التفاسير

< >
عرض

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣
-المائدة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ }: هى ما خرجت روحه بلا ذكاة شرعية، وله دم أصل وهو برى، ومن الذكاة الصيد اذا مات الحيوان به بمحدد أو معلم، وان عاش فى البر والبحر لم يحل أكله الا بذكاة، وأجاز بعض قومنا أكل الضفدع بالذبح، وبعض بلا ذبح يراه من الصيد بمعيشه فى الماء، واستثنت السنة الجراد والسمك من بعض الميتة لغة، وأما فى التعريف فقد خرجا منها، وقد يحرم ما لا دم له لخبثه ولو لم يكن نجسا كالعقرب وللسم.
والمراد بتحريم الميتة تحريم أكلها وبيعها وشرائها وثمنها وكل انتفاع بها ولو استصباحا أو دهنا لما لا يشرط له الطهارة أو غسلا، ورخص بعض فى أكل ما نبت على الميتة ان وصلت عروقه الأرض.
قال الخازن: وسبب تحريم الميتة أن الدم لطيف جدا، فاذا مات الحيوان حتف أنفه احبس ذلك الدم وبقى فى العروق فيفسد ويحصل منه ضرر عظيم.
{ وَالدَّمُ }: المسفوح، وحل بالسنة الكبد والطحال، بينت السنة أنهما دمان، وانهما حلال، وحل علقات القلب، وقيل: لا، وكذا دمه، وحل دم السمك على الصحيح الحق، وقيل: ليس ذلك دما لأنه يكون أبيض اذا يبس، وكان أهل الجاهلية يصبون دم ما ذبحوا أو نحروا ويفصدونه أيضا من نحو ناقة حية، ويجعلونه فيها، ويشوونه فنهى الله عن ذلك، وكانوا يقولون ما حرم من فَزْد له أى فصد له .
{ وَلَحْمُ الخَنزِير }: وسائر أجزائه كلها، وخص اللحم بالذكر لأنه المقصود جدا، وحرم لئلا يتأثر أكله بحرص الخنزير، والرغبة فى المشتهيات، وعدم الغيرة، فانه يرى خنزيرا ينزو على الشاة ولا تصيبه الغيرة، كما تصيب الكبش والتيس.
{ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ }: أى وما رفع الصوت عليه عند ذكاته لغير الله، كقولهم عندها باسم اللات والعزى، والباء بمعنى على، وبه نائب الفاعل، أو الهاء وحدها، وفى السؤالات: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذبائح الجن، وذلك اذا لم يذكر اسم الله عليها انتهى، فما ذبح للجن وذكر اسم الله عليه أكل، وان لم يذكر لم يؤكل، وان ذبح للصنم وذكر اسم الله أكل، وان ذكر اسم الصنم وحده أو مع اسم الله لم تؤكل.
{ وَالمُنخَنِقَةُ }: يخنقونها فتختنق، أو تخنق نفسها بالحبل الذى هو كحلقة فى عنقها فتختنق، وكان أهل الجاهلية يخنقون الشاة فتموت فيأكلونها، فحرم الله ذلك، وذلك أنها ماتت بلا سيلان دم، وليس ذكرها بعد ذكر الميتة تخصيصا بعد عموم، لأن الميتة فى عرف العرب غير ما مات بالاختناق.
والخنق عندهم قتل كالذكاة، والظاهر أن التاء فى البهيمة والميتة للقتل من الوصفية الى الاسمية لتناسى الوصفية، وفى المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة للتأنيث، لتبادر بقاء الوصيفة بالدلالة على الحدث، ويقرب لهذا أيضا لفظ ميتة كأنه قيل: البهيمة المنخقة، والبهيمة الموقوذة، والبهيمة المتردية، والبهيمة النطيحة، وقيل: التاء فيهن للنقل من الوصفية الى الاسمية.
{ وَالمَوْقُوذَةُ }: أى المضروبة حتى ماتت اما بالخشبة أو الحجر أو غير ذلك، ويلتحق به ما فى معنى ذلك مثل أن تضرب للأرض ولو بعد الذبح، وكان الجاهلية يضربونها بالعصى حتى تموت فيأكلونها، فنهى الله عن ذلك، يقال: وقدته أى ضربته.
{ وَالمُتَرَدِّيَةُ }: الواقعة من مكان عال كالساقطة فى بئر أو من جبل أو سطح أو نحو ذلك، ويلتحق به ما رمى من صيد فوقع من عال، أو نحر أو ذبح فوقع، أو رمى طائر فوقع غير ناشر جناحيه لعل فيه بقية حياة زالت بالضرب على الأرض اذ جاء متماسك، وكذا ان ذبح فطار فوقع كذلك.
{ وَالنَّطِيحَةُ }: المنطوحة حتى ماتت، وهذا تشمل الشاة والبقرة، وانما قدرت البهيمة فى الأربعة ليعم اللفظ ما يصلح له، وهذا أولى من أن يقدر فيهن الشاة، ولو كانت أكثر ما يؤكل، وقدر بعضهم الشاة لأنها أكثر، وكانوا فى الجاهلية يأكلون ما مات بالنطح، فنهى الله عز وجل عن ذلك، وقرأ عبد الله بن مسعود والمنطوحة.
{ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ }: كذئب وأسد ونمر، والرابط محذوف، أى وما أكله السبع، فيقدر مضاف، أى وما أكل السبع بعضه، وهذا أولى من تقدير: وما أكل منه السبع، لعدم وجود شرط حذف الرابط المجرور بالحرف، وقيل: بجواز حذف الرابط المجرور بالحرف اذا دل عليه دليل مطلقا، ثم رأيت بعض المتأخرين ذكر بعض ذلك، وذلك انما أكله السبع كله لم يبق فيه أن يقال: انه محرم عليكم، ولم يصح استثناء ما أدركت ذكاته، وقرأ أبو عمر باسكان الباء، وابن عباس: وأكيل السبع.
{ إِلا مَا ذّكَّيتُم }: بذبح أو نحر مما أهلّ به لغير الله، والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع أن أدركت حياته، فلو أدركت وقد أكل السبع موضع الذبح أو النحر لم تحل، فكذا لو أكل المكلب موضع الذبح والنحر لم تحل، وان أكل غيرهما فلا تحل الا ان أدركت حياتها وذكيت، وذلك مثل ما أكل السبع.
وعن على، وابن عباس، والحسن، وقتادة: الاستثناء راجع الى المنخنقة والموقوذة والمتردية النطيحة وما أكل السبع.
وقال الكلبى: الاستثناء مما أكل السبع.
قال ابن عباس: اذا طرفت بعينها، أو ركضت برجلها، أو تحركت بذنبها، أو أذنها فاذبح فهو حلال.
وقال مالك فى أحد قوليه، والزجاج، وابن الأنبارى: اذا لم تدرك الا حياة قليلة جدا لا تضطرب معها عند الذبح، ولا تشخب معه الأوداج لم تحل، والتذكية قطع الحلق والحلقوم والودجين بمحدد غير عظم وغير نحيس.
{ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ }: مفرد يجمع على أنصاب وقرىء بسكون الصاد، وهو الحجر المنصوب حول الكعبة، والمراد الجنس، وكانت أحجار منصوبة حولها يذبحون عليها للأصنام، ويضعون عليها اللحم، يعدون ذلك قربة. وقيل: النصب الصنم، والمراد الجنس، وعليه فعلى بمعنى اللام، أى وما ذبح للصنم، أو على أصلها أى وما ذبح مسمى على الصنم، وفيه أن قوله: { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ } يغنى عنه، الا أن يقال: خص بالذكر لعظم تحريمه، وانما أهل الله به يشمل الذبح باسم الصنم، وباسم غيره، وعند الصنم وفى غير حضرته، وما ذبح على النصب، وما ذبح عنده له مذكور اسمه.
وقيل: النصب جمع نصاب، والنصاب ما نصب من حجر أو صنم، وقيل أيضا: النصب الحجر ينصب ويعبد من دون الله، والفرق أنه يبقى كما هو، والصنم ينقش ويصور، قيل: كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون حجرا منصوبا يعبدونها ويعظمونها ويذبحون لها، وهى غير أصنام، والعطف على الميتة ويقدر فيه استثناء هكذا، ما ذبح على النصب الا ما ذكيتم، أو هو فى نية التقديم على الا ما ذكيتم فيشمله الاستثناء.
وقيل: ما أهل لغير الله به، وما ذبح على النصب لا يحلان بالتذكية ولو كان حيين، لأنه قد ذبحا باسم غير الله ذبحا لا يحييان به، وأما غيرها من المنخنقة وما بعدها، فالذى فيهن شبيه بالمرض ومطلق الجرح لا يحرمن به ان أدركت حياتهن وذكين.
{ وَأَن تَستَقسِمُوا بِالأزْلامِ }: عطف على الميتة، أى وحرم عليكم هذا الفعل وهو الاستقسام بالأزلام، ومعناه طلب القسم والحكم، أى طلب معرفة ما قسم لها فى الجزور دون ما لم يقسم بالأزلام، وهى جمع الزلم بضم الزاى واسكان اللام وفتحها، وبفتح الزاى واللام وهو عود ينحت كالقلم، وليس فيه موضع يكتب به وهى عشرة:
الفذ وله سهم، والتوءم وله سهمان، والرقيب وله ثلاثة، والحلس وله أربعة، والنافس وله خمسة، والمسيل وله ستة، والمعلا وله سبعة، وذلك ثمانية وعشرون سهما تقسم عليها الجزور، يجمعها عشرة أنفس، والسفيح والمنيح والوغد لا سهم لهن، يجعلون السبعة الأولى والثلاثة فى خريطة، وفى كل واحد اسم من اسماء العشرة الأنفس، يأخذ الخريطة رجل ويحركها، ثم يدخل يده فيخرج اسم كل منها، فمن خرج له سهم أو سهمان أو أكثر جعله للفقراء، ولا يأكل هو منه يفتخرون بذلك، ويذمون من لا يدخل فيه، ويسمونه البرم أى البخيل، ومعنى ذلك من خرج اسمه أولا الفذ عليه سهم من الجزور، ومن خرج ثانيا فزلمه التوءم وعليه سهمان وهكذا، وان خرج زلم من الثلاثة عاد الاخراج ومضى ما أخرج.
وذلك نسب بالذبائح فهو فى التفسير أولى مما اختار بعض العلماء من التفسير بالأقداح المعروفة عندهم غير الأولى، يكتب على أحدها أمرنى ربى، وعلى الآخر نهانى ربى، والثالث غفل يطلبون بها معرفة ما قسم الله لهم من فعل أو ترك اذا أرادوا معرفة ما قسم الله لهم من فعل أو ترك اذا أرادوا غزوا أو سفرا أو تجرا أو غير ذلك، ولا يكتب على الثالث شىء، يقال: أرض غفل لا علم بها ولا أثر عمارة، ودابة غفل أى لا سمة عليها.
فان خرج الآمر فعل، أو الناهى ترك، أو الغفل أعاد حتى يخرج الآمر أو الناهى، وقيل ذلك فى شأن السفر.
وعن الكلبى: اذا كانت بينهم مماراة جعلوا لكل رجل سهما، فمن خرج سهمه فهو أولى بالحق، وكانوا يجعلون للسفر سهما، وللحضر سهما، ثم يقولون: ربنا أيهما كان خيرا فأخرجه لفلان، فأيهما خرج رضى به.
وعن مجاهد: يفعلون ذلك لكل سفر وحرب وتجر، وقيل: كانوا اذا أرادوا سفرا أو تجرا أو نكاحا أو اختلفوا فى نسب أو أمر قتيل، أو تحمل دية أو غير ذلك من الأمور العظام جاءوا الى هبل، وكانت أعظم صنم لقريش بمكة وجاءوا بمائة درهم وأعطوها صاحب القداح حتى يجيلها لهم، فان خرج أمرنى ربى فعلوا، وان خرج نهانى لم يفعلوا، وان أجالوها على النسب، فان خرج منكم كان وسطا فيهم، وان خرج من غيركم، كان خلفا فيهم، وان خرج مطلق كان على حاله، وان أجالوها على دية فان خرج قدح العقل بالقاف تحمله، وان خرج الغفل بالفاء أعيد حتى يخرج المكتوب فيه.
قيل: كانت الأزلام سبعة قداح صغار لا ريش لهن، تكون عند سادن لكعبة، ويشبه تلك الأمور ما تصنعه النساء فى بلادنا من أخذ نوى مثلا أو أسهم طعام أو كل ذلك، أو سهم مال، ويجعلون لكل نواة أو سهم شيئا من الخبز مثلا، مثل أن يقال: من خرج له هذه النواة أو هذا السهم فله الجنة، ومن خرج له هذا أغناه الله، أو كان محقا أو لا يفعل أو يفعل وما أشبهه.
فالواجب عندى اجتناب ذلك، ثم رأيت والحمد لله الثعالبى نص على ذلك فى قوله تعالى بعد:
{ يا أيها الذين آمنوا انما الخمر والميسر } الآية قال عن غيره، وفى معنى الأزلام الزجر بالطير، وأخذ الفأل فى الكتب ونحوه مما يصنعه الناس.
قال أبو الدرداء: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من تكهن أو استقسم بالأزلام أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر الى الدرجات العلا يوم القيامة " يعنى يئس ولا ينتظرها، وجازت السهام بالقسمة بدون ذكر ما يشبه ذلك.
{ ذَلِكُم }: أى ما ذكر من الاستقسام، وأكل تلك المحرمات المعلوم من المقام.
{ فِسقٌ }: خروج عن طاعة الله ودينه، وعن الحلال الى الحرام، وهذا هو الصحيح لعمومه، وقيل: الاشارة الى الاستقسام وحده، ولو كان آكل تلك المحرمات أيضا فسقا لغير هذه الآية من القرآن والسنة، ومن أكل ذلك أو استقسم بلا تحليل ففسق نفاق، ومن فعل ذلك بتحليل ففسقه شرك، وأما نفس قولهم: أمرنى ربى ونهانى ربى فكذب على الله فهو فاسق نفاقا.
وأيضا أكل مال الناس بالباطل فسق نفاق ومن زعم أنه يعلم الغيب أشرك، ومن لم يرد بقوله أمرنى ربى أو نهانى الا ما يشبه الغال ولم يرد حقيقة أن الله أمره أو نهاه ففسقه نفاق، اذ فعل المنهى عنه ولم يستحله، وان أراد بقوله: ربى صنم أشرك، وكانوا يجيلونها عند أصنامهم، وليست الاستخارة الشرعية فى شىء من ذلك، بل طلب التوفيق من الله الى الأصلح، أو طلب رؤيا تكون له علامة، والرؤيا الصحيحة حق.
وأما التطلع بعلم الفلك الى أمر غائب فمن كان له ذلك ولا يقطع به بلا بطن بأمارة فلا بأس به، ومن قطع أشرك، ومعنى قول بعض أصحابنا: وأن أول ما يذبح غدا بقرة، وأنه فى بطنها جنين صفته كذا أنه قد ظهر الى أمارة ذلك، والله أعلم.
{ اليَومَ }: أى الزمان الحاضر، وما يقصد به من الأزمنة الآتية والماضية لا نفس اليوم الذى نزلت فيه الآية، وقيل هو المراد فقيل: نزلت يوم فتح مكة، وقيل: يوم عرفة فى حجة الوداع بعد العصر وهو يوم الجمعة، وهو متعلق بيئس بعده وقدم تعظيما له.
{ يَئِسَ الذِينَ كَفَرُوا مِن دِينَكُم } أى من ابطال دينكم بقهرهم لكم حتى ترجعوا الى دينهم، أو قتلهم اياكم، أو قلة من يتبعه وكثرة من يخالفه، وهم مشركو العرب، وقيل: جميع المشركين.
{ فَلا تَخشَوهُم }: لا تداروهم جلبا ولهم خوفا من بطشهم، فانه لم يتق لهم شدة يظهرون بها عليكم، فالخشية كناية عن لازمها، أو يقدر مضاف، أى لا تخشوا ظهورهم فانه غير واقع.
{ وَاخشَونِ }: خافونى خوف تعظيم بتحليل الحلال، وتحريم الحرام، والاتباع بالأمر والنهى.
{ اليَومَ أكمَلتُ لَكُمْ دِينَكُمْ }: هذا اليوم المذكور قبله بمعنى الزمان، أو عين حقيق اليوم متعلق بأكملت، وقد للتعظيم، ومعنى اكمال الدين النصر على المشركين والمنافقين، وابطال الأديان كلها باظهار ملة الاسلام عليها، أو معناه اتمام الأحكام الشرعية وما معها مما يقررها، كالمواعظ والقصص، أو معناه ذلك كله، أو معناه اتمام الأحكام، كما قيل: انه لم ينزل بعدها حلال ولا حرام، ولا شىء من الفرائض والحدود، كما لابن عباس، أو معناه أنه لم يحج مشرك معكم، وأخليت الموسم لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، كما لسعيد بن جبير وقتادة.
أو معناه أنهم آمنوا بكل نبى وكل كتاب، ولم يكن هذا لغير هذه الأمة، أو اليوم أكملت لكم دينكم زمان النبى صلى الله عليه وسلم كله كما للحسن، ولا يخفى أن دين المسلمين كامل فى كل وقت فبأول حكم نزل كان الدين كاملا، ولا يتصف بالنقص، ولو كان سينزل بعده أحكام كثيرة، اذ لا واجب ولا حرام الا ما كان فيه، فكماله بما فيه، واذا نزل فى غيره حكم آخر زائد أو ناسخ فكمال الدين فى هذا الوقت الآخر بما نزل فيه الى أن لا يبقى ما ينزل فيحتم على تمامه الى القيامة.
وأما أحكام المجتهدين فمن القرآن والسنة، وقوله تعالى: { اليَومَ أكمَلتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } شامل للسنة، قيل: نزلت هذه الآية يوم الجمعة بعد العصر يوم عرفة، والنبى صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء، فكان عضد الناقة يندق، وبركت لثقل الوحى وذلك فى حجة الوداع سنة عشر من الهجرة.
وقرأ ابن عباس رضى الله عنهما: { اليَومَ أكمَلتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } الآية وعنده يهودى فقال: لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يوم نزولها عيدا، فقال ابن عباس: فانها نزلت فى يوم عيدين، فى يوم جمعة و يوم عرفات، قال ابن عباس: كان فى ذلك اليوم خمسة أعياد: يوم جمعة، ويوم عرفة، وعيد لليهود، وعيد للنصارى، وعيد للمجوس، ولم تجتمع أعياد أهل الملل فى يوم واحد قبله، ولن تجتمع بعده.
وجاء يهودى الى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين آية فى كتابكم تقرءونها لو نزلت علينا معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: فأى آية؟ قال: { اليَومَ أكمَلتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتى وَرَضِيتُ لَكُم الإسلامَ دِينًا } قال عمر: انى لأعلم اليوم الذى نزلت فيه، والمكان الذى نزلت فيه، ونزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات يوم الجمعة.
وروى
"أنها لما نزلت بكى، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا عمر؟ فقال: أبكانى أنا كنا فى زيادة من ديننا، فأما اذ كمل فانه لم يكمل شىء الا نقص، قال: صدقت" . فكانت هذه الآية نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عاش بعدها احدى وثمانين يوما، ومات صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لليلتين مضتا من ربيع الأول، وقيل لاثنى عشر ليلة، وهو الأصح سنة احدى عشرة من الهجرة.
ونزلت:
{ واتقوا يوما ترجعون فيه الى الله } الآية فى تلك الحجة بمنى بعد يوم النحر، ونزل فى تلك الحجة: { { يستفتونك } الآية آخر النساء، قال السيوطى، عن البراء بن عازب: آخر آية نزلت: { يستفتونك } الآية آخر النساء، وعن عمر وابن عباس: آية الربا: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا } وعن ابن عباس: { واتقوا يوما ترجعون } الآية، قيل: وآية الدين، وعن سعيد بن المسيب: آية الدين، وعن أبى بن كعب: { لقد جاءكم رسول } الخ السورة، وعن معاوية: { { فمن كان يرجو لقاء ربه } الخ السورة، وعن ابن عباس: { ومن يقتل مؤمنا متعمدا } الآية، وعن أم سلمة: { { فاستجاب لهم ربهم } الآية وأنها آخر سورة نزلت، وعن ابن عباس: { اذا جاء نصر الله } الخ السورة.
وعن البراء: براءة، وعن عائشة: المائدة، وعن ابن عمر وسورة:
{ اذا جاء نصر الله } } ويجمع بأن المراد فى تلك الروايات أن آية كذا من آخر ما نزل من الآيات، وأن سورة كذا من آخر ما نزل من السور، لأن ما كان من الآخر يسمى آخرا.
ويدل لذلك أنه صرح فى بعض الروايات، عن عمر: أن من آخر القرآن نزولا آية الربا، وعن عثمان براءة من آخر القرآن نزولا، وعن امام الحرمين:
{ قل لا أجد فيما أوحى الى } الآية من آخر ما نزل، ويشكل عليه أن الأنعام مكية، ولم يرد أن هذه الآية تأخرت، ولكن يبقى تعيين ما حقت له بعينية الآخرية، وأيضا لا يشكل آية الربا وآية الدين لاتصالهما، فأخبر كل عن بعض ما نزل بأنه آخر، وأن آخر ما نزل فى الميراث: { يستفتونك } آخر النساء وأن آية الربا آخر ما نزل فى الربا، وبعدها آية الدين، وأن كلا منهم أخبر بما سمعه من النبى صلى الله عليه وسلم آخرا قبل يوم موته بقليل، وقد سمع منه غيره بعده حتى تحقق الآخرية لأحدهم، ولا تدرى على التحقيق، ولعله: { واتقوا يوما ترجعون } الآية لدلالته على الوفاة، أو نزلت آيات أواخر فيتقدم كتابة بعض على بعض، فيظن بذلك ما يظن أنه آخر، وأنه يمكن أن يريدوا أن آية كذا لم ينزل بعدها ما ينسخها كما قال ابن عباس فى آية القتل، وان { فاستجاب لهم ربهم } آخر ما نزل بعد ما كان ينزل فى الرجال خاصة.
قالت أم سلمة: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أرى الله يذكر الرجال ولا يذكر النساء، فنزل:
{ ولا تتمنوا ما } الآية، ثم { { ان المسلمين والمسلمات } ثم { فاستجاب } وعن أنس أن فى آخرها ما نزل: { فان تابوا وأقاموا } الآية أى فى آخر سورة نزلت، واستشكل قول من قال: لم ينزل حلالا ولا حراما بعد { اليَومَ أكمَلتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } بما ورد أنه نزل بعدها آية الربا، وآية الدين { ويستفتونك } آخر النساء.
{ وَأتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتى }: بالتوفيق الى الايمان والاسلام والسابق على ذلك الايجاد، والاحياء الرزق وسائر أنعام الله دينوى، وذلك موجود، ولو فى حال الشرك، اتمام النعمة بالتوفيق يشمل أول البعثة ووسطها وما بعده أو أتممت عليكم نعمتى باكمال الدين، أى باكمال نزوله كله، فالسابق على ذلك هو الأبعاض النازلة قبل أن يفرغ منه، وان قيل اكمال الدين تنزيل كل بعض فى وقته كان السبق كالوجه الأول، أو أتممت عليكم نعمتى بفتح مكة، والسابق دين الله وابطال الأصنام، وشأن الشرك، أو أتممت عليكم نعتمى بالحكم بأن لكم الجنة، فالسابق الدين ونعم الدنيا وبه قال ابن عباس.
{ وَرَضِيتُ لَكُم الإسلامَ دِينًا }: اخترته لكم حال كونه دينا عظيما من بين سائر الأديان، أو نصب على نزع الجار، أى لطاعتى أى لتطيعونى به، أو مفعول لأجله على القول بجوازه ولو لم يتحد الفاعل، ولا دين عند الله سواه على أن يراد به الايمان الكامل والعمل بمقتضاه، فمعناه أخرجتكم أيها الأمة من الشرك، وأجنبتكم شرك أهل الكتاب أيضا، أو رضيت لكم هذه الشريعة دينا، وفضلتكم بها.
وقد كانت غيرها شرائع من الله مقبولة كما قال:
{ هو سماكم المسلمين من قبل وفى هذا } ولا مانع من اطلاق الاسلام على هذه الشريعة، كما أطلق فى الوجه الأول على خلاف الشرك من دين الله، ومعنى رضاه لنا بالاسلام أنه ما زال ينزل منه جزء فجزء حتى تم، فلما تم قال: قد تم واخترته لكم تاما، وكذلك كلما نزل جزء قد رضى لنا ذلك الجزء أو اليوم الذى رضيه لنا فيه، وهو زمان بعثه صلى الله عليه سلم الى أن مات فما بعده تبع له.
قال جابر بن عبد الله:
" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يقول جبريل: قال الله عز وجل هذا دين ارتضيته لنفسى ولن يصلحه الا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه " وذكر بعضهم أنه يمثل لأهل كل دين دينهم يهددون به فيهلكون الى النار الا دين الاسلام، فيبشر أهله فيجىء فى صورة حسنة فيقول: يا رب أنت السلام، وأنت سميتنى الاسلام، فيقول: اياك اليوم أقبل، وبك اليوم أجازى.
{ فَمَن اضطُرَّ فى مَخمَصَةٍ غَيرَ مُتَجَانِفٍ لإثمٍ فَإنَ اللهَ غَفُورُ رَّحِيمٌ }: هذا متصل بقوله: { ذَلِكُمْ فِسْقٌ } وما بينهما معترض مقرر لتحريم ذلك الفسق، ومبين أن مجانبته من جملة الدين التام، والنعمة التامة، والاسلام المرضى الذى لا يقبل سواه، والمعنى: فمن ألجأه الله بقدره وقضائه الى أكل بعض ما حرم مما مر ذكره فى مجاعة، وخاف الموت، أو ذهب عضو من أعضائه فأكله حال كونه غير مائل الى اثم، بأن لم يسافر فى معصية، ولم يفعل فيه، أو فى حضر ما يضطره لذلك، لأن الحضر والسفر فى ذلك سواء، ولم يأكل أكثر مما يحيى رمقه على حد ما مر فى قوله تعالى:
{ غير باغ ولا عاد } فان الله لا يؤاخذه بأكله، لأنه غفور رحيم، فاضطر ماض مبنى للمفعول وفاعله الله.
ومعنى اضطره الله أنه وقع فى الضرر بقدر الله، ولو كان سفره مثلا الى أن وقع فى ذلك باختياره، بل لو أجبره الله حتى وقع فى ذلك لم يجب عليه أن يبيح له المحرم، بل له أن يحرمه فيموت، ولكن لا اجبار من الله أو الفاعل الانسان، أى فمن اضطر نفسه بأن أوقعها بسبب سفر أو غيره فى الاحتياج الى القوت من المحرم، ومتعلق اضطر محذوف أى اضطر الى أكل بعض تلك المحرمات، والمخمصة المجاعة، وغير حال من المستكن فى اضطر، ومتجانف مائل، واللام فى الاثم بمعنى الى، أو للتعدية أو للتعليل، أى غير مائل عن الحق وهو مثلا أكل ما يحيى رمقه لأجل ارادة غيره وهو الزيادة، وان الله غفور رحيم تعليل قائم مقام الجواب، وسميت المخمصة مخمصة لخموص البطن أى خلوه عند الجوع.