التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٩
-الحشر

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَالَّذِينَ تَبَوْءُوا الدَّارَ } أي توطنوا الدار أو هيأوها للمهاجرين وهي المدينة والذين مبتدأ خبر يحبون وقيل معطوف على المهاجرين وفيه ان المهاجرين نعت بل العطف على الفقراء مع انه يلزم من العطف الاعطاء للانصار.
{ وَالإِيمَانَ } عطف على الدار لتضمن التبوؤ التمكن واللزوم أي لزموا المدينة والايمان وتمكنوا فيهما وإلا فالايمان لا يتوطن ولم يهيأوه وقد يقال عطف على الدار بلا تأويل أي توطنوا الدار والايمان أو هيأوهما وتوطين الايمان مجاز وتوطين النار حقيقة لكن يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز واما التهيؤ فقيل انهم هيأوا الايمان قبل الهجرة لانهم بايعوه قبلها وقيل المراد تبوأوا دار الهجرة ودار الايمان قال: في الدار للعهد أو عوض عن المضاف اليه وحذف المضاف أو اراد بالايمان بالمدينة تسمية للمحل باسم الحال فانها محل له ولظهوره وقد قيل انهم بنوا المساجد قبل الهجرة بسنتين وقيل الواو واو المعية وقيل الايمان مفعول لمحذوف أي والفوا الايمان أو اخلصوه أو اعتقدوه واعترض ابن هشام كون الواو للمعية بعدم الفائدة في تقييد الانصار المعطوفين على المهاجرين بمصاحبة الايمان اذ هو امر معلوم.
{ مِن قَبْلِهِمْ } أي من قبل هجرتهم والضمير للمهاجرين وقيل من قبلهم معناه انهم سبقوهم في تبوؤ الدار دار الهجرة. { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } حتى انزلوهم في منازلهم وقاسموهم أموالهم ولا يستنقلوهم. { وَلا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ } انفسهم { حَاجَةً } قال الحسن: حسدا ومنه توجد الحزازة وهي حزازة القلب والغيظ وفسره بعض بالحزازة وتطلق الحاجة على طلب ما يحتاج اليه وعلى ما يحتاج اليه.
{ مِّمَّا أُوتُوا } أي مما اعطيه المهاجرون من الفىء وغيره { وَيُؤْثِرُونَ } يختارون المهاجرين وكونهم اشد منهم أثرا أي شدة أي فقرا { عَلَى أَنفُسِهِمْ } بالمال وغيره حتى انه ينزل واحدا عن زوجة من زوجتيه أو ازواجه وتتزوج المهاجر وهذا جائز.
{ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } محتاج الى ما يؤثرونهم به واصلها خصاصة البيت وهي فروجه والجملة حال وروي انه أهدى رأس شاة لانصاري فقال: ان اخي فلانا يعني المهاجر وعياله احوج مني فبعث اليه به فبعثها هو لآخر حتى تداولت سبعة بيوت ورجعت إلى الاول فنزلت الآية والايثار شاهد الحب قال الله:
"بعزتي وجلالي ما من عبد آثر هواي أي رضاي أو حبي على هواه إلا قللت همومه وجمعت عليه ضيعته ونزعت الفقر من قلبه وجعلته الغنى بين عينيه واتجرت له من وراء كل تاجر وعزتي وعظمتي ما من عبد اثر هواه على هواي إلا كثرت همومه وفرقت عليه ضيعته ونزعت الغنى من قلبه وجعلت الفقر بين عينيه ثم لا أبالي في أي واد هلك" .
"وجاء رجل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اني مجهود فارسل الى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا الماء فاقبل به الى كل واحدة فقلن كذلك فقال: من يضيفه يرحمه الله فقال ابو طلحة الانصاري: انا يا رسول الله فانطلق به فقال: لامرأته اعندك شيء فقالت: لا إلا قوت صبياني قال فعليهم بشيء أي إلههم ونوميهم فإذا دخل ضيفنا فتريه إنا نأكل فإذا هوى بيده ليأكل فقومي الى السياج كي تصليحه فاطفئيه ففعلت وأكل الضيف وباتا جائعين ولما اصبح غدا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد عجب الله من فعلكما البارحة أي عظمه" .
"ودعا صلى الله عليه وسلم الانصار ليقسم بينهم البحرين فقالوا: لا إلا ان تقطع لاخواننا المهاجرين مثلها قال: اما لا فاصبروا حتى تأتوني على الحوض" وعنه صلى الله عليه وسلم: "ان بدلاء مني لن يدخلوا الجنة كثرة صوم ولا صلاة انما دخلوها بسلامة الصدر وسخاوة النفس وحسن الخلق والرحمة لجميع المسلمين والايثار على النفس اكرم خلق" قال ابو زيد البسطامي "قدم علينا شاب من بلخ فقال لي: ما حد الزهد عندكم فقلت: إِذا وجدنا اكلنا وإذا فقدنا صبرنا فقال: هكذا عندنا كلاب بلخ فقلت: له وما هو عندكم فقال إذا فقدنا صبرنا وإذا وجدنا آثرنا وقال المهاجرون له صلى الله عليه وسلم ما رأينا قوما ابذل لكثير ولا احسن مواساة من قليل من قوم نزلنا بين اظهورهم لقد كفونا المؤونة واشركونا في الباقي حتى لقد حفنا ان يذهبوا بالاجر كله فقال صلى الله عليه وسلم: ما دعوتم الله لهم واثنيتم عليهم" .
{ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } أي يزح عنه الشح ويباعد ويحفظ منه والشح الحرص على المال حتى يمنع حقه ويبغض الانفاق او لا يعطي إلا خوفا قال الشاعر:

يمارس نفسا بين جنبيه كره اذا هم بالمعروف قالت له مهلا

اي منقبضة.
واضيف للنفس لانها عزيزة فيه والبخل نفس المنع وقد يترادفان وقيل: الشح البخل مع الحرص وعن بعضهم شحن النفس كثرة طمعها وضبطها على المال والرغبة فيه وامتداد الامل ويوق مجزوم بحذف الالف على الشرط والنائب مستتر وشح مفعول ثان.
{ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ } الفائزون بعصيان النفس لا غيرهم قال رجل لابن مسعود: اني اخاف أن أكون قد هلكت قال: وما ذاك قال اسمع الله يقول ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون وانا رجل شحيح لايكاد يخرج من يدي شيء قال ليس ذلك بالشح الذي ذكر الله في القرآن ولكن الشح ان تأكل مال اخيك ظلما ولكن ذلك البخل وبئس الشر البخل.
وعن ابن عمر ليس البخل الحرص الذي يحمل صاحبه على ارتكاب المحارم من اخذ حرام ومع ما يحرم منعه وهذا الشح وفي الحديث
"اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم" حملهم على ان سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم وفي الحديث "شر ما في الرجل شح هالك" أي شديد الجزع وجين خالع أي يخلع فؤاده لشدة خوفه وفي الحديث: "من أدى الزكاة المفروضة واقرىء الضيف واعطى النائبة فقدة بريء من الشح" قال ابن زيد: من لم يأخذ شيئا نهاه الله ولم يمنع شيئا امره باعطائه فقد وقي شح نفسه وقرىء بكسر القاف أي ومن يوقه الله من اوقي وقرىء بفتح الشين.