التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ
٤٤
-المائدة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّورَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ }: هدى من الضلال الى الحق، وارشاد لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ونور بيان لما أشكل من الأحكام، وقيل: الهدى بيان التوجيه والنبوة والمعاد، والنور بيان الأحكام وجملة { فِيهَا هُدىً وَنُورٌ } حال من التوراة أو فيها حال وهدى فاعل لفيها.
{ يَحكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسلَمُوا }: وهم آلاف الأنبياء جاءوا بعد موسى ومع موسى، قيل: أربعة آلاف، وقيل: أكثر، وقيل: ألف لم ينزل عليهم كتاب، بل ألزمهم الله الحكم بالتوراة الا عيسى فبالانجيل، وأما داود ولو أنزل عليه الزبور لكنه لا حكم فيه، وانما يحكم بالتوراة وقيل: أيضا: ان عيسى يحكم بالتوراة، وان الأحكام فى الانجيل قليلة، ويرده:
{ وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه } وقوله تعالى: { لكل جعلنا منكم شرعا ومنهاجاً } }. والذين أسلموا نعت مدح اذ لا نبى غير مسلم أى منقاد لحكم الله ولا نبى الا هو منقاد لله تعالى، وفى ذكر الاسلام تعريض باليهود أنهم غير مسلمين، وأنهم بمعزل عن شأن الأنبياء، ومدح المؤمنين اذ هم على شأن الأنبياء، وما شهر من أن الصفة العامة قبل الخاصة نحو: زيد متكلم فصيح، انما هو فى الأخبار والأحوال ونعوت التخصيص، والتوضيح فى العطف، ونعت غير التخصيص، والتوضيح.
وعن الزهرى، والحسن، وقتادة، وعكرمة، والسدى: أنه يحتمل أن يكون النبيون الذين أسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعه تعظيماً له، وانما دعاهم لهذا الاحتمال قوله تعالى:
{ لِلَّذِينَ هَادُوا }: لأنه صلى الله عليه وسلم حكم لليهود بالرجم الذى فى التوراة، وللذين متعلق بيحكم، وذلك خلاف الظاهر، والظاهر أن المراد النبيون الكثيرون، والحكم للذين هادوا دليل على أنهم أنبياء بنى اسرائيل، وقيل: المراد الأنبياء الذين مع موسى وبعده الذين من بنى اسرائيل أو من غيرهم.
{ وَالرَّبَانيُّونَ }: سبق الكلام عليه، وقيل للذين هادوا نعت هدى ونور.
{ والأَحْبَارُ }: جمع حبر بكسر الحاء وفتحها، وهو أولى ليخالف لفظ الحبر وهو المداد اذ هو بالكسر، لكن الجمع على أحبار أنسب بالكسر، وهم العلماء سمى العالم حبراً للحبر الذى يكتب به، أو من الحبرة بمعنى الزينة، لأن فيه زينة العلم وأثره، وحبرت الشىء زينته قيل الربانيون والأحبار بمعنى واحد فى الصدق، ولو اختلف فى المفهوم، كأنه قيل المنتسبون الى الله بعلمهم، فهم علماء منسوبون الى الله بالعلم، وقيل الربانيون أعظم لتقدمهم فى الذكر وهم العبادون المشتغلون بالعبادة كالصلاة والتسبيح، والأحبار الجامعون للعلم، الحاكمون به الناشرون له، وقيل: الربانيون الولاة والحكام، والأحبار العلماء.
وقيل: الربانيون علماء النصارى والأحبار علماء اليهود، فان النصارى يحكمون بالتوراة قبل نزول الانجيل، ويحكمون بها أيضاً بعد فيما لم ينسخه الانجيل، وعطف الربانيون والأحبار على النبيون، وقيل: المراد بالربانيين والأحبار علماء اليهود الذين جاءوا باليهود واليهودية الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبحث فيه بأن الجائين بهما ليسوا ممن يمدحه الله لكفرهم، ولأنهم قصدوا ترك الرجم، ولم يعملوا به، نعم يحتمل أن يراد عبد الله بن سلام ونحوه ممن أسلم منهم.
{ بِمَا استُحفِظُوا مِن كِتَابِ اللهِ }: الباء متعلق بيحكم، ولا مانع من ذلك، لأن معناه السببية، والباء الأول للتعدية، وانما يمنع تعليق حرفين بشىء واحد اذا اتحد معناهما، وكانا بلا عطف أو بدل أو توكيد نحو: مررت بزيد زيد، والمستحفظ لهم هو الله، وعائد الموصول محذوف، من كتاب بيان لما أو للعائد المحذوف حال من أحدهما، أى بما استحفظوه بالهاء والبناء للمفعول، أى بما استحفظهم الله وهو كتابه التوراة، أى بسيط أمرهم الله به أن يحفظوه من تضييع أحكامه وتغييرها، وتركه بلا كتابة.
وأما حفظه فى قلوبهم وألسنتهم وقراءته على ظهر الغيب، فلا يطبقونه الا عزير الا ما قل منها، والواو للأنبياء والربانيين والأحبار، وقيل: للربانيين والأحبار، وأن الواو للأنبياء، ويجوز كون ما مصدرية أى باستحفاظهم أى بتمكينهم من كتاب الله أن يحفظوه.
{ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ }: شهداء عليه، أى رقباء أى كان الأنبياء والربانيون والأحبار رقباء على كتاب الله لا يتركونه بغيره مغير، ومع ذلك وقع فيه التغيير، أمرهم الله فحافظوا مجهودهم فغلبهم قدر الله، أو المعنى أنهم رقباء على ذلك، وكلما وقع التغيير بينوه، فالشهداء على الأول من الشهود بمعنى الحضور، وعلى الثانى من الشهادة بمعنى البيان كما بين ابن صوريا أن فيه الرجم بعد ما كتم أو قبله على ما مر، وكما بين عبد الله بن سلام.
{ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخشَوْنِ }: قال الفخر: هذا خطاب لليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنع لهم من التحريف والتغيير، أى أظهر وأما فى التوراة من الرجم وصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تداهنوا الناس، واتقوا الله فى الكتم والتحريف والتغيير.
وقال غيره: الخطاب لحكام هذه الأمة أن يتقوا الله فى حكمهم، ولا يداهنوا ولا يخافوا ظلم من يظلمهم، فأما الحكم بالباطل فيموت الرجل ولا يفعله، وأما ترك الدخول فيه مخافة من ظلم الناس اياه بالقتل أو الضربة فلا بأس، وأما الطعن فيه بلا حق بما يهتك ستره فجائز أيضا.
{ وَلا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِى ثَمَنًا قَلِيلاً }: نعت كاشف لا مخصص، فان الثمن المبدل من آيات الله ولو كان آلاف ديناً قليلا، أى لا تبدوا آياتى رشوة تأخذونها وتتركون الحكم بآياتى، وقدم النهى على خشية الناس فى الحق، لأن ظلم الناس الحاكم أقوى فى حمله على التقصير فى الحكم بالحق من الطمع فى الثمن القليل، ومن الثمن القليل الجاه وسائر المنافع.
{ وَمَن لَّم يَحكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ }: منكراً له، أو مقراً به، تاركاً للعمل به عملا أو جهلا، حيث يكون جهله فيما يدرك بعلم القرآن أو السنة أو العلماء.
{ فَأُوْلئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ }: العاصون لله عصياناً كبيراً مناقضاً للشكر، سواء كفر شرك بالانكار، أو كفر نفاق، وليس ذلك من استعمال الكلمة فى معنييها أو فى حقيقتها ومجازها، وقال بعد أيضا
{ فأولئك هم الظالمون } وقال: { { فأولئك هم الفاسقون } : وقيل: هذه فى الموحدين لا فى المنكرين لحكم الله، ولاتصالها بخطابهم، والظالمون فى اليهود، والفاسقون فى النصارى، وبه قال الشعبى فأشفى من سمى الفاعل لما دون الشرك من الكبائر كافراً ولا يخصه بالمشرك، كما نسميه نحن بذلك.
وكذلك قال ابن مسعود: الآية عامة فى اليهود وغيرهم، وهذا منه كتفسير فى الآية أو لا، وأعنى أنه يأخذ منه تفسير ابن مسعود أنه يسمى الفاعل لما دون الشرك من الكبائر كافراً، كما فعل الشعبى، وكذلك قال حذيفة: أنتم أشبه الأمم سمياً ببنى اسرائيل، لتركبن طريقهم حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة، غير أنى لا أدرى أتعبدون العجل أم لا، يعنى أن الآية عامة، وأن الله سمى الحاكم بغير ما أنزل الله من الموحدين كافراً، سمى اليهود به كفاراً، وفى رواية أنه قيل لحذيفة: أنزلت هذه الآية فى بنى اسرائيل؟ فقال: نعم الأخوة لكم بنو اسرائيل، لو قلنا فى كل حلوة انها لنا، وفى كل مرة انها لهم لكنا قد سلكنا طريقهم قذا الشراك فى مثل القول، يعنى الآية فيهم وفى غيرهم من المشركين، وفى هذه الأمة.
وما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن الكافرين والظالمين والفاسقين أهل الكتاب، يريد به والله انها نزلت فيهم، ولم يرد أنها خاصة بهم، فان التحقيق فى العام الوارد على سبب خاص أنه يبقى على عمومه، وما يروى عنهرحمه الله : نعم القوم أنتم ما كان من حلو فلكم، وما كان من مر فهو لأهل من جحد حكم الله فهو كافر، ومن لم يحكم به وهو مقر فهو ظالم فاسق، لم يصح عنه، وان صح فلعله أراد التهكم على من يزعم أنه ما كان من حلو الى قوله فاسق، ولو صدق الزاعم فى قوله من جحد حكم الله فهو كافر، أى مشرك، ولو أخطأ هذا الزاعم فى تفسير الكافر فى الآية بالمشرك، وفى نفيه تسمية ما دون الشرك كفراً بمعنى عصياناً كبيراً وكذا مجاهد لا يخص الكافر بالمشرك، بل يقول: الكفر شرك ودون شرك، وكذا الحسن والنخعى.
ويدل لذلك ما روى عن ابن عباس حين سأله طاوس عن قوله تعالى:
{ ومن لم يحكم بما أنزل } فقال: به كفر، وليس بكفر يخرجه عن المللة، فهذا هو الحق وبه والحمد لله يصح تأويل كلامه السابق المروى عنه المتمسك به من يزعم عنه أنه لا يجيز ابن عباس تسميته غير الشرك شركاً من الكبائر، وزعم بعض قومنا أن من علم الحكم وتركه عمداً سمى كافراً كفراً دون الشرك الا ان جهل أو خطأ التأويل.