، ولا بأس لو قصد فقأها أيضا اذ ظهر له أنه أراده بقتل أو ما دونه، ولما علم أنه ملك الموت مرة أخرى استسلم له، وقيل لم يأته بعد ذلك عياناً كما رأيت، قيل: ويحتمل أن الله أذن له فى لطمه ابتلاء لملك الموت.