التفاسير

< >
عرض

وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا ٱضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُعْتَدِينَ
١١٩
-الأنعام

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ ومَا لكُم ألاَّ تأكلُوا ممَّا ذُكر اسْم اللهِ عليهِ } فإن المتحرجين عما ذبح باسم الله هم المشركون لا المؤمنون، أى أى شئ لكم من النفع أو الديانة الصحيحة فى أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، بأن ذبح مثلا، وذكر اسم الله، اللهم إلا أن يقال: المعنى وما لكم أيها المؤمنون ألا تقصروا أكلكم على ما ذكر اسم الله عليه، ولا تخلطوا معه أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، فإن مثل هذا قد يقال لمن لا يخلط معه، لكن أؤكد عليه بترك الخلط أو عرض بغيرهم كقوله: { { وما لى لا أعبد الذى فطرنى } وما مبتدأ استفهامية إنكارية وأن لا تأكلوا على تقدير الجار كما رأيت، وهذا أولى مما قيل: إن زائدة للتأكيد ناصبة، والجملة بعدها حال من الكاف، ولا يقدر الجار، ويدل لهذا الوجه الذى هو أن المعنى ما لكم أيها المؤمنون ألا تقصروا أكلكم على ما ذكر اسم الله عليه قوله:
{ وقَد فصَّل لكُم ما حرَّم عَليْكم } أى كيف لا تقصرون الأكل على ما ذكر عليه اسم الله، وتتركون ما حرم عليكم، وقد بينه الله لكم فلا عذر فى ترك الاقتصار، وأما على أن الخطاب فى ذلك كله للمشركين، فالمعنى كيف تتحرجون مما ذكر اسم الله عليه، وهو غير محرم، والمحرم هو ما فصَّل الله لكم تحريمه بقوله:
{ { حرمت عليكم الميتة } الخ فى المائدة، أو قوله فى الأنعام: { { قل لا أجد فيما أوحى إلىَّ محرماً } الخ نفى أن يقال كيف قال، وقد فصل، وهو عند قراءة الآية التى هنا لم يفصل، بل سيفصل بعد فى هذه السورة بقوله: { قل لا أجد } الخ أو سيفصل بعد الهجرة فى المائدة إذ هى مدنية من آخر ما نزل، فيجاب والله أعلم بأن المعنى قد فصل لكم فى اللوح المحفوظ، أو فى الغيب عنده، أو فيما سينزل من القرآن ما حرم عليكم فى ذلك أيضا، فلا يحل لكم أن تحرموا من عندكم شيئا أحلوا ما أحل الله، وانتظروا ما ينزل الله من الأحكام مطلقا، فمهما وجدتم فيها فاعملوا به.
أو يجاب بأن المعنى قد فصَّل لكم فى آخر هذه السورة ما حرم عليكم، فالسورة مضت وتمت عند الله ولو قبل نزولها، فصحت صيغة الماضى، وهذان الجوابان أحسن ما استخرجته بفكرى والماضى فيهما على أصله، وظهر لى وجه ثالث هو أن فصَّل بمعنى يفصل، أى وقد يفصل بعد عليكم، فالماضى بمعنى المضارع، وهذا وجه ثالث لى.
ووجه رابع أن الآية يحتمل أنها نزلت بعد نزول المائدة، وجعلت فى الأنعام بأمر الله، وأما ما فى تفسير من تقدم قبلى، فقال الفخر: المراد التفصيل لما حرم بقوله: { لا أجد } لقلة هذا التأخير، وهو مقدار تلاوة ما بين الآيتين، وتلاوة الأخيرة وإتمام السورة ومضيتها قبل نزول جبريل بها، وهذا والحمد لله بعض الأوجه التى ذكرت، لكن باعتبار قوله: وإتمام الخ، وقد حكيت كلامه بالمعنى.
وانظر هذا الوجه الذى أذكره الآن وهو أن ترتيب السو فى اللوح المحفوظ هو على ترتيبها فى المصحف، فالمائدة قبل سورة الأنعام فى اللوح المحفوظ، ولو تأخر نزولها عن الأنعام، فالمعنى باعتبار ترتيب اللوح المحفوظ والله أعلم، وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وابن كثير فصل بالبناء للمفعول، وغير نافع ويعقوب وحفص حرم بالبناء للفعول.
{ إلاَّ ما اضْطررْتم إليه } فإنه حلال أيضا ولو كان مما فصل لكم تحريمه بأن تشارفوا الموت أو ذهاب حاسة بالجوع ولم تجدوا سواه والذى اضطرهم هو الله، والفعل مبنى للمفعول وهو مفتعل من الضر، والطاء عن تاء، والاستثناء منقطع، أى لكن ما اضطررتم إليه يحل لكم، وما موصول اسمى أو نكرة منعوتة، ولا تصح أن تكون ما فى قوله: { ما حرم عليكم } حرف مصدر لضعف قولك: قد فصل لكم تحريمه عليكم، وهب أنه لا ضعف فيه، لكن لا يكون الاستثناء به متصلا ولو ضمنا الظرفية إلى مصدريتها، لأن المعنى حينئذ قد فصل لكم مدة التحريم عليكم، فإذا ضمت إليها الظرفية فالظرف مفعول، أو المفعول الأشياء محذوفا، أى قد فصل لكم الأشياء التى حرم عليكم مدة تحريمها، وليس ما اضروا إليه زماناً فيكون مستثنى من المدة استثناء متصلا.
نعم رأيت بعض المتأخرين من الترك، حاول الاستثناء المتصل بأن جعل ما فى قوله تعالى: { ما حرم عليكم } اسماً وما فى قوله: { ما اضطررتم } ظرفية مصدرية، والظرف مستثنى استثناء متصلا من ظرف المحذوف، أى وفصل لكم ما حرم عليكم فى جميع الأوقات إلا وقت اضطراركم إليه، وهذا إنما يتم له على قول ابن الحاجب بجواز حذف الظرف المستثنى فى التفريع تسميته حال الإثبات، وفى تسميتها ظرفية مصدرية فى الآية، لأنها ليست ظرفية، بل المصدر هو ظرف الزمان لنيابته عن اسم الزمان، وإنما يقال: الظرفية إذا كان المعنى بأدام كذا سواء مع لفظ الدوام أو غيره، لكن سماها ظرفية، لأن المصدر المشتبك بها نائب عن الظرف، وذكر أيضا وجها آخر للأشياء المتصل، على أن ما فى الموضعين اسم، وأن معنى ما حرم هو الميتة والدم ونحوهما تعتبر هذه الأشياء بقطع النظر عن تحريمها، فيدخل فيها ما اضطررتم إليه.
{ وإن كثيراً ليضلُّونَ } فى أنفسهم بتحليل الحرام، وتحريم الحلال، وقراءة الكوفيين بضم الباء أى يضلون غيرهم { بأهوائهم } بتشبيههم فإنهم يحللون ويحرمون بأهوائهم كتحليل الميتة، وتحريم ما ذبح باسم الله والبحيرة ونحوها، فتقديرى بتحليل قبل بأهوائهم تقدير معنى، وإن شئت فقدر بتشريع أهوائهم الحلال والحرام.
{ بغَيْرِ علمٍ } بدل اشتمال من بأهوائهم أو متعلق بأهوائهم لتأكيد لأنهم يتشبهون بغير علم يجيئهم من الله أن هذا حلال أو حرام أو بغير دليل يفيد العلم، أو حال من أهواء، ومن الهاء أو من الواو مؤكدة، ووجه التأكيد أن العمل بالهواء مجرد عن علم، وإنما يقال: وافق الحق الهوى، إذا وافق لا عمل بهوى، ووافق الحق، وهذا حيث وافق { إنَّ ربَّك هو أعْلم } من غيره { بالمعْتَدِين } المجاوزين الحق إلى الباطل، ثم رأيت القاضى قال: المجاوزين الحق إلى الباطل، والحلال إلى الحرام.