التفاسير

< >
عرض

أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٢٢
-الأنعام

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ أوَ مَن كانَ مَيْتاً } شبيهاً بميت فى عدم الانتفاع لنفسه، وعدم تخليص نفسه من المهالك، وذلك مخلو قلبه عما هو كالحياة وهو الإيمان، وتشديد الباء قراءة نافع ويعقوب، وقرأ غيرهما بإسكانها { فأحْييْناه } أزلنا ما فى قلبه من الشرك الشبيه بالموت بالتوفيق للإيمان { وجَعَلنا لهُ نوراً } دلائل وبراهين توصله إلى الإيمان شبهية بالنور الذى يهتدى به إلى المطالب { يمْشِى بهِ فى النَّاسِ } يميز به أعنى بذلك النور بين الضلال والرشاد تميزا شبيهاً بمشى من يمشى فى الناس ذاهباً وراجعاً بينهم فى مصالحه.
{ كَمن مثلُه فى الظُّلمات } أى صفته الغريبة الشبيهة بالمثل فى الغرابة فى الظلمات مثله مبتدأ، وفى الظلمات خبره، وكمن خبر من الأولى، والهمزة مما بعد الواو أو داخلة على محذوف، ومعنى كون صفته فى الظلمات أنه مغمور بالظلمات غارق فيها، لا يجد طريقاً ولا يتيسر له التصرف فى مصالحه، والخروج عن المضار، وذلك هو إشراكه ومعاصيه الشبيهة بذلك، ويجوز فإنه بهاء بإشراكه لا ينجو من الشر ولا يفوز بالخير، ومن أجاز زيادة الأسماء قال مثل مفخم، والأصل كمن هو فى الظلمات.
{ لَيسَ بخَارجٍ منْها } الجملة حال من المستتر فى قوله: { فى الظلمات } حال كونه مقيماً فيها لا يفارقها، أى ليس بخارج من الظلمات، أى من الضلالات، وليست الجملة حالا من هاء مثله، ولو كان المضاف كجزء المضاف إليه هنا للفصل بالخبر، ومجموع قوله: { من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشى به فى الناس } استعارة مركبة كما رأيت بيان إفرادها ولا يشكل معى ذلك ذكر أداة التشبيه فى قوله: { كمن مثله فى الظلمات } لأن هذا لفظ آخر خارج عن تلك الاستعارة.
وقيل: النور نور يوم القيامة الذى أمام المؤمن والظلمات ظلمات يوم القيامة أمام الكافر، وقال قتادة: النور القرآن، والظلمات الجهل، وعلى كل حال المراد لتمثيل المؤمن والكافر عموماً، وهو ظاهر متبادر، وبه قال الحسن وغيره، وعن ابن عباس: { من كان ميتاً فأحييناه } حمزة عم النبى صلى الله عليه وسلم { ومن مثله فى الظلمات } أبو جهل لعنه الله، رجع حمزة رضى الله عنه من الصيد، ودخل المسجد ليطوف وكانت عادته إذا رجع منه أن يطوف قيل أن يدخل بيته، فأخبر بسبّ أبى جهل لعنه الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليه غضبان يضربه بقوسه، فجعل أبو جهل يتضرع ويقول: يا أبا يعلى ألا ترى ما جاء به سفَّه عقولنا، وسب آلهتنا، وخالف آباءنا، فقال حمزة: ومن أسفه منكم عقولا، تعبدون الحجارة من دون الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فحينئذ أسلم حمزة فنزلت سورة الأنعام جملة وفيها هذه الآية فى شأنه، وهذا الإيضاح منى.
قال ابن إسحاق: حدثنى رجل من اسلم كان واعية أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا فآذاه وشتمه ونال منه ما يكره، فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هناك مولاة لعبد الله بن جدعان فى مسكن لها تسمع ذلك، ثم انصرف عنه فعمد إلى نادى قريش عند الكعبة فجلس معهم، فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحاً قوسه، راجعاً من قفص أى صيد، وكان صاحب قنص يرمى ويخرج له، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على نادٍ من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعز فتى فى قريش، وأشد شكيمة، فلما مر بالمولاة وقد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته قالت: يا أبا عمارة لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد آنفاً من أبى الحكم بن هشام، وجده هنا جالساً، فآذاه وسبه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه، ولم يكلمه محمد، فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامة، وخرج يسعى لم يقف على أحد، معداً لأبى جهل إذا لقيه أن يقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا فى القوم، فأقبل نحوه حتى وقف عليه، فرفع قوسه فضربه فشجه شجة منكرة، ثم قال: أتشتمه فأنا على دينه أقول ما يقول، فرد ذلك علىَّ إن استطعت.
فقام رجال بنى مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل لعنه الله: دعوا أبا عمارة فإنى والله قد سببت بن أخيه فدام حمزة على إسلامه ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفى رواية غير ابن إسحاق أن حمزة قال: لما احتملوا الغضب فقلت أنا على قوله ركبنى الندم على فراق دين آبائى وقومى، وبت من الشك أمر عظيم، فما استتممت دعائى حتى زاح عنى الباطل، وامتلأ قلبى يقيناً، فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بما كان من أمرى، فدعا لى بأن يثبتنى الله، وقال رضى الله عنه حين أسلم:

حمدت الله حين هدى فؤادى إلى الإسلام والدين الحنيف
لدين جاء من رب عزيز خبير بالعباد بهم لطيف
إذا تليت رسائله علينا تحدر دمع ذى اللب الحصيف
رسائل جاء أحمد من هداها بآيات مبينة الحروف
وأحمد مصطفى فينا مطاع فلا تغشوه بالقول العنيف
فلا والله نسلمه لقوم ولما نقض فيهم بالسيوف
وتترك فيهم قتلى بقاع عليها الطير كالورد العكوف
وقد خبرت ما صنعت ثقيف به فجزى القبائل من ثقيف

وقال الضحاك: "نزلت الآية فى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وأبى جهل لعنه الله، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم أيد الإسلام بأحد العمرين" يعنى عمرو بن هشام أبا جهل، وعمر بن الخطاب رضى الله عنه، فأيده الله عز وجل به.
وقال عكرمة والكلبى: فى عمار بن ياسر رضى الله عنه وأبى جهل، وقال مقاتل بن سليمان: نزلت فى النبى صلى الله عليه وسلم وأبى جهل لعنه الله، وذلك أن أبا جهل قال: زاحمنا بنو عبد مناف فى الشرف حتى إذا صرنا نحن وهم كفرسى رهان قالوا منَّا نبى يوحى إليه، والله لا نؤمن إلا أن يأتينا وحى كما يأتيه، فنزلت الآية، ومعنى نزول الآية فى ذلك على هذه الأقوال نزول الأنعام وفيه هذه الآية فى هذا الشأن، والصحيح عموم الآية فتلمح بعمومها إلى هذه الأفراد المدعى نزه لها فيها، والله أعلم.
{ كَذلكَ زُيِّن للكافرِين ما كانُوا يعْمَلون } كما زين للمؤمنين ما كانوا يعملون من الإيمان، زين للكافرين ما كانوا يعملون من الكفر المزين للكفر بالله تعالى، بمعنى أنه خذلهم أو الشيطان بمعنى أنه وسوس لهم، وتزيين الله الإيمان توفيقه للمؤمنين إليه.