التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىۤ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ ٱلْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٦
-المائدة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ يَأيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمتُم إِلَى الصَّلاةِ }: اذا أردتم القيام الى الصلاة، فذكر المسبب وهو القيام الى الصلاة، وأريد السبب وهو ارادة القيام اليها، وفائدة ذلك أنه أوجز لفظاً وأدعى للمسارعة الى الخير بحيث انه لا ينفك المراد عن الارادة ولا تراخى بينهما، كل ما أراد الصلاة فكأنك قائم اليها، مستقبل لشدة المسارعة، ولولا ذلك التأويل لكان المعنى أن الوضوء بعد الوقوف للصلاة، والاستقبال للقبلة، ثم أنه ليس كلما أردنا القيام الى الصلاة لزمنا الوضوء، بل ان كنا على غير وضوء، أى اذا أردتم القيام الى الصلاة ولستم على وضوء، ويدل لهذا ذكر الحدث فى التيمم، والتيمم بدل الوضوء وغسل الجنابة، وكونه صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد يوم الفتح، فقال عمر رضى الله عنه: صنعت شيئاً لم تكن تصنعه، فقال: عمداً فعلته يا عمر، يعنى بياناً للجواز.
وكان يتوضأ قبل ذلك لكل صلاة ويقول:
" الوضوء على الوضوء نور على نور " وكان يقول: " من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات " وقيل الأمر فى الآية للندب، وأن الآية فيمن هو على الوضوء، ويفاد وجوب الوضوء على من ليس على الوضوء من غير هذه الآية، وأيضا يفاد من هذه الآية، لأنه اذا ندب اليه من ليس على حدث فأحرى أن يجب على ذى حدث، وأما أن يقال للندب فيمن هو على وضوء، وللوجوب فيمن ليس عليه، ما يستعمل للكلمة فى حقيقتها ومجازها، أو فى معنييها، وقيل: كان أولا الوضوء واجباً لكل صلاة، ولو لم يكن حدث فانه ينتقض بدخول وقت الصلاة الثانية، ثم نسخ بأنه يكفى حتى يحدث وهو ضعيف، لقوله صلى الله عليه وسلم: " المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها " يعنى فلم تنسخ الآية بآية ولا بسنة.
وذكرت فى الشامل كلاماً من هذا الفن، والصحيح ما ذكرته أولا من أن الآية فى المحدث، وأن القيام بمعنى ارادة القيام، ويقرب منه ما قيل: ان المعنى اذا قمتم من النوم الى الصلاة وهو حسن أفاد أن النوم ناقض، ولا يؤول القيام فى هذا القول بارادة القيام، وهو قول زيد بن أسلم، والأول للجمهور، وكلاهما سالمان من النسخ، ومن استعمال الكلمة فى مجازها وحقيقتها أو فى معنييها، وقال صلى الله عليه وسلم:
" لا يقبل الله صلاة أحدكم اذا حدث حتى يتوضأ " .
والأصل عدم النسخ، وقيل: المراد أنه لا وضوء على من قام لغير الصلاة من مباح أو عبادة، ويناسبه ما روى ابن عباس رضى الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً من الخلاء فقدم، اليه طعام فقالوا: ألا نأتيك بوضوء؟ فقال: انما أمرت بالوضوء اذا قمت الى الصلاة " والاستدلال بهذا مشكل، لأنه ينعكس الى أنه أمره الله بالوضوء عند القيام فى هذه الآية، فيتكلف بما لا دليل عليه فى خروج هذا الحديث عن ظاهره، وهو أنه وجب الوضوء فى مكة بالسنة، ووجب بالسنة فى المدينة، وزعم داود الظاهرى أن الوضوء يجب لكل صلاة الى الآن ولو بلا حدث وهو خطأ.
{ فَاغسِلُوا وُجُوهَكُم }: من الأذن الى الأذن بلا دخول للأذن، ومن منبت الشعر المعتاد فوق الجبهة بلا دخول للشعر، الا بتحقيق التعميم، الى الذقن بدخول ما يراه الرأى، ويبدوا له منه، وكذا يغسل كل ما ينظره الناظر، ويواجه فيدخل فى الغسل كعظم اللحيين الا ما انحدر منه، وتسفل الى جهة العنق، ويقصد ما يخفى أو يغفل عنه كالأعضاء القائمة فى فم الأنف، وما انحدر منخفضاً فى فمه الى الشفة العليا، وما تحت السفلى، وما يبدو من الشفتين عند اغلاق الفم ان قلنا انه من الوجه فلم نغسله مع الفم.
ويجب فتح العينين عند غسل الوجه بقدر ما يطيق ليصلهما بعض الماء، ان لم يكن يضر، ولا يجب فى الغسلة النفلية، بل يحسن مثلها، وكذا فى غير الوجه، وفى الحديث:
" أشربوا عيونكم الماء لئلا ترى ناراً حامية " وكان ابن عمر ينضح الماء فى عينيه، ويوصل الماء بين الشعرات جملة وأسفلها ان خف الشعر، والا غسل ما ظهر منه.
ويغسل ما طال من اللحية الى الجانبين، وما نزل عن الذقن، لأن ذلك بمنزلة الوجه، لأنه يواجه به، وقيل لا لخروجه عن الوجه، كما لا يكون حكم الشعر النازل عن حد الرأس حكم الرأس، والصحيح الأول لأن منبتها الوجه، بخلاف ما نبت فى غير الرأس مما يلى الرأس، فلو نبت الشعر فى الرأس وطال جداً لكان حكمه حكم الرأس، فيجزى مسحه، نعم ان نبت الشعر من أسفل الذقن ولا بد من افراغ الماء والدلك فى الغسل، ويكفى الدلك بغير اليد اذا عم.
وتجزى شدة الماء اذا اشتد عن الدلك، وذلك عندنا وعند مالك، وقالت الشافعية: يجزى افراغ الماء بلا دلك ولا شد.
وتجب نية رفع الحدث عند الوضوء قبل الفم، فيستحضر عند الفم، وعند الأنف، وعند الوجه، ولا بأس ان غفل عنها بعد الوجه ان عمها أولا لجميع أعضاء الوضوء، وان لم ينو لم يصح وضوءه على الأصح، ويقترب الى الله به، وان لم يتقرب وقد نوى صح ولا ثواب له، ولو لم يذكر التقرب والنية فى الآية لوجوب ذلك بالجملة
{ وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } و: " انما الأعمال بالنيات، وانما لكل امرىء ما نوى " وأخذ بعضهم النية من قوله تعالى: { إِذَا قُمتُم } لأنه بمعنى اذا أردتم القيام، لا كما قال أبو حنيفة يصح بلا نية.
{ وَأَيدِيَكُم إِلَى المَرافِقِ }: من أعلى الأصابع الى المرافق، ويغسل ما بين الأصابع وأسفلها، ويحكها لما بتخليل الأصابع أو غيرها، أو يحكها، قال فى الايضاح: لا يجب العرك بين الأصابع، بل يجب ابطال الماء بينها، ويناسبه حديث لفظه:
" خللوا بين أصابعكم بالماء " .
والمرافق جمع مرفق بفتح الميم وكسر الفاء، وهو مجتمع طرفى الساعد والعضد، سمى لأنه يرتفق أى يتكأ عليه، وفيه لغة بكسر الميم وفتح الفاء، والأولى أفصح، والجمهور على وجوب غسل المرفق ودخوله، وبه قلنا نحن ومالك، وقد سئل عن الآية فأجاب بأن الذى أمرنا به أن نبلغ المرفقين فى الغسل ولا نجاوزهما.
وروى
"أن أبا هريرة توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى فاليسرى حتى شرع فى العضد، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ" ، وذلك أن المرفق من جنس المغيا، فوجب ادخاله فى حكمه، وكأنه قيل: وأيديكم مع المرافق وهو أحوط، وزعم زفر وداود أنه لا يجب غسل المرفق أخذاً بالمتيقن، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يدير الماء على مرفقيه كما فى الكشاف، ورواه الدارقطنى، عن جابر بن عبد الله بلفظ أن النبى صلى الله عليه وسلم لما توضأ أدار الماء على مرفقيه.
والى متعلق باغسلوا باعتبار تسلطه على الأيدى أو متعلقة بحال محذوفة، أى منتهية الى المرافق، ودليل الدخول الأحاديث، وتقويه أنه أحوط، وكون المرفق من جنس اليد.
{ وَامسَحُوا بِرُءُسِكُم }: أوقعوا المسح برءوسكم، ويجزى ثلاث شعرات يمسحن بثلاث أصابع واحدة بعد واحدة، وأجيز ما تعم أصبع واحدة فصاعداً بعرضها، وأجيز ثلاث فصاعداً وهو رواية عن أبى حنيفة، قال الشافعى: يجزى ما يصدق عليه اسم المسح أخذاً باليقين، وقال مالك: يمسح كله حوطة وهو رواية عن أحمد أيضاً، وعنه يجب مسح أكثره، وعن أبى حنيفة ربعه، لما روى عن المغيرة ابن شعبة أن النبى صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح ناصيته، وقدر الناصية بربع الرأس، وأجيز مسح شعرة، ولا يحسن تعمد هذا، ولا المسح بأصبع اذ ذلك كاللعب.
ومن جعل الباء للتأكيد أوجب مسحه كله، لأنه بمنزلة قولك وامسحوا رءوسكم فهو كقوله: اغسلوا وجوهكم، ومن جعل الباء للتبعيض أوجب مسح البعض فاختلف فى ذلك البعض على حد ما مر.
{ وَأَرجُلَكُم إِلَى الكَعبَينِ }: بدخولهما فى الغسل، فالأرجل معطوفة على الوجوه، فهى مغسولة لا ممسوحة، وهو مذهبنا ومذهب الجمهور ومالك والشافعى وأبى حنيفة وأحمد، وهو فعل النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين ومن بعدهم، وهو أحوط، وهو قراءة نافع وابن عامر والكسائى حفص عن عاصم، هو النص فى حديث أبى هريرة
"أن النبى صلى الله عليه وسلم رأى رجلا لم يغسل عقبه فقال: ويل للأعقاب من النار " فأخبر أبو هريرة أن الرجل غسل رجليه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقره على الغسل، وما نقم عليه شيئاً الا أنه لم يغسل عقبه، فأفاد أن غسل القدم واجبة بعقبها.
وفى رواية عن عمران مولى عثمان بن عفان
"أنه دعى باناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرات فغسلهما، ثم أدخل يمينه فى الاناء فمضمض واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثاُ، ويديه الى المرفقين ثلاث مرات، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرات الى الكعبين، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئى هذا، ثم قال: من توضأ نحو وضوئى هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه " فتراه قال غسل رجليه، وفى رواية أنه قيل لعبد الله بن زيد بن عاصم الأنصارى: توضأ لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا باناء فأفرغ منه على يديه ثلاثاً، ثم أدخل يده فاستخرجها فمضمض واستنشق من كف واحدة فعل ذلك ثلاثاً، ثم غسل يديه الى المرفقين ثلاثاً اليمنى، ثم اليسرى، ثم مسح رأسه الى قفاه، ثمر ردها الى حيث بدأ، ثم غسل رجليه الى الكعبين، فانظر قوله: غسل رجليه ولم يقل ثلاثاً فلعله يغسلهما تارة ثلاثاً وتارة مرة، لأنهما مظنة الاسراف فى الماء، وهذا أولى من يقال أراد أنه غسلهما ثلاثاً فحذف ثلاثاً.
وفى الحديث بيان كيفية مسح الرأس، والصحيح أن رد اليدين من خلف الى حيث بدأ سنة، وقيل: واجب، ويستحب المسح باليدين مسحة، وفيه تعميم الرأس، فيجوز التعميم والتبعيض، لأنه قد ورد التبعيض أيضاً، وفى رواية عن عبد الخير أن علياً أتانا وقد صلى فدعا بطهور، فقلنا: ما يصنع بالطهور وقد صلى ما يريد الا أن يعلمنا، فأتى باناء فيه ماء، فأفرغ منه على يديه ثلاثاً، ثم تمضمض واستنشق ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، وغسل يده اليمنى ثلاثاً، والشمال ثلاثاً، ومسح رأسه مرة، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثاً، واليسرى ثلاثاً، ثم قال: من سره أن يعلم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو هذا، فتراه غسل الرجلين.
وعن بنت معاذ بن عفراء قالت:
"دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بوضوء فأتيته باناء فيه ماء قدر مد وثلث أو مد وربع، فغسل يديه ثلاثاً ومضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وغسل ذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه ما أقبل منه وما أدبر، ومسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما، وغسل رجليه، فأتانى غلام من بنى عبد المطلب يعنى ابن عباس فسألنى عن هذا الحديث فأخبرته، فقال: أبى الناس الا الغسل وما وجدت فى كتاب الله الا المسح يعنى فى الرجلين" .
قال بعض: رأيته توضأ فمضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ومسح برأسه ثلاثاً، وغسل رجليه، فلما فرغ من وضوئه قام فأخذ فضل وضوئه فشربه وهو قائم ثم قال: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل ما فعلت، فأحببت أن تدع حديث عمرو بن العاص.
قال رجل:
"يا رسول الله كيف الطهور؟ فدعا باناء فيه ماء فغسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً، ثم مسح رأسه فأدخل أصبعيه السبابتين فى أذنيه، ومسح بابهاميه على ظاهر أذنيه، ثم غسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً ثم قال: هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء أو ظلم، أو قال ظلم وأساء" ، أى زاد عضواً أو نقص آخر.
وقيل: يجوز مسح الرقبة، فتراه ذكر غسل الرجلين، وفى حديث نعيم بن عبد الله: رأيت أبا هريرة يتوضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى شرع فى العضد، ثم غسل يده اليسرى حتى شرع فى العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى شرع فى الساق، ثم قال لى: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فتراه غسل رجليه.
وفى حديث أبى هريرة أن
" رسول الله صلى الله عليه سلم قال: اذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن ـ شك الراوى ـ فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر اليها بعينه أى حصلها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فاذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فاذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب، فقال: غسل رجليه" .
وأما ما فى حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: " تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة، ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار " مرتين أو ثلاثاً، فالنداء بالويل للمسح على الأرجل، وخص الأعقاب بالذكر لأنها أكثر ما يبقى بلا غسل، أمرهم فى ذلك بغسل الأرجل حتى لا يبقى منها موضع، وساغ هذا التأويل لكثرة أحاديث غسل الأرجل، أو أراد بمسح الأرجل غسلها الخفيف، لأن التخفيف فى غسلها مشروع اذ كانت مظنة الاسراف.
وفى غالب تلك الأحاديث تثليث الغسل، واذا ذكر المسح لم يذكر التثليث، فالمسح يفرد، وبتلك الأحاديث يقيد حديث أبى هريرة وغيره أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين، وتوضأ ثلاثاً ثلاثاً أى الا المسح فأفرده، وورد المسح ثلاثاً قليلا، وعن عمر أنه مسح برأسه مرتين ومضى من حديث على مسح الرأس ثلاثاً، ولم يذكر فى بعض الأحاديث مسح الأذنين استغناء بذكر مسح الرأس، فانه يشمل مسحها على أنهما من الرأس، فاذا مسحت قدام رأسك مثلا مسحت أذنيك صدق عليك أنك مسحت رأسك فى موضعين منه، وفى تلك الأحاديث دلالة على الترتيب والموالاة اذ لم يفعل سواهما فليكونا هما المفعولان، ففعله صلى الله عليه وسلم بيان لهما، وتفسير للآية بهما، ولما لم يبين الله تعالى له ما يبدأ به بدأ بما بدأ الله به، وربما دل عليه حديث:
" أبدأ بما بدأ الله به " لعموم لفظه، ولو ورد فى السعى لا كما قال أبو حنيفة بعدم وجوب الترتيب.
ومما هو نص فى غسل الأرجل قول عطاء: والله ما علمت أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على القدمين، وقول عائشة لأن تقطعا أحب الى من أن أمسح عليهما، ويدل للغسل أيضاً أنه لا يجعل للممسوح حداً، فلو كانتا تمسحان ما حدثا بالكعبين، ولا ضير فى عطف الأرجل بالنصب على الوجوه المغسولة، لأنه ولو لزم عليه الفصل بجملة غير اعتراضية، لكن فى الفصل حكمة ترتيب أعضاء الوضوء فى الذكر، لأن الواو ولو لم تفده لكن السنة بينت أنه المراد، مع أنه قد يقال: الجملة الفاصلة معترضة لأجل هذه الحكمة، وجملة الاعتراض كثيراً ما تكون بالواو، ودعوى أن نصب أرجل للعطف على محل رءوس على زيادة الباء للتأكيد خلاف الأصل من جهة كون الأصل العطف على اللفظ، ومن جهة كون الأصل عدم الزيادة، ودعوى كون نصبه على رءوس لا على زيادة الباء خلاف الأصل، لأن الصحيح أن لا يعطف على محل لا يظهر فى الفصيح، والفصل لتلك الحكمة لا يضعف.
بل قد قيل أيضا: ان خفض أرجل فى قراءة غير نافع، وغير ابن عامر، وغير فحص، وغير الكسائى، وغير يعقوب وهم: ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم، لا يوجب المسح، بل تعطف على رءوس، لكن مسح رءوس غير غسل، ومسح أرجل غسل خفيف، ويتخلص فى ذلك عن الجمع بين الحقيقة والمجاز بعموم المجاز، وهو اذ يراد هنا الوضوء الخفيف للرءوس والأرجل، ففى الرءوس المسح، وفى الأرجل الغسل الخفيف، وعن أبى زيد المسح خفيف الغسل، تقول العرب: تمسحت للصلاة أى توضأت لها، وهات ماء أتمسح به للصلاة، أى أتوضأ، وكذلك قال أبو حاتم، وابن الأنبارى والفارسى.
قال أبو حاتم: وذلك أن المتوضىء لا يرضى بصب الماء على أعضائه حتى يمسحها، وان صرنا الى التأويل للأحاديث الصحيحة فى غسل الأرجل فالتأويل أحق، ولو ضعف حتى انه لو لم نجد الا أن نقول الخفض على الجوار للرءوس، وان نصبت مقدر عطفا على وجوه، مع أن الخفض على الجوار لم يستعمل مع العاطف كون العاطف مانعاً من الجوار، ونقول: انه هنا شاذ كما قرأ حمزة والكسائى: وحور عين بالجر لجوار أكواب وأباريق، مع أن العطف على ولدان لكان أولى من دعوى أن الأرجل تمسح مسح الرأس.
وزعموا عن ابن عباس: الوضوء غسلتان ومسحتان، ومر حديثه مع بنت معاذ، ويروى مر المسح عن قتادة، فان صح ذلك فلعله أراد بالمسحتين الوضوء الخفيف على طريق عموم المجاز، فلا يقال: كيف يثنى لفظ حقيق ولفظ مجاز، أو أراد لفظ القرآن بالمسحتين فى قراءة جر أرجل، وذلك أن قراءة القراء سابقة أصلها من الصحابة، ويدل لهذا القول أنس: نزل القرآن بالمسح، والسنة بالغسل،أو أراد بالمسحين المسحين اللذين تحققا، وهما مسح الرأس ومسح الأذنين، ولم يتكلم على الأرجل لتردد غسلها الى المسح لخفته.
وزعم عكرمة أنما نزل فى الرجلين المسح، وعن الشعبى تمسحان بالدليل انما كان عليه الغسل مسح فى التيمم وأهمل ما يسمح، والكعبان العظمان الناتئان فوق القدمين أسفل الساقين عند الجمهور وهو الصحيح، وزعم بعض أنهما العظمان الناتئان فى ظهر القدمين، لكل قدم كعب واحد، عظم واحد مستدير فى ظهرها، واعترض بأنه لو كان كذلك لقيل الى الكعاب بالجمع كما جمع المرافق لما لم يكن لكل يد الا مرفق واحد، ولما قال: الى الكعبين بالتثنية علم أن لكل قدم كعبين، وقرىء برفع أرجلكم أى وتغسل أرجلكم، أو أرجلكم مغسولة، أو أرجلكم تغسل.
{ وَإِن كُنتُم جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا }: أى فتطهروا قلبت التاء طاء، وأدغمت فى الطاء، فجاءت همزة للابتداء بالساكن، وحذفت للوصل، وهذا فى التفعل ومثله فى التفاعل، أى أردتم وادراك أبدلت فيهما دالا وأدغمت، والمعنى فاغسلوا أجسادكم كلها وبالغوا فى ايصال الماء فى كل موضع منخفض أو مستور بشعر، كما دل عليه التفعل، وكذا تقصد مواضع الخفاء فى الوضوء، ويجب غسل الجنابة لالتقاء الختانين، وبغيوب الحشفة فى دبر أو فرج بهيمة ولو بلا ماء، وبنزول الماء وخروجه بآى بوجه.
وقيل: بمجرد انفصاله عن أماكنه ولو لم يخرج، والذى يقطع فى ختان المرأة اللحمة العلياء التى على الفرج على صورة الأنف، وهى انما تتجمع باجتماع لحم تلك الجهات، وهى التى يقول فيها بعض المشايخ رحمهم الله لامرأة قل لهن يغسلن الأنف، فانهن لا يطهرن ان لم يغسلنه.
قالت عائشة رضى الله عنها:
"ان النبى صلى الله عليه وسلم كان اذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله فغسل فرجه، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة تعنى الا رجليه فحتى يغتسل، ثم يدخل أصابعه فى الماء يخلل بهما أصول شعره، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على سائر جسده" ، وتقدم فى سورة النساء تفسير قوله تعالى:
{ وَإِن كُنتُم مَّرضَى أَو عَلَى سَفَرٍ أَو جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَآئِطِ أَو لامَستُمُ النِّسَاءَ فَلَم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامسَحُوا بِوُجُوهِكُم وَأَيدِيكُم مِّنهُ }: أى من الصعيد الطيب، واختلفوا فيمن رأى ماء يمكنه الوصول اليه، هل انتقض تيممه قبل الوصول اليه ان كان تيممه عن فقد الماء أولا حتى يصله، ولم تجدوا معطوف بالفاء على الشرط، وتيمموا جواب الشرط، وذلك ظاهر، وذكرت الآية مع أنها ذكرت فى النساء أيضاً ليتصل الكلام فى بيان أنواع الطهارة.
{ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجعَلَ عَلَيكُم مِّنْ حَرَجٍ }: اللام صلة للتأكيد، والنصب بأن مضمرة، والمصدر من يجعل مفعولا يريد، وهذا عند مجيز اضمار أن بعد اللام الزائدة وضعف، أو اللام للتعليل، ومفعول يريد محذوف، أى ما يريد الله الأمر بالصلاة والوضوء والتيمم، أو ما يريد الأمر بالوضوء والتيمم للصلاة، ليجعل عليكم من حرج كقوله:
{ ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى0 الا تذكرة لمن يخشى } ومثل هذا الاستثناء فى طه الاستدراك هنا بقوله:
{ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّركُم وَلِيُتِمَّ نِعمَتَهُ عَلَيكُم }: ومن فى { مِّنْ حَرَجٍ } لتأكيد النفى فى المفعول به، والكلام فى ليطهر وليتم مثله فى ليجعل، أى ولكن يريد التطهير واتمام النعمة، أو ولكن يريد الأمر بذلك ليطهركم الآية، والمعنى ليطهركم بالماء أو بالتراب من الحدث، أو يطهركم من الذنوب، أو ليطهركم بالتراب من الحدث اذا فقد الماء، فالوضوء الى الوضوء كفارة لما بينهما، والتيمم طهور المؤمن، ومعنى اتمام النعمة شرع ما يطهرنا من الأحداث والذنوب.
{ لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ }: نعمه، قال عقبة بن عامر:
" كانت علينا رعاية الابل، فجاءت نوبتى أرعاها فروحتها بعشى، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يحدث الناس، فأدركته يقول: ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلى ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه الا وجبت له الجنة فقلت: ما أجود هذا فاذا قائل بين يدى يقول: التى قبلها أجود، فنظرت فاذا هو عمر بن الخطاب قال: انه قال آنفا: وقد رأيتك ما من أحد يتوضأ فيبلغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء " هذا لفظ مسلم، وذكره الترمذى، وزاد فى آخره: اللهم اجعلنى من التوابين واجعلنى من المتطهرين.
قال نعيم بن عبد الله، عن أبى هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من اسباغ الوضوء فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله " وفى رواية عن أبى هريرة، " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من توضأ على طهر كتب الله به عشر حسنات " وعنه صلى الله عليه وسلم: " من توضأ وذكر اسم الله على وضوئه كان طهوراً لجسده ومن توضأ ولم يذكر اسم الله على وضوئه كان طهوراً لأعضائه " وعن أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أخبركم بما يمحوا الله به الخطايا ويرفع به الدرجات اسباغ الوضوء عند المكاره، وكثرة الخطا الى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط " .
قال ابن عبد البر: هذا الحديث من أفضل ما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم فى فضائل الأعمال، وعن أبى مالك الأشعرى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الطهور شطر الايمان والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله يملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يعبد فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها " وفى رواية: " التسبيح نصف الميزان والحمد لله تملؤه والتكبير يملأ ما بين السماء والأرض والصوم نصف الصبر ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تخلص اليه " .