التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوۤاْ أَوْ يُصَلَّبُوۤاْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأَرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
٣٣
-المائدة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ }: على حذف مضاف، أى يحاربون أولياء الله ورسوله، لأن الله لا يحاربه أحد لا يقاتله و لا يسلب عنه شيئاً تعالى عن ذلك، وأما رسوله فذلك ممكن معه، ولكن عطف على لفظ الجلالة فقدر لهما مضاف واحد، فبعد تقديره تكسر لام رسوله، ويجوز أن لا يقدر مضاف فى حق رسوله، فبعد تقديره قبل لفظ الجلاله تبقى لام رسوله مفتوحة للعطف على لفظ المضاف، وهو أولياء وقيل التقدير يعطف على لفظ الجلالة، وأصل المحاربة أخذ مال أحد، تقول: حرب الرجل ماله أى سلبه فهو محروب وحريب، ثم استعمل فى القتل والضرب وأنواع المضار، وأخذ المال.
ويجوز أن يراد بالمحاربة ما خلفة الله ورسوله فى أمرهما ونهيهما، وذلك تشبيه للمخالفة بنحو القتال، فلا يقدر مضاف، والمفاعلة فى ذلك كله على بابها، وفى الآية تعظيم المؤمنين، اذ جعل محاربتهم محاربة لله عز وجل، وذلك اذا قدرنا يحاربون أولياء الله ظاهر، وأما اذا فسرنا المحاربة بمخالفة الله ورسوله ففيه التعظيم لهم، أيضا لتمسكهم بما لا يخالف الله، ولأن مخالفة رسوله مخالفة لولى الله وغيره تبع له.
والمراد بأولياء الله المقدر من هو فى الظاهر ولى لله ولو لم يكن عند الله كذلك، أو كل من هو جار فى سيرته على دين الله فى القتال والأحكام الظاهرة.
واعلم أن تفسير المحاربة بمخالفة دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أولى، لأنه أعم فائدة، لأن الجزاء المذكور للذين يحاربون لا يختص بمن حارب المسلمين والموحدين، بل يعم من قطع الطريق على من لا يجوز قطعها عنه ولو مشركاً، وكذا من أخذ مال من لا يجوز أخذ ماله ولو مشركا، أو أخاف من لا يجوز اخافته، فذلك وهم المشركون أهل الذمة، وأما من فعل ذلك بغير أهل الذمة من المشركين الذين لم يخاطبهم الامام فلا يفعل به ذلك، ولكن ينهى ويرد ما أخذ من مال أو ولد أو نفس، الا ان نهاه الامام ولم ينته فانه يجازى بذلك.
{ وَيَسعَونَ فِى الأَرْضِ فَسَادًا }: أى يجتهدون فى الأرض فساداً، شبه الاجتهاد فى أمر باسراع المشى فى الأرض، والمراد بالمحاربة والسعى مطلق المعاصى التى يترتب عليها ما يذكر بعد من التقتيل والتصليب، وتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف، والنفى فى الأرض، فان كل معصية منها تسمى محاربة لله ورسوله، وسعياً فى الأرض بالفساد.
وقيل: المراد بالمحاربة قطع الطريق، وقيل المكابرة باللصوصية والسعى فى الأرض هو باقى المعاصى الموجبة لما يترتب عليها مما ذكر، وقطع الطريق انما يكون من قوم يجتمعون ولهم منعة ممن أراد الانصاف منهم فيتعرضون للمال والنفس.
واللصوصية المسارقة وجهر المكابرة بأخذ مال أو نفس.
واعلم أن أحكام الآية من التقتيل والتقطيع والتصليب والنفى، سواء فيها الموحد والمشرك، وسواء كان ما يوجبها من الجنايات فى فلاة أو عمران أو قرية أو مدينة، وخالف أبو حنيفة فلم يجز تلك الأحكام فى حامل السلاح المكابر فى الأمصار، بل ان قتل قتله الولى قصاصاً، وان عفى لم يقتل: ويرد ما أخذ من المال ان أخذه، وان أخاف أدب أو نكل، وقيل: لا يصلب الموحد، وبه يقول أصحابنا، وقيل: يقطع رأسه ويصلب ثلاثاً ثم يدفن، والمشرك يصلب كله.
وفساداً اسم مصدر، وهذا المصدر هو الافساد، سواء جعلنا فساداً مفعولا لأجله، أى يسعون للافساد، لأن الفساد ليس فعلهم، وانما هو أثر فعلهم الذى هو الافساد، أو حالا على تقدير مضاف، أى ذوى افساد، أو على التأويل بالوصف أى مفسدين، وأما على المبالغة كأنهم نفس الفساد والافساد، فيجوز ابقاؤه على أنه مصدر، ويجوز كونه اسم مصدر وهو حال، أو جعلناه مفعولا مطلقا لتضمن يسعون معنى يفسدون، أى يفسدون افساداً.
{ أَن يُقَتَّلُوا }: التشديد للمبالغة بكثرة من يتعلق به القتل، وكذا فى يصلب، ويقطعوا لكثرة من يصلب أو يقطع لا فى نفس القتل والصلب والقطع، لأنهن يتفاوتن، اللهم الا أن يقال على معنى يقتل كل واحد قتلا عظيماً لا يحتمل معه الحياة، وكذا الصلب يتمكن فيه، وفى القتل معه، وكذا القطع يتمكن فيه لا ينقص من المقطوع، أو يترك بعضه متصلا، وعلى معنى فعل ذلك سرعة لحديث:
" واذا قتلتم فأحسنوا القتلة " ويحمل عليه غير القتل الا من قتل وفعل به ما فعل هو من الزيادة كالمثلة والسمل مثلا، ومعنى قوله عز وجل: { أَن يُقَتَّلُوا } أنهم يقتلون حداً لا قصاصاً، فهو يقتل ولو عفى الولى ولا يصلب ولا يقطع، لأنهم أفردوا القتل ولم يضموا اليه أخذ مال.
{ أَو يُصَلَّبُوا }: ان قتلوا وأخذوا المال، والمراد أن يصلبوا ويقتلوا، ولا صلب فى الشرع بلا قتل، وانما يصلبونه ردعاً لغيرهم، ويجعلون حيث يمر الناس، ثم انه قيل: يصلب حياً ويطعن حتى يموت، وبه قال أبو حنفة ومحمد، وقيل: يصلب ثلاثة أيام حياً، ثم ينزل فيقتل، وقيل يصلب حياً ويترك الى أن يموت بالصلب، لا يطعم ولا يسقى، لأن الله جل جلاله قال: { أَو يُصَلَّبُوا } ولم يذكر القتل، ولم يذكر مدة لصلبه، فلا غاية الا الموت، واذا مات وجب دفن الميت.
والصلب: أن توقف خشبة نخلة أو شجرة، ويعلق بها مربوطاً معترضاً رجلاه لجهة، ورأسه لجهة، ويجوز فعل ذلك بنخلة أو شجرة أو سارية، بحيث يرى، ويصلى على من قتل أو صلب أو قطع ان مات لحديث:
" صلوا على كل بار وفاجر " وقيل فى مستحق الصلب: انه يقتل ويصلى عليه، ثم يصلب، ونسب للشافعى فيبقى مصلوباً يوماً وليلة، ثم ينزل وقيل عنه يبقى ثلاث ليال، وقيل قليلا، وصحح عنه ثلاث، وأو للتنويع وكذا فى قوله: { أَو تُقَطَّعَ أَيدِيهِم وَأَرجُلُهُم } وفى قوله: { أَو يُنفَوا مِنَ الأَرضِ } على أن بعض الجناة يستحق القتل، وبعض الصلب، وبعض القطع، وبعض النفى كما رأيت وترى.
{ أَو تُقَطَّعَ أَيدِيهِم وَأَرجُلُهُم مِّن خِلافٍ }: تقطع أيديهم اليمنى من الرصغ، وأرجلهم اليسرى من المفصل، ان أخذوا المال ولم يقتلوا، ومن للابتداء متعلق بيقطع، أى يوقع التقطيع من جهة مخالفة أو للمصاحبة فتعلق به، أو لمحذوف حال من أيديهم وأرجلهم.
{ أَو يُنفَوا مِنَ الأَرضِ }: أن اقتصروا على اخافة الناس، ومعنى نفيهم عندنا سعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز أن يطالبهم الامام ليقيم، عليهم الأدب أو النكال، والتعزير بحسب ما يظهر له فيهربون، وكلما وصلوا بلداً جرى فيها حكمه طالبهم منه، فلا يؤمنوا فى بلد، فان تمكن منهم أخرج منهم الحق.
وقال ابن عباس، والليث بن سعد، والشافعى: ينفيهم بالاقصاء الى البلاد البعيدة حتى تصح توبتهم، والأرض هى الأرض التى فعلوا فيها ذلك، وقيل: وكانوا ينفون الى دهلك بلد بأقصى تهامة وناصع من بلاد الحبشة.
وقال أبو حنيفة: النفى من الأرض الحبس لأن المحبوس منع من الأرض كلها الا موضع حبسه، فهو نفيه كالميت فى قبره، وتبعه الكوفيون فى ذلك، وحكى عن عمر بن الخطاب أنه أول من حبس وقال: أحبسه حتى أعلم منه التوبة ولا أنفيه الى بلد آخر فيؤذيهم.
وعن مالك: ان خيف جانبه حبسه الامام فى البلد القريب، والا أبعده من الارض، وتفسير الآية بما ذكرته من التفصيل المذكور هو تفسير الجمهور، وهو مذهب أصحابنا، وقال عمروس: أو للتفصيل كذلك الا أنه جعل التفصيل فى قوله: { أَو يُنفَوا مِنَ الأَرضِ } على غير طريق التفصيل المذكور، لأنه رد الضمير فى ينفوا المحاربين والساعين فى الأرض فساداً الا باعتبار أنهم أخافوا الناس ولم يذكر هو الاخافة، بل باعتبار أنهم فعلوا ما مر من موجب التقتيل أو التقطيع أو الصلب وهربوا، قال: وانما النفى الذى ذكره الله فهو أن يطلبهم الامام والمسلمون باقامة ما حكم الله بينهم وعليهم من القتل والقطع والصلب فيهربوا، فلا يؤمنون فى شىء من بلاد المسلمين.
قال: ولا يحل ما يقول من زعم أن النفى هو الحبس، وقال: من أصاب الأموال والأنفس لم يكن مشركا قتل ولم يصلب، ومن أصاب الأموال فقط قطع رجله اليسرى ويده اليمنى موحداً أو مشركاً، وان أصاب مشركاً مالا ونفساً قتل وصلب، ولا يصلب أحد من أهل الاقرار، وتوجيه تفسر الجمهور المتقدم ظاهر، لأن القتل بلا قطع طريق عمداً يثبت القتل قصاصاً، فغلظ فى قاطع الطريق، بأن كان قتله حداً لا يسقط بعفو الولى، وأخذ المال سرقة يوجب القطع بلا قطع طريق، فغلظ فى قاطع الطريق بأن تقطع مع يده رجله من خلاف، وان جمعوا بين القتل والمال جمع الصلب فى ممر الناس تشنيعاً، والقتل وان اقتصروا على الاخافة خفف الشر عنهم بأن ينفوا فقط، لنزول الاخافة.
وقال قوم: أو لتخيير، والامام مخير فى قاطع الطريق بالقطع أو أخذ المال أو بهما بين القتل والصلب والقطع والنفى، ونسب لابن عباس، والحسن، وسعيد بن المسيب، والنخعى، ومجاهد، والصحيح عن ابن عباس ما مر عن الجمهور، قال عمروس: وليست الآية على معنى ما يقول من يقول: ان الامام فيهم مخير ان شاء قتلهم، وان شاء صلبهم، وان شاء قطعهم، وان شاء نفاهم.
وقال سعيد بن جبير، وقتادة، عن أنس بعضهما يزيد على بعض:نزلت هذه الآية فى
" قوم من عرنة، وعكل، قدموا على النبى صلى الله عليه وسلم وتكلموا فى الاسلام فقالوا: يا نبى الله انا كنا أهل ضرع، ولم نكن أهل ريف، واستوخموا المدينة، فأمر لهم النبى صلى الله عليه وسلم بذود وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيه فشربوا من ألبانها وأبوالها، وانطلقوا حتى اذا كانوا ناحية الحرة كفروا بعد الاسلام، وقتلوا راعى النبى صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الذود، فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم، فبعث الطلب فى أثرهم، فما ارتفع النهار الا جىء بهم، فأمر بهم فسملوا عيونهم، وقطعوا أيديهم وأرجلهم، وتركوا فى ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم، يعضون الحجارة يستسقون ولا يسقون" .
قال أبو قلابة: أى شىء أشد مما صنع هؤلاء، ارتدوا عن الاسلام، وقتلوا وسرقوا وحاربوا الله ورسوله، وأنزل فيهم: { إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ } الآية تقرير لفعله صلى الله عليه وسلم فيهم، وتصويباً له، ولكن زاد له شيئاً لم يفعله وأمره بفعله فى مثلهم وهو التصليب اذا قتلوا وأخذوا الابل، ولذلك قيل: أنزلت معاتبة له صلى الله عليه وسلم وتعليماً له، أى ليس جزاؤهم ما فعلت بهم فقط، انما جزاؤهم أن تضم الى ما فعلت التصليب، وانما سمل أعينهم لأنهم سملوا أعين الراعى، فالتخريج على هذا أولى مما قيل: ان الآية نزلت ناسخة لمثلته بهم بقطع الأرجل وسمل الأعين.
وعن قتادة، عن ابن سيرين: نزلت الآية قبل أن تنزل الحدود، ولما نزلت وجب العمل بها، وسمل العين أن تكحل بمسمار محمى بالنار حتى يذهب بصرها، والريف أرض الزرع والخصب، وأهل الضرع أهل الماشية، أرادوا أنهم لعنهم الله ألفوا البادية واللبن، واستوخموا المدينة عدوها وخمة لم توافق مزاجهم، والحرة أرض ذات حجارة سود.
وقال الكلبى: نزلت فى قوم هلال بن عويمر، وهو أبو بردة من بنى أسام، عاهد هلال رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يعينه ولا يعين عليه، فمر قوم من كنانة الى النبى صلى الله عليه وسلم يريدون الاسلام بقوم هلال، وهلال غائب، فقتلهم قومه وأخذوا أموالهم، وقد عهدوا أنه من يمر بهم الى النبى صلى الله عليه وسلم فهو آمن لا يهاب، فنزلت الآية قاضية فيهم على التخيير، وعن ابن عباس: نزلت فى قوم من أهل الكتاب، كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق، فنقضوا العهد وأفسدوا فى الأرض، فنزلت فيهم كذلك.
{ ذّلِكَ لَهُم خِزىٌ فِى الدُّنيَا وَلَهُم فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم }: الاشارة الى الجزاء والذل، والفضيحة والعذاب العظيم فى النار والزمهرير.