التفاسير

< >
عرض

وَكَذَّبُواْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ
٣
-القمر

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَكَذَّبًواْ } النبي والقرآن { وَاتَّبَعُواْ أَهوَاءهُم } ما زين لهم الشيطان وقيل قولهم سحر القمر، قال القاضي ذكرهما بلفظ الماضي للاشعار بانهم من عادتهم القديمة ينكرون العيان وروى "انه لما نزل وانذر عشيرتك القربين جمع اهله وعشيرته وقام فيهم خطيبا وقال يا معشر قريش ان الله بعثني الى العرب والعجم والحر والعبد والابيض والاسود وانزل علي انذر عشيرتك الاقربين.
فقام ابو جهل لعنه الله تعالى وقال: يا محمد وحق اللات والعزى والصنم الاعلى لئن لم تقطع هذا الكلام ليكونن عليك شأن فقام اليه الصديق رضي الله عنه وقال: يا عدو الله مالك ولمحمد لئن لم تكف لسانك لأعجلن به فقام أبو جهل وجمع سادات العرب واهل مكة وشيوخ الحرم ورؤوس العرب وانطلقوا الى حبيب بن مالك فاستأذنوا فاذن لهم فدخلوا عليه فوجدوه في قبة من الديباج الاحمر منسوجة بقضبان الذهب والفضة وسلموا عليه وفرح بهم واجلسهم وقال مرحبا بسادات العرب وشرفائهم فيم جئتم وما تريدون.
فقال ابو جهل: يا سيدنا وكبيرنا انك تعلم ما لنا عماد غيرك ولا احد سواك وان بني هاشم اصحاب البيت الحرام وزمزم والمقام والمشاهد العظام ونحن عارفون بحقهم وبقدرهم مقرون بفضلهم وقد ظهر فيهم غلام يتيم فزعم انه نبي ارسله الله رب العالمين الى العرب والعجم ونحن قد اتيناك في امره قاصدين وبك مستجارين ونريد ان تسير معنا انت وقومك الى بطاح مكة تبعث إلى هذا الغلام وتفضحه على رؤوس الملأ فإذا قطعت حجته اخرجناه من بلادنا وقتلنا كل من كان معه في دينه فاجابهم حبيب بن مالك لما سألوه واقاموا عنده تلك الليلة واكرمهم ورحب بهم.
وكان حبيب بن مالك قد بلغ عمره مائة واربعين سنة تهود وتنصر وتمجس ولم يبق له دين إلى ودخل فيه ولا كتاب إلا واطلعه ودرسه فلما طلع الفجر ركب حبيب بن مالك وركب معه عشرون الفا من قومه فلما طلعت عليهم الشمس اشرفوا على مكة وخرجت الهوادج والقباب والخيل والرجال وجاء الناس من كل جانب ولما نظر ابو بكر الى حبيب نزل بالبطاح وضربت له قبة عظيمة من الديباج الاحمر وضرب له كرسي من ذهب فجلس عليه فدارت عليه العرب اقبل مسرعا الى النبي صلى الله عليه وسلم واخبره ان الناس تناهضوا من كل واد وشعاب فاطرق صلى الله عليه وسلم مغتما فقالت له خديجة - رضي الله عنها - مالي أراك يا رسول الله مهموماً مغموماً وهذتا مالي اعطيه لك في الاستطاعة واستدع العرب واعطهم واخلع عليهم وأقاتل من قاتلك حتى يظهر امرك. وقال له ابو بكر: كذلك وإذا بحاجب حبيب قرع الباب قرعا خفيفاً فخرج صلى الله عليه وسلم فقال ما شأنك فجعل الحاجب يقبل يديه ورجليه وقال له يا سيدي اجب دعوة حبيب فقال حبا وكرامة اعلمه اني في اثرك فاعلمه فلبس ثيابا ما لبسها قط لبس قبطية من قباطي مصر وتعمم بعمامة خضراء واسبل ذوائبه حتى وصلت خاصرته وترد برداء عدني وطيبت خديجة رأسه بالمسك والكافور فخرج وبكت حتى بلت ثيابها وكادت يغشى عليه خوفا عليه.
ونزل جبريل قيل على صورته حربة غضب لها شعلتان شعلة بالمشرق واخرى بالمغرب فناداه يا محمد السلام عليك ربك يقرؤك السلام ويقول وعزتي وجلالي ما ارسلت نبيا ولا أمة افضل منك ولا اكرم منك ولا من امتك يا محمد انا معك محيط وحارس وموكل وقد بعث اليك ثلاثون الف ملك فرفع رأسه فرآهم صفوفا بأيديهم حراب من نار ولو رآهم أهل الارض لماتوا فزعا ينادونه السلام عليك يا محمد يا حبيب القلوب ويسيرون بسيرة ويقفون بوقوفه فرد عليهم السلام، ولما وصل إلى حبيب أجلسه على كرسيه وأتى بكرسي اخر وجلس إزاءه فشخصت الابصار وامتدت الاعناق وسكتوا باهتين في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال حبيب: يا أبا القاسم ان لكل نبي آية ومعجزة تدل على نبوته ورسالته، نوح وكانت له السفينة، وكانت لسليمان الطير والجن والخاتم وبها اطاعة كل شيء ولأبراهيم برد النار ولموسى العصا تتحول ثعبانا ولعيسى ابراء الأكمه والابرص واحياء الموتى فائت بمعجزة تدل على نبوتك فقال: أي معجزة اردت يا حبيب قال هذا وقت الزوال سل ربك ان يرسل ظلمة حتى لا يرى انسان صاحبه وتصعد الى ابى قبيس وتنادى القمر وتأمره ان يستدير كاملا من ناحية المشرق ويقف على الكعبة ويطوف ويسجد فتناديه ان يصعد اليك ويقول السلام عليك يا محمد انت رسول حقا ثم يدخل في كمك الايمن ويخرج من الايسر وينشق نصفين فيأخذ النصف الى المشرق والنصف الى المغرب ويلتئم في الهوى مستديرا كاملا كأول مرة وصفق ابة جهل لعنه الله بيده وقال يا حبيب واللات والعزى والصنم الاعلى لقد كشفت الكروب وفرجت عنا.
فقال له صلى الله عليه وسلم: اسكت يا كلب قومه واهبه يا عدو الله وقال يا حبيب اغير هذا فقال: يا ابا القاسم ان فعلت هذا ففيه عبرة للسائلين وآية للمتفكرين ولكن اسأل ربك أن يعلمك بما في نفسي وما اريد ان اسألك عنه فاطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه الى الارض ورفع رأسه وقال ان الله اوحى الي انك سألت عن بنتك سطحية بلا يدين ولا رجلين ول سمع ولا بصر يا حبيب انطلق اليها وكلمها تكلمك فإن ربي رد عليها سمعها وبصرها ويديها ورجليها وهو القادر على ما يشاء.
فانطلق فوجدها صحيحة فقال هذه آية ونزل جبرائيل وناداه من الحرام وقال له: يا محمد ارفع رأسك فإن الله يقول وعزتي وجلالي وارتفاعي في علو مكاني لو سالتني على اطباق السماوات على الارض لفعلت ذلك تعظيما لقدرك واعلم ان هذه المعجزات خلقتها لك قبل آدم باربعة آلاف سنة فاقدم على قومك وعشيرتك واوثقهم بالعهد والميثاق انهم إذا رأوا هذه المعجزة يقرون لك بالنبوة ولي بالربوبية وتنادي القمر وتأمره بما شئت فإنه يطيعك فوعزتي وجلالي يا محمد لولاك ما خلقت شمسا ولا قمرا وليلا ولا نهارا ففرح وتلألأ وجهه نورا. وقال جبريل: يا محمد لا تخف ولا تحزن فاني معك إلى ان تقوم دلالتك وتظهر للناس معجزتك فرقى هو وابو بكر وحمزة والزبير وطالب بن طالب وعلي وهو ابن اثنتي عشر سنة وكان طالب يعدل بسرجه اربعة آلاف فارس والزبير لا يقوم به احد فقال: إن اتيتكم بالمعجزة فهل تؤمنون يا حبيب؟ فقال: اشهدوا يا معشر العرب إن أتى بها لا يختلف عليه وتكن له الرفعة ولقومه الى يوم القيامة وإلا اخرجناه من بلادنا.
فرفع رأسه ونادى ربه ودعاه فاوحى الى ملك الظلمة ان يفتح مقدار سم الخياط فاقبلت الظلمة متراكبة براً وبحراً وكادت نفوسهم تذهب فنادوا حسبك قد رأينا فادع القمر فدعا ربه ونادى القمر وطلع راكضاً ينظرون اليه ووقف بازاء الكعبة واشار اليه فنزل فطاف وسجد ووقف بين يديه صلى الله عليه وسلم مرتعدا كالورقة قائلا فصيحا السلام عليك يا محمد انت رسول الله حقا حقا اشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله فدخل من كمه وخرج من الاخر والناس باهتون.
فاشار اليه فانشق نصفين نصف للمغرب وآخر للشرق وطلعا فأجتمعا في كبد السماء وقال مرُني يا محمد بما شئت ودهشوا فقال ابو جهل: حاربكم سحر محمد فقال صلى الله عليه وسلم يا حبيب كيف رأيت قدرة الله ولما سمع وثب قائما قائلا يا معشر العرب ومن حضر اعلموا ان محمد رسول الله حقا مد يدك لا كفر بعد اليوم، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله. فقال ابو جهل لعنة الله عليه أيها السيد أخذ سحر محمد سمعك وبصرك وقلبك وما ظنناك هكذا فاسلم هو ومن اشراف قومه سبعون رجلا ومائة فنزل جبريل فقال السلام عليك يا محمد ربك يقرؤك السلام ويخصك بالتحية والاكرام ويقول اقرأ قال وما اقرأ قال اقرأ { اقتربت الساعة وانشق القمر...... الى شيء نكر } ولما قرأ قبل يديه ورجليه حمزة والعباس وابو طالب وقد امتلات وجوههم نورا وقال الناس وحق الكعبة ما رأينا اعظم من هذا.
واقبل الى منزل خديجة وقالت يا سيدي وحبيبي وقرة عيني قد رايت القمر حين انحط وانت على الجبل وانا في عاليه داري رأيت منزلتك عند الله ولما خرج من دارها الى حبيب نادتها فاطمة من بطنها حين اشتد خوفها يا اماه لا تخشي على ابي سيد ولد آدم فإن الله معه فلما اخبرته خديجة بذلك تبسم وقال انها فاطمة اخبرني بها جبرائيل وهي لا تدري اذكر ما في بطنها ولا انثى ففرح بنو هاشم فرحا شديدا كذا قال اهل القصص"
.
وقال بعضهم ان طلوع القمر وانشقاقه ليلا بعد العشاء قبل وقت طلوعه ومنكر الانشقاق جاهل لان الكفار لا يعرضون في الاخرة ولا يقولون سحر مستمر فصح ان انشقاقه في الدنيا ولم ينشق لاحد غير نبينا صلى الله عليه وسلم وهو من امهات معجزاته لا يكاد يعدلها شيء من معجزات الانبياء عليهم السلام وذلك انه ظهرت في ملكوت السماوات خارجة عن طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع فليست مما يطمع فيه بالحيلة وهي متواترة منصوص عليها في القرآن رواها جماعة كثيرة من التابعين عن مثلهم من الصحابة.
أما انس وابن عباس فلم يحضراها لانها كانت بمكة قبل الهجرة بنحو خمس سنين وابن عباس لما يولد وانس بالمدينة ابن اربع أو خمس وابن عباس رواها ابن مسعود وفي راوية عن ابن عباس انشق فصار قمرين وعن ابن مسعود انشق ونحن بمنى وهذا لا ينافي الرواية عنه انشق ونحن بمكة لانه اراد لسنا في المدينة وممن طلبها الوليد بن المغيرة وابو جهل والعاصي وائل والاسود ابن المطلب والنضر بن الحارث ونظائرهم وقد انكرها جماعة من المبتدعين كجمهور الفلاسفة متمسكين ان الاجرام العلوية لا يتهيأ فيها الانخراق والالتئام وكذا قالوا في فتح ابواب السماء ليلة الاسراء ونحوه.
والجواب انهم ان كانوا كفار فلينظروا اولا على الإسلام فإذا اسلموا اشتركوا معنا في الكلام فتصح بيننا المناظرة ومتى سلم ليسلم بعض ذلك دون بعض لزمه التناقض أعني الموحد المتأول ولا سبيل إلى إنكار ما ثبت في القرآن من الانخراق والالتئام في القيامة.
{ وَكُلُّ أَمرٍ } من امور محمد صلى الله عليه وسلم { مُّستَقِرٌ } غير مستمر اي غير ذاهب يظهر الى غاية انه حق قاله بعض وقيل كل امر من خير أو شر ثابت لاهله يجازي له او مستقر باهله في الجنة أو النار وقيل كل شيء إلى غاية وان امر محمد صلى الله عليه وسلم سيظهر انه حق او باطل أو ستظهر لهم عاقبته أو كل امر منته في غاية من خذلان أو نصر في الدنيا وشقاوة او سعادة في الاخرة فان الشيء اذا بلغ غايته ثبت واستقر وقيل ما قدر كان ولا محالة وقرىء بجر مستقر نعتا لامر وكل على هذا معطوف على الساعة لا مبتدأ وقال ابن هشام: مبتدأ محذوف الخبر أي موجودا وعند الله أو واقع أو هو حكمة بالغة وما بينهما اعتراض وقول بعضهم الخبر مستقر وخفضه على الجوار حمل علي ما لم يثبت في العربية وقرأ ابو جعفر بفتح القاف مصدر ميمي على حذف مضاف أي ذو استقرار أو أسم مفعول على الحذف والايصال أي استقر عليه أو اسم مكان أو زمان على تقدير مضاف أي ذو موضع استقرار أو زمانه.