التفاسير

< >
عرض

وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ
٦٤
-المائدة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ }: لما كان الانسان الذى غلت يده ولا يناول بها لغيره شيئاً، كانوا لعنهم الله بذلك، عن كونه تعالى ممسكا لا يعطى، كما يستعمل بسط اليدين كناية عن الجواد، والله تعالى منزه عن اليد وغلها وسائر الجوارح والجسيمة، أو كان اليهود القائلين لذلك مجسمة مثبتة للجوارح، فتكون الكناية فى لفظ مغلولة وحده، ومثله: { { ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك } وقيل معناه أنه فقير كقوله تعالى: { لقد كفر الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } لحقتهم سنة وجهد لكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا أغنى الناس فقالوا: { يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ } فكفروا باثبات اليد وبنسبته للبخل أو الفقر، أو باثبات الذل أو الفقر ولو نفوا اليد وذلك أنه لا يجوز لأحد أن يصف الله بما ينقص فى الظاهر ولو لم يرد معناه، فالكفر لازم لهم.
ولو أرادوا بغل اليد عدم التوسعة عليهم بالرزق، وقائل ذلك فنحاص، ورضى غيره فنسب اليهم، وقيل: المعنى مغلولة عن عذابنا لا يعذبنا نحن أبناء الله وأحباؤه.
{ غُلَّتْ أَيدِيهِمْ }: فى جهنم الى أعناقهم، أخبار بأنها ستغل فيها، ولتحقق الوقوع بعد جعل غلها كأنه قد وقع، ويجوز أن يكون دعاء مصروفاً الينا، أى ادعوا أيها المؤمنون عليهم أن تغل أيديهم فى النار، جزاء على قولهم هذا، كذا ظهر لى، ثم رأيت بعض العلماء المتقدمين والحمد لله، وعبارة بعض أمر بالدعاء عليهم بأن تغل ويطرحوا فى النار.
وقيل: المعنى أمسكت أيديهم عن كل خير، وطردوا عن رحمة الله، وهو اخبار، وقال الزجاج: انه اخبار عنهم بأنهم البخلاء وأنا الجواد الكريم، وقيل: أمرنا الله أن ندعو عليهم بغل الأيدى فى الدنيا بالأسر، وفى الآخرة باغلال النار أو بالبخل والنكد، فكانت اليهود أبخل الناس وأنكدهم، وعندنا يجوز مثل هذا الدعاء على الكافر، وقيل: لا يجوز فلا تفسر به الآية عند قائله الا ان أريد الدعاء بالخذلان المسبب للبخل والنكد، أو الدعاء بلازم البخل والنكد، وهو لصوق العار والتحدث عنهم بما يخزيهم ويمزق أعراضهم.
وحاصله أنه وهو الزمخشرى منع الدعاء ولو على المشرك بما هو معصية.
{ وَلُعِنُوا بَمَا قَالُوا }: أبعدوا عن الجنة، أو عذبوا بالقتل والجزية، اخبار عما يقع ولا بد، أو أمر بالدعاء عليهم باللعنة بسبب ما قالوه، اخبار عما يقع ولا بد، أو أمر بالدعاء عليهم باللعنة بسبب ما قالوه، ويجوز أن تكون ما مصدرية، ويجوز أن يتنازعا: غلت ولعنوا فى قولهم بما قالوا، وقرىء باسكان عين لعنوا تخفيفاً من الكسر.
{ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ }: كناية عن سعة الانفاق فى الجملة، ولو ضيق عليهم فى وقت ولا اثبات فيه لليد الجارحة سواء أرادها اليهود فى قولهم: يد الله، أو أراد الكناية عن تضييق الرزق، وذلك أن غاية ما يعطى السخى بمناولة أن يعطى بكلتا يديه، تقول العرب: فلانا يعطى بكلتا يديه، وتريد التوسيع فى العطاء لا خصوص الكفين، فذلك هو بسبب التثنية، ولولا ذلك لقال: بل يده مبسوطة وكفى، اذ ليس موصوفاً باليد الجارجة فتثنى.
ويجوز أن يكون المراد باليدين النعمتين كل واحدة منهما عامة فى جنسها احداهما نعمة الدنيا، والأخرى نعمة الآخرة، ودخل فيهما النعمة الظاهرة والنعمة الباطنة، وقيل: الأولى النعمة الظاهرة والأخرى النعمة الباطنة، ودخلت فيهما نعمة الدنيا ونعمة الآخرة.
وعن ابن عباس: يداه نعمتان، ففسره بعض بنعمة الدنيا ونعمة الآخرة، وبعض الظاهرة والباطنة كما رأيت، فهذا نص من ابن عباس أنه يجوز أن يراد بالتثنية جنسين، كما يراد بالمفرد جنس، وبالجمع أجناس، لا كما قيل: التثنية لا يراد بها الاثنان معينان، تقول: أعجبنى الدرهمان، وتريد جنس الدرهم الذى هو سكة فلان، وجنس الدرهم الذى هو سكة فلان الآخر.
ويجوز أن يكون المراد باليدين الملكين، ملك الدنيا وملك الآخرة، يقال: هذا الجنان فى يد فلان، وهذه البلاد فى يد فلان، أى فى ملكه قال الله تعالى:
{ الذى بيده عقدة النكاح } }. ويجوز تفسير اليدين بالقدرتين، وقدرة الله ولو كانت لا تثنى لكن بحسب المقدور عليه، يجوز أن تثنى مثل أن يعتبر أنه قادر فى الدنيا والآخرة، كما تجمع القدر على أقدار، والأنسب فى التفسير الوجوه السابقة، والأولان أنسب، لأن المقام ذكر بسط النعمة، وما ساغ تفسير القدرة هنا الا لشمولها القدرة على البسط، واذا فسر يد الله مغلولة بأنه لا يعذب اليهود فى زعمهم، فسر { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } بمعنى أنه لا مانع له من تعذيبهم، وأنه متمكن منه، فثنى مبالغة فى القدرة، أو باعتبار عذاب الدنيا والآخرة.
والحق هذه التأويلات أعنى الدخول فى التأويل والله أعلم، بأيها الصواب لا ما قالت أسلاف الأشعرية من الجمود على الايمان، بأن لله يدين لا يشبه بهما الخلق، ولا كيف لهما.
وزعم الفخر عن أبى الحسن الأشعرى أن اليد صفة قائمة بالذات، وهى صفة سوى القدرة من شأنها التكوين وذلك خطأ، وأما ما قيل: انها لو كانت بمعنى القدرة لم يخص آدم بكونه مخلوقاً بيده، لأن قدرته فى خلق آدم وفى خلق غيره، فالجواب أنه خلق آدم بقدرة بلا واسطة آب وأم.
{ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ }: يوسع على من يشاء، ويضيق على من يشاء، ويوسع متى شاء، ويضيق متى شاء، بحسب قضائه وحكمته، والجملة مستأنفة أو خبر ثان ليداه، والعائد محذوف أى ينفق بهما كيف يشاء، وهذا العائد داخل فى التأويل السابق لا حال من يداه الا على قول من أجاز الحال من المبتدأ مطلقاً، وفصل بالخير كما فصل فى قوله تعالى:
{ وهذا بعلى شيخاً } }. وأما مجىء الحال من المضاف اليه كالهاء هنا فجائز مطلقاً عند بعض، وبشرط أن يصلح المضاف لعمل الرفع والنصب، أو كونه جزء المضاف اليه، أو مثل جزئه عند بعض، والله منزه عن الجزء والكل معنى، وأما باعتبار اللفظ تعالى الله، فاللفظ من قبل كونه جزءاً تعالى الله عن ذلك، وعلى الحالية من المبتدأ، فالرابط محذوف أى يتفق بهما، وعلى الحالية من الهاء فالعائد ضمير ينفق، ويجوز كونها حالا من المستتر فى مبسوطتان، فالرابط محذوف كذلك وكيف حال من المستتر فى يشاء، ويشاء حال من المستتر فى ينفق.
{ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم }: من اليهود متعلق بمحذوف نعت كثيراً، وكثيراً مفعول أول، وطغياناً مفعول ثانى، وما فاعل يزيد.
{ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ }: وهو القرآن وسائر الوحى.
{ طُغْيَانًا وَكُفْرًا }: قد كانوا من قبلهم طغاة كفرة، ومعنى الزيادة أنه كلما نزلت آية أو وحى، وبلغهم ذلك أنكروه وطعنوا، فالمؤمن يزداد بما نزل ايماناً، والموفق يدخل به فى الدين، وهؤلاء يزدادون به كفراً وطغياناً لاستحكام الكفر والعناد فيهم، كالغذاء الصالح ينفع الصحيح، ومن أراد الله من المرضى ويزداد به بعض المرضى مرضاً، وطغيان ظلم المؤمنين بما قدروا عليه من الطعن، وافساد المال وغير ذلك، والكفر كفرهم بالله ورسوله حملهم على ذلك حب الرئاسة والحسد للعرب.
{ وأَلقَيْنَا بَيْنَهُمُ }: بين اليهود.
{ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَآءَ }: كل عدو مبغض، وبغض المبغض عدو.
{ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ }: فكان بعضهم يكفر بعضاً، ويشبه الى ما هو شرك، فبعضهم جبرية، وبعض قدرية، وبعض موحدة، وبعض مشبهة، وبعض مجسمة، والتجسيم أيضاً تشبيه، فهم متعادون متخاصمون أشد الخصام الى يوم القيامة، وقال الحسن ومجاهد: { أَلقَيْنَا بَيْنَهُمُ } ألقينا بين اليهود والنصارى، فالنصارى أعداء لليهود أبداً، وقد جرى ذكرهم فى قوله تعالى:
{ لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } ، وعاب الله عليهم ولم يذكر معاداة الموحدين من هذه الأمة بعض لبعض، لاختلاف فرقهم، لأنه وجدت فرقهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهؤلاء المتعادون المختلفون من اليهود والنصارى كان افتراقهم موجوداً فى زمانه صلى الله عليه وسلم، ولم تجترىء فرقة أن تقول: من أهل القبلة فلان إله أو ابن الله، ومن أثبت ما هو شرك فما وجوده الا كوجود اليهود والنصارى، ومع ذلك قال صلى الله عليه وسلم:
" لتتبعن سنة من قبلكم " فمن سننهم التفرق، وقد افترقت الأمة أكثر مما افترقوا، وصح الحديث أنها كلها هالكة الا واحدة ولم يصح عسكه.
{ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلحَرْبِ }: لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وللحرب متعلق بأوقدوا، والمحذوف نعت لنار، أو ايقاد النار كناية عن اثارة الشر هكذا، أى ما هو مكروه طبعاً، ثم بين أنهم يثيرونها للحرب، حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يتكرر قوله للحرب مع { أَوْقَدُوا نَارًا }.
{ أَطْفَأَهَا اللهُ }: أبطل فتنتهم التى يثيرونها بايقاع التنازع بينهم فيفشلون، كما تبطل النار بالماء، والظاهر أن قوله: { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ } استعارة مركبة شبه مجموع قصدهم لاثارة الشر، واثارته وقصد المضرة به مع ابطال الله ذلك بالقصد الى النار بالقلب، والى ايقادها بالجوارح، وقصد الحراق بها، ثم ابطالها بنحو الماء، وكل ظرف زمان متعلق بأطفأها، وما مصدرية، والمصدر ناب عن الزمان، فتحصلت لكل الظرفية باضافتها اليه.
وقيل: المراد بالحرب كل حرب أرادوها فانهم من حين خالفوا التوراة لم ينصروا، أفسدوا فسلط الله عليهم بخت نصر، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم فطرس الرومى، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين، وهم فى حكم المجوس حين سلط الله المسلمين عليهم، قال قتادة: لا تجدهم فى بلد الا أذل الناس، وما تقدم من أن الحرب حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قول الحسن ومجاهد.
{ وَيَسْعَونَ فِى الأَرْضِ فَسَادًا }: يجتهدون فى المكر واثارة الحروب والفتن، وفى كل ما يبطلون به أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ وَاللهُ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ }: فيعاقبهم اليهود، لأنهم من جملة المفسدين المستوجبين للعقاب.