التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاۤئِمٍ ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
٥٤
-المائدة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ }: وقرىء عن نافع، وابن عامر يرتد بالادغام والضم وهو مجزوم منع من ظهور سكونه حركة التخلص من التقاء الساكنين، وكانت ضمة لأنها حركته قبل الجازم.
{ مِنكُمْ عَن دِينهِ }: وهو دين الاسلام، علم الله أن أقواماً يرتدون فأخبر بهم رسوله صلى لله عليه وسلم فوقع الأمر فى زمانه وبعده كذلك، وغلبهم المسلمون والحمد لله، وذلك معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل: كان أهل الردة احدى عشرة فرقة، ثلاث فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: بنو مذحج ورئيسهم ذو الحمار وهو الأسود العنسى، وبنو أسد قوم طلحة بن خويلد ورئيسهم طلحة، هذا ثم أسلم، وبنو حنيفة ورئيسهم مسيلمة.
كان الأسود العنسى كاهناً باليمن وتنبأ فيه واستولى على بلاده، وأخرج عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الى معاذ بن جبل، والى سادات اليمن، فأهلكه الله على يدى فيروز الديلمى بيته فقتله، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله ليلة قتل، فسر المسلمون، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد، وأتى خبره فى آخر شهر ربيع الأول.
قال فى الأنوار فى أيات النبى المختار، قال السهيلى: وأما الأسود ابن كعب العنسى، وعنس من مذحج، فاتبعته قبائل من مذحج واليمن على أمره، وغلب على صنعاء، كان يقال له ذو الحمار، ويلقب عيهلة، وكان يدعى فى كذبه لعنه الله أن سحيقاً وشريقاً يأتيه بالوحى فى زعمه، ويقول هما ملكان يتكلمان على لسانى فى خدع كثيرة يزخرفها، قتله فيروز الديلمى، وقيس بن مكسوح، ورجل من الأنباء دخلوا عليه من سرب صنعته له امرأة كان قد غلب عليها من الأنباء، فوجدوه سكراناً لا يعقل من الخمر، فخبطوه بأسيافهم وهم يقولون: ضل نبى مات وهو سكران:

والناس تلقى جهلم كالدبان النور والنار لديهم سيان

ذكره الدولابى، وزاد ابن اسحاق فى رواية يونس: أن امرأته سقته البنج فى شرابه تلك الليلة، وهى احتفرت السرب للدخول عليه، وكان اغتصبها لأنها كانت من أجمل النساء، وكانت مسلمة صالحة، وكانت تحدث أنه لا يغتسل من جنابته، واسمها المرارية قال صلى الله عليه وسلم: " "مسيلمة والأسود رأيت فى النوم سوارين من ذهب فى يدى فكبرا على وأهمانى ضيقاً فأوحى الى أن انفخهما فنفختهما فطارا فأولتهما كذابين يخرجان كذاب اليمامة مسيلمة وكذاب صنعاء الأسود العنسى" .
"وقدم وفد بنى حنيفة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم بضعة عشر رجلا نزلوا فى دار رمدة بنت الحارث، وكانت داراً واسعة فيها أبيار يتوضأ منها، ويشرب منها، فنزلوا فيها، فأخبر النبى صلى الله عليه وسلم أن وفد بنى حنيفة قدموا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بضيافة تجرى عليهم يؤتون بغداء وعشاء مرة خبزا ولحماً، ومرة خبزاً ولبنا، ومرة خبزاً وسمناً، ومرة تمراً ينتزلهم فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المسجد، فسلموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا، وخلفوا مسيلمة الكذاب فى رحالهم يحفظها، ولما أرادو الرجوع الى بلادهم أمر لهم النبى صلى الله عليه وسلم بجوائز فأمر لهم بخمس أواق لكل رجل منهم، فقالوا: يا رسول الله انا خلفنا صاحباً لنا فى رحالنا وركبنا يحفظها لنا، فأمر له النبى صلى الله عليه وسلم مثل ما أمر لواحد منهم، وقال صلى الله عليه وسلم: بشركم مكاناً أى ليس لحفظه رجالكم وركابكم، فقال مسيلمة: اسمعوا ما يقول محمد عرف أن الأمر لى من بعده، فقال القوم: ايته فسلم عليه، فقال: لا أفعل الا أن يجعل لى الأمر من بعده.
فبلغ رسول الله صلى الله عليه سلم ذلك، فجاء صلى الله عليه وسلم وهو معتمد على ثابت بن قيس وقال: ما مقالة بلغتنى عنك؟ وأخبره بالذى قال، فسكت مسيلمة ونكس رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأن أقبلت ليغفرن الله لك، وان أدبرت ليقطعن الله دابرك"
وقطع الله دابره على يد خالد بن الوليد والصحابة.
ولما انتهو الى اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ وقال: انى قد أشركت فى الأمر معه، وجعل يسجع لهم سجعات يضاهى القرآن.
منها: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشا، وأحل لهم الخمر لعنه الله، ووضع عنهم، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نبى.
ومنها: يا ضفدع نقى ما تنقين أعلاك فى الماء وأسفلك فى الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين.
ومنها قوله: والباذرات زرعاً، والحاصدات حصداً، والذاريات نضجاً، والطاحنات طحناً، والخابزات خبزاً، فالثاردات ثرداً، فاللاقمات لقماً.
ومنها قوله: تفكروا نعمة الله عليكم، واشكروها أن جعل لكم الشمس سراجاً، وجعل لكم فى الأرض انهاراً ودجاجا، وكباشا ونعاجا، وفضة وزجاجا، وذهبا وديباجا، وأخرج لكم من الأرض رماناً وعنباً، وريحانا ورطبا، وثمراً وأباً.
ومنها قوله: لقد من الله على الحبلى اذا أخرج منها نسمة تسعى، وما بين فرث وحشا، فمنهم من يموت ويدرس فى الثرى، ومنهم من يعيش ويبقى الى أجل ومنتهى، والله يعلم السر وأخفى، ولا تخفى عليه الآخرة والأولى.
ومنها قوله: والشمس وضحاها، فى ضوئها ومنجلاها، والليل اذا غدا يطلبها ليغشاها، فأدركها حتى أتاها، فأطفأ نورها ومحاها.
ومنها قوله: الفيل وما أدراك ما الفيل، له ذنب وثيل، وخرطوم طويل، وان ذلك من خلق ربنا لقليل.
وغير ذلك مما ظهر به ركة كلامه، وعجزه ويصير به ضحكة، وهو أول من أدخل البيضة فى الزجاجة، وذلك أنه غمسها فى الخل فتطاولت ورقت، فأدخلها ثم صب عليها ماء بارداً فعادت كما كانت، وأول من وصل الطائر المقصوص، وكانت آياته منكوسة، تفل فى بئر قوم سألوه ذلك تبركاً بزعمهم فملح ماؤها وليكثر فغار، ومسح رأس صبى فقرع قرعاً مستطيراً، ودعا لرجل فى ابنين له بالبركة قال: مالى سواهما أحدهما له عشر سنين والآخر ولد أمس، فقال: نعم فجعل للمولود أربعين سنة فرجع الى منزله فوجد أحدهم قد سقط فى البئر وهو الكبير، والآخر قد أكله الذئب وهو ينازع الموت، ومسح عينى رجل يستشفى بمسحه فعمى.
وذكر الزهرى: أن مسيلمة تسمى بالرحمن قبل مولد عبد الله أبى النبى صلى الله عليه وسلم، وقتل يوم اليمامة وهو ابن مائة وخمسين سنة، وأسلم ثمامة بن أثال من قومه وحسن اسلامه، ونفع الله به الاسلام، وقام بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً حميداً حين ارتدت اليمامة بمسيلمة الكذاب، وذلك أنه قام خطيباً وقال: يا بنى حنيفة أين عزبت قلوبكم
{ بسم الله الرحم الرحيم * حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذى الطول لا إله الا هو اليه المصير } يا بنى حنيفة أين هذا من يا ضفدع نقى ما تنقين، لا الشراب تكدرين ولا الماء تمنعين، فأطاعه منهم ثلاثة آلاف، وانحازوا الى المسلمين فعمت ذلك فى أعضاد حنيفة.
قال أبو عمر بن عبد البر: اسم مسيلمة هارون، قال عبد الله بن عمر الصنهاجى، واسم أبيه حبيب الحنفى، ويكنى أبا ثمامة، وسمع بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة يدعو الناس الى الله عز وجل، فبعث من يخبره بأحواله والوحى، فصار ينقل اليه ما نزل من القرآن ويقول: جبريل يأتينى بذلك، وهو ما مر من سجعة يحاكى به القرآن، وكان يتكهن،
"وأرسل مسيلمة رسولين الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهدان أن مسيلمة رسول الله؟ قالا: نعم. فقال النبى صلى الله عليه وسلم: لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما" .
وكتب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله الى محمد رسوله الله، سلام عليك أما بعد فانى قد أشركت فى الأمر معك، فلنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشاً يتعدون.
فكتب اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: من محمد رسول الله الى مسيلمة الكذاب سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، فأخفى كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزعم أنه وصل كتابه بالشركة فى الأمر، وزور فى ذلك كتاباً عن النبى صلى الله عليه وسلم، وأخرجه الى أصحابه، وكان أصفر اللون.
وصفاته عكس صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وادعت امرأة من قومه النبوة أيضاً واسمها سجاح، وهى من بنى تميم أجمع قومها أنها نبية، وحطت عن قومها صلاة العصر، واتخذت مؤذناً وحاجباً ومنبراً وفيها يقول عطارد بن حاجب بن زراره:

أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها وأصبحت أنبياء الله ذكرانا

ثم انها رحلت تريد حرب مسيلمة مع قومها، يقولون: ان لها النبوة، ولما قدمت عليه خلا بها قيل: ووطئها وقيل تزوجها، وقال: تعالى لنتدارس النبوة، فقالت: قد انصرفت، قيل اشتركا ولما قتل خالد بن الوليد مسيلمة أخذ سجاح فأسلمت قال ثمامة:

مسيلمة ارجع ولا تضحك فانك فى الأمر لم تشرك
ومناك قومك أن يمنعو ك وأن يأتهم خالد تترك
فمالك من مصعد فى السماء ولا لك فى الأرض من مسلك

ولما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدعت العرب، وارتد بنو حنيفة، وتبعت مسيلمة، وتفاقم أمره، فهم ذلك أبا بكر رضى الله عنه، فاستعجل أمره فوجه اليه خالد بن الوليد المخزومى فيمن شاء الله من المسلمين فاقتتلوا، وقتل من المسلمين ألف ومائتان فيهم من القراء سبعمائة، وقتل يومئذ زيد بن الخطاب، وهزم البراء بن مالك على أصحاب مسيلمة، فانكشفوا وتبعهم المسلمون حتى دخلوا حديقة، فأغلق أصحاب مسيلمة بابها على أنفسهم وعالج البراء نفسه حتى ألقى نفسه عليها فى الحديقة، وفتح الباب للمسلمين فدخلوا، وقتلوا مسيلمة وأصحابه، قيل: قتلوا من المشركين عشرة آلاف وسميت بذلك حديقة الموت.
قيل: قتل مسيلمة وحشى، وكان يقول: قتلت خير الناس فى الجاهلية يعنى جاهلية نفسه قبل أن يسلم قتل حمزة رضى الله عنه، وقتلت شر الناس فى الاسلام يعنى مسيلمة.
وأما بنو أسد قوم طلحة بن خويلد فانهم اتبعوا طلحة حين ارتد وتنبأ، فبعث اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فانهزموا بعد القتال الى الشام، ثم أسلم وحسن اسلامه فى خلافة عمر رضى الله عنه، ثم زل بقتال المسلمين بعد عمر.
وذلك أنه لما برز شرحبيل بن حسنة كتاب وحى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موت الرومى لعنه الله، وفى وقعة قيسارية من الشام، وكان فى العراك، نزل المطر كأفواه القرب، فنزلا عن فرسيهما، وجعل يتصارعان فى وسط الطين، واستوى قيدمون على صدر شرحبيل، وهم أن ينحره فناد شرحبيل يا غياث المستغيثين، فما استتم كلامه حتى خرج اليه فارس من الروم عليه لأمة مذهبة، ومن تحته جواد من عتاق الخيل، فقصد موضعها، فظن قيدمون أنه انما خرج ليعطيه جواده ويعينه، فلما قرب منهما ترجل ومال على البطريق فجره برجليه عن صدر شرحبيل، وقال: يا عبد الله قد أتاك الغوث من غياث المغيثين، فوثب شرحبيل قائماً ينظر اليه متعجباً من قوله وفعله، وكان الفارس متلثماً، ثم جرد سيفه وضرب قيدمون ضربة قطع رأسه، وقال: يا عبد الله خذ سلبه، فقال شرحبيل: والله ما رأيت أعجب من أمرك، وانى رأيتك جئت من عسكر الروم ‍!
فقال: له أنا الشقى المبعد أنا طلحة بن خويلد الذى ادعى النبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذب على الله وزعم أن الوحى كان ينزل عليه من السماء، فقال له شرحبيل: يا أخى ان رحمة الله قريب من المحسنين، وقد وسعت رحمته كل شىء، ومن تاب وأقلع وأناب قبل الله توبته، وغفر له ما كان منه، والنبى صلى الله عليه وسلم يقول:
" التوبة تمحو ما قبلها " أما علمت يا ابن خويلد أن الله سبحانه وتعالى لما أنزل على نبيه صل الله عليه وسلم: { { ورحمتى وسعت كل شىء } طمع فيها كل شىء حتى ابليس، فلما نزل: { فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة } قالت اليهود: نحن نؤتى الزكاة ونتصدق، لما نزل قوله تعالى: { { والذين هم بآياتنا يؤمنون } قالت اليهود: ونحن نؤمن بما أنزل الله فى الصحف والتوراة، فأراد الله أن يعلمهم أنها خاصة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: { الذين يتبعون الرسول النبى الأمى } }. فقال طلحة بن خويلد: ما لى وجه أرجع به الى الاسلام، وهم أن يسير على وجهه ومنعه شرحبيل وقال له: يا طلحة لست أدعك تمضى، بل ترجع معى الى العسكر، قال: ما يمنعنى من المسير معك الا الفظ الغليظ خالد بن الوليد، وانى أخاف أن يقتلنى، فقال: يا أخى انه ليس معنا، وهذا الجيش لعمرو بن العاص، فرجع معى فلما قربنا من المسلمين تبادروا الينا: يا شرحبيل ما هذا الرجل الذى معك، فلقد صنع معك جميلا، قال: أو لم تعرفوه، لأنه كان متلثما بفاضل عمامته، فقلت: هذا طلحة بن خويلد الذى ادعى النبوة، فقالوا: أو تاب ورجع الى الله؟ فقال: أنا تائب لله سبحانه وتعالى، قال شرحبيل: فأتيت به الى عمرو بن العاص فسلم، وبش فى وجهه، ورحب به.
قال: حدثنا حسان بن عمرو الربيعى، عن جده، أن طلحة بن خويلد لما ادعى النبوة، وجرى له ما جرى من الحرب مع خالد بن الوليد، وسمع أن خالداً قتل مسيلمة الكذاب، وقتل الأسود العنسى أيضاً، لأنه قال: انه نبى، فخاف طلحة على نفسه من خالد، فهرب بالليل ومعه زوجته الى الشام، واستجار برجل من كلب فأجاره الكلبى، وأنزله فى داره، وكان الكلبى مؤمناً، وبقى عنده مدة أيام الى أن استجره عن خالد فحدثه طلحة بجميع أحواله مع خالد بن الوليد ووقائعه معه، وكيف ادعى النبوة، فغضب الكلبى لكلامه وطرده من جواره، فأقام بالشام وقد تاب من أمره، فلما بلغه أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه قد قبض قال: ذهب من جردت السيف فى وجهه، فمن ولى بعده؟ قالوا: عمر بن الخطاب، قال: الفظ الغليظ وهاب أن يمضى اليه، وفزع من خالد بن الوليد أن يراه بالشام فيقتله، فقصد قيسارية ليركب الى جزيرة.
ولما رأى جيش فلسطين قد خرج الى قتال العرب قال: أسير مع هذا الجيش، فلعل أنكب نكبة أغسل بها شيئاً من أوزارى، وتكون لى قربة الى الله عز وجل والى المسلمين، ولما نظر شرحبيل فى عين الهلكة قال: لا صبر لى عنه، فخرج واستنقذه كما ذكرناه، ولما وقف بين يدى عمرو بن العاص شكره وبشره بقبول التوبة، فقال: يا عمرو انى أخاف من خالد بن الوليد أن يرانى بالشام فيقتلنى، فقال عمرو: فانى أشير اليك بشىء تصنعه وتأمن به على نفسك فى الدنيا والآخرة، قال: وما هو؟ قال أكتب معك كتاباً بما صنعت وشهادة المسلمين فيه، وتنطلق به الى عمر بن الخطاب وتدفعه اليه، وأظهر التوبة فانه يقبلها وسيندبك الى الفتوح وقتال الروم، فتمحو عنك ما سلف من خطاياك.
فأجابه طلحة الى ذلك، فكتب له عمرو كتاباً الى عمر بن الخطاب رضى الله عنه بما صنع، وأخذه طلحة ومشى به الى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يجد عمر فى المدينة، وقيل له: هو بمكة فمضى حتى وردها، فوجد عمر متعلقاً بأستار الكعبة، فتعلق معه وقال: يا أمير المؤمنين انى تائب الى الله عز وجل، ورب هذا البيت مما كان منى، قال عمر: من أنت؟ قال: أنا طلحة بن خويلد، فنفر عمر عنه وقال: يا ويلك ان أنا عفوت عنك فكيف الأمر غداً بين يدى الله عز وجل بدم عكاشة بن محصن الأسدى؟ فقال طلحة: يا أمير المؤمنين عكاشة رجل أسعده الله على يدى، وشقيت أنا بسببه، وأرجو أن يغفر الله لى بما عملته، فأخرج له كتاب عمرو بن العاص، فلما قرأه عمر وفهم ما فيه فرح به وقال: أبشر فان الله غفور رحيم، فأمره عمر أن يقيم بمكة حتى يرجع الى المدينة، فأقام معه أياماً فلما رجع عمر الى المدينة توجه به الى قتال أهل فارس، والله أعلم.
وسبع فرق ارتدوا على عهد أبى بكر رضى الله عنه: فزارة قوم عيينة بن حصن، وغطفان قوم سلمة بن قرة القشيرى، وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة، التى زوجت نفسها مسيلمة الكذاب ومر ذكرها، وكندة قوم الأشعث بن قيس، وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحكم بن زيد، وكفى الله أمرهم على يدى أبى بكر.
وفرقة واحدة فى عهد عمر رضى الله عنه: قوم جبلة بن الأيهم، لما كان أبو عبيدة بن الجراح رضى الله عنه فى بلاد الشام ليفتحه من جهة أبى بكر، ثم من جهة عمر رضى الله عنهما، سار يطلب فتح بعلبك، فأشرف عليه راكب نجيب، فاذا هو بأسامة بن زيد الطائى فقال: يا أسامة من أين أقبلت؟ فأناخ نجيبه وسلم على أبى عبيدة رضى الله عنه وعلى المسلمين، وقال: أتيت من المدينة، وسلم اليه كتاباً من عمر بن الخطاب ورضى الله عنه، ففضه أبو عبيدة، واذا فيه:
لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بسم الله الرحمن الرحمن من عبد الله أمير المؤمنين، الى أمين الأمة، سلام عليك فانى أحمد الله الذى لا إله إلا هو، وأصلى على محمد نبيه صلى الله عليه وسلم.
أما بعد: فلا مرد لقضائه وقدره، ومن كتب فى اللوح المحفوظ كافراً فلا ايمان له، وذلك أن جبلة بن الأيهم الغسانى، كان قدم ببنى عمه وسراة قومه، فأنزلتهم وأحسنت اليهم، وأسلموا على يدى، وفرحت بذلك اذ شد الله عضد الاسلام والمسلمين بهم، ولم أعلم ما كمن فى الغيب، وأنا سرنا الى مكة حرسها الله وعظمها، نطلب الحج، فطاف جبلة بالبيت أسبوعاً، فوطىء الرجل من فزارة ازاره فسقط أزاره عن كتفه، فالتفت الى الفزارى وقال: يا ويلك كشفتنى فى حرم الله تعالى، فقال: والله ما تعمدتك، فلطم جبلة بن الأيهم الفزارى لطمة هشم بها أنفه وكسر ثناياه الأربع، فأقبل الفزارى الى مستعديا على جبلة، فأمرت باحضاره وقلت له: ما حملك على أن لطمت أخاك فى الاسلام، وكسرت ثناياه الأربع، وهشمت أنفه؟
فقال جبلة: أنه وطىء ازارى برجله فحله، ووالله لولا حرمة هذا البيت لقتلته، فقلت له: قد أقررت على نفسك، فاما أن يعفو عنك واما أن آخذ له منك بالقصاص، فقال: يقتص منى وأنا ملك وهو سوقة؟ قلت: قد شملكما الاسلام فما تفضله الا بالعافية، فقال: تتركنى الى غد وتقتص منى، فقلت للفزارى: تتركه الى غد؟ قال: نعم، فلما كان من الليل ركب فى بنى عمه وتوجه الى الشام الى طاغية الشام، وأرجو أن الله تعالى يظفرك به، وانزل على حمص ولا تتعد عنها، فان صالحك أهلها فصالحهم، وان أبوا فقاتلهم، وابعث عيونك الى أنطاكية، وكن على حذر من المنتصرة، والسلام عليكم ورحمة الله وعلى جميع المسلمين.
وفى رواية أن جبلة لطم الفزارى ففقأ عينه، فتظلم الى عمر فحكم له بالقصاص الا أن يعفو عنه، فقال جبلة: أنا أشتريها بألف فأبى الرجل، فلم يزل يجزل فى العطاء الى أن بلغ عشرة آلاف، فأبى الرجل الا القصاص، فاستنظره عمر فهرب الى الروم وارتد والعياذ بالله تعالى، وكان من ملوك غسان، وندم جبلة على ما فعله من الردة من غير اقلاع وأنشد:

تنصرت بعد الحق عاراً للطمة وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
وأدركنى فيها لجاج حمية فسيقت لها العين الصحيحة بالعور
فيالت أمى لم تلدنى وليتنى صبرت على القول الذى قاله عمر

وحين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كثرت الردة، وارتدت عامة العرب الا أهل المدينة وأهل البحرين من بنى عبد القيس، وأراد أهل مكة الردة، وقام فيهم الفتى المبارك أسيد وأحسن ولم يرتدوا، ومنعت العرب الزكاة وقالوا نصلى ولا نزكى، فحلف أبو بكر ليتقاتلن من فرق بينهما، ولو منعوا عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكرهت الصحابة القتال لهم وقالوا: انهم قد حقنوا دماءهم بكلمة الشهادة، قال ذلك عمر رضى الله عنه وغيره، فتقلد أبو بكر رضى الله عنه سيفه وخرج، فلم يجدوا بداً من الخروج على أثره.
قال ابن مسعود: كرهنا ذلك فى الابتداء، وحمدناه فى الانتهاء، قال أبو بكر بن عياش: سمعنا أبا حصين يقول: ما ولد بعد الأنبياء أفضل من أبى بكر الصديق، قالت عائشة: نزلت لموت رسول الله صلى الله عليه وسلم وللردة ما لو نزلت بالجبال لهامت، وأنفذ جيشاً كثيراً الى بنى حنيفة باليمامة، وأمر عليهم خالد بن الوليد، فأهلك الله مسيلمة على يد وحشى.
{ فَسَوفَ يَأتِى اللهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ }: ينعم عليهم بالجنة والتوفيق والثناء.
{ وَيُحِبُّونَهُ }: يطيعونه ويقدمون أمره على هواهم، وذلك استعمال للملزوم فى اللازم فى الجملة، وليس الله جنساً للبشر ولا لشىء ولا صالحاً لذلك تعالى عز وجل، فضلا عن أن يفسر الحب معه بما يعرف من حب بعضنا بعضاً، ولما نزلت الآية سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القوم فيها، فضرب على عاتق سلمان وقال:
" هذا وذووه، لو كان الايمان معلقاً بالثريا لناله رجال أبناء فارس" ، فنقول منهم: عبد الرحمن ابن رستم فى المغرب، امام الحق وهو من الفرس.
وفى رواية: لما نزلت الآية
"أشار الى سلمان الفارسى وكان جالسا بين يديه فقال: ولعلهم يكونون من رهط هذا" ، وفى بعض الكتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ان لله كنزاً ليس من ذهب ولا فضة ولكن فى ظهور أبناء فارس " وروى عنه صلى الله عليه وسلم: " لو أن العلم تعلق بالثريا لنالته الفرس " وعن زيد بن أسلم " ان النبى صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا فقصها على أصحابه وقال: رأيت غنماً سوداً يخالطها غنم بيض فأولتها أن العجم يدخلون الاسلام ويشركونكم فى نسائكم وأموالكم فتعجبوا من ذلك وقالوا: العجم يا رسول الله؟ فقال: أى والذى نفسى بيده لو أن الدين متعلق بالثريا لتناولته رجال من العجم " واسعدهم به فارس.
ومشى عمر بن الخطاب رضى الله عنه مع المغيرة بن شعبة، وكان المغيرة أعور، عور بنبلة فى غزوة من غزوات الشام، وتسمى تلك الوقعة وقعة التعوير، اذ عورت فيها أكثر من ألف عين من المسلمين فقال له عمر رضى الله عنه: هل أصدت بعينك هذه شيئاً يا مغيرة؟ فقال له المغيرة: نعم يا أمير المؤمنين، فقال له عمر: ثم عورت، فقال له المغيرة: ثم عورت، فقال له عمر: ليعورن الاسلام كما عورت، ثم ليعمى حتى لا يدرى من له ولا من عليه، فاذا أتى عليه مائة وستون سنة رد الله عليه سمعه وبصره، يوقد كوقد الملوك طيبة أرواحهم، صالحة أعمالهم فسأله المغيرة: من أى ماء يا أمير المؤمنين أمن ماء الحجاز أو ماء العراق أو من ماء الشام؟ فولى عمر رضى الله عنه، وتركه.
ثم أن الفرس وليت بالمغرب بتيهرب على رأس مائة وستين سنة، وقال بعض أصحابنا: ان ولايتهم على رأس اثنين وستين سنة، وقال السدى: القوم فى الآية الأنصار، وقيل ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة، وثلاثة آلاف من أخلاط الناس، جاهدوا يوم القادسية، والآية فى جميع تلك الأقوال اخبار بالغيب.
وقال عياض بن علم الأشعرى: لما نزلت أشار الى قوم أبى موسى الأشعرى وهم أهل اليمن، وقال أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم:
" أتاكم أهل اليمن أرق أفئدة وألين قلوباً الايمان والحكمة يمانية " وجملة: { فَسَوفَ يَأتِى اللهُ } جواب الشرط، والعائد الى من محذوف، أى فسوف يأتى الله بعده أو بدله بقوم يحبهم ويحبونه، أو الجواب محذوف ناب عنه تعليله، أى من يرتدد منكم عن دينه فلن ينقطع الدين بارتداده، لأنه سوف يأتى الله بقوم.
{ أَذِلَةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ }: جمع ذليل وعداه بعلى لا باللام لتضمنه معنى الحنو والعطف، أى عاطفين على المؤمنين خضوعاً وتواضعاً، أو للاشارة الى أنهم مع علو طبقتهم على المؤمنين تواضعوا لهم، أو ذكرت على المشكالة قوله:
{ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرينَ }: جمع عزيز، وقرأ ابن مسعود غلظاً على الكافرين، ومعنى العزة والغلظة عليهم التغلب، قال ابن عباس: تراهم كالولد لوالده، وكالعبد لسيده، وهم فى الغلظة على الكافرين كالسبع على فريسة، وقرىء بنصب أذلة وأعزة على الحال من قوم، ولو كان نكرة توصفه بقوله: { يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ }.
{ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ }: لنصرة دين الله جل وعلا، والجملة حال من المستثنى فى أعزة أو نعت آخر لقوم.
{ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ }: لا يخافون فى دين نصر الله بأموالهم وألسنتهم وجوارحهم، لوم من يلومهم، وكان المنافقون يلومون من يفعل ذلك ممن ضعف ايمانه، أو لم يرسخ، أو كان حديث عهد بالاسلام اذا طمعوا فيه، مثل أن يقولوا: ارفق بنفسك ومالك لئلا تترك ولدك أو أهلك عالة وأرامل، فمن قوى فى الدين لا يخاف لومهم، وغير من قوى فيه يخاف لومهم، وكذلك أخرت الآية المنافقين عن حضيرة الخير، اذ كانوا يخرجون فى جيش المؤمنين، ويخافون أولياءهم من اليهود، فيقصرون عما خافوا لوم اليهود عليه من أعمال الخير، والجملة نعت آخر لقوم، أو حال منه، أو من واو يجاهدون على القول بجواز قرن المضارع المنفى بلا واو الحال، كون الجملة معطوفة بالواو على يجاهدون أولى.
وعلى كل حال ففى الآية تعريض بالمنافقين، اذ كانوا يخرجون فى الغزو ويخافون لوم اليهود، وعن أبى ذر: أوصانى النبى صل الله عليه وسلم بسبع: أوصانى أن أنظر الى من هو دونى، ولا أنظر الى من هو فوقى، يعنى فى شأن الدنيا، وأوصانى بحب المساكين والدنو منهم، وأوصانى بقول الحق وان كان مراً، وأوصانى أن أصل رحمى وأن أدبرت، وأوصانى أن لا أخاف لومة لائم، وأوصانى أن لا أسأل الناس شيئاً، وأوصانى أن تستكثر من لا حول ولا قوة الا بالله.
وقد مر حديث: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فى العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كنا، ولا نخاف فى الله لومة لائم واللومة فعلة من اللوم للمرة، وجاء نكرة مع تنكير لائم فى سياق النفى للتعميم، أى لا يخافون لومة كائنة ما كانت من لائم كائناً ما كان.
{ ذَلِكَ }: المذكور من حب الله القوم، وحبهم اياه، وذلهم على المؤمنين، وعزهم على الكافرين، وجهادهم فى سبيل الله، وعدم خوفهم لومة لائم.
{ فَضْلُ اللهِ }: أى متفضل به عليهم بفتح الضاد، فضل مصدر بمعنى ما يتفضل به، وأضيف الى الله سبحانه لأنه المتفضل به عليهم بكسر الضاد.
{ يُؤتِيهِ مَن يَشَآءُ }: يوصله اليه ويوفقه اليه.
{ وَاللهُ وَاسِعٌ }: فضله واسع، لا يعجزه اعطاء مع كثرة الخلق، ولا يبخل به، فهو لكل مريد له الا من هرب عن فضله، ومع هروبه عنه يبقى معه من النعم ما لا يحصيه الا الله لا إله إلا الله.
{ عَلِيمٌ }: بمن يتأهل للفضل الدينى.