التفاسير

< >
عرض

قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ قَتَلُوۤاْ أَوْلَٰدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ ٱفْتِرَآءً عَلَى ٱللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
١٤٠
-الأنعام

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ قَد خَسر الَّذينَ قَتَلُوا } وقرأ ابن كثير وابن عامر بتشديد التاء للتكثير، لأن الموءودات كثيرات لا للتعظيم، لأن القتل لا يتفاوت، اللهم إلا أن يعتبر بما زاد تعذيباً ولا يحتمل الحياة { أولادَهُم سَفهاً بغَيْر علمٍ } سفهاً مفعول مطلق لخسر، لأن السفه خسران، أو لمحذوف أى سفهوا سفها، والجملة بدل من الأولى بدل مطابق، أو سفها مفعول لأجله ناصبه خسر، أو حال أى ذوى سفه أو سفهاء أو هم سفهاء مبالغة، ويدل للحال قراءة بعضهم سفهاء جمع سفيه، وبغير علم نعت سفهاء، والسفه خفة العقل والجهل، ويجوز إطلاقه على الخسران، لأن الخفة والجهل سبب للخسران، والمراد الذين يقتلون بناتهم مخافة أن لا تزوج فى التزوج إن كانت ذميمة، أو مخافة الفقر والسبى أو الغيرة بشئ تأتيه، وربما أخذت أحدهم الغيرة أن توطأ ابنته.
والمذكور فى القرآن القتل خوف الفقر لقوله تعالى: { من إملاق } وصفهم الله بالخسران إذ خسروا الجنة، وخسروا أولادهم، وهم نعمة من الله لهم فى النفع، وزيادة العدد، وصفهم بالسفه إذ جهلوا لأنهم آكلون للرزق لا رازقون، فرزقهم وزرقهن عند الله، وكان قتل البنات فى ربيعة ومضر، وجمهور العرب لا يفعلون ذلك، وقيل فى ربيعة ومضر وبعض العرب، وكان أيضا فى بعض غير العرب، وكانوا يقتلونهن بالدفن وبالإلقاء فى بئر بعيدة القعر، وقد تفعل المرأة ذلك بقهر زوجها لها على ذلك بالظهار، وذلك عندما تلدها، وظل وجهه مسوداً، تلدها مثلا فى العدو، فيقول لزوجته الوالدة لها: أنت علىَّ كظهر أمى إن رجعت فى الزواج ولم تئديها، فتحفر لها حفرة فترسل إلى نسائها فيجتمعن عندها، ثم يتداولنها بينهن، فإذا أبصرنه راجعا دستها فى حفرتها وسوت عليها التراب.
وروى أنه
"كان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال مغتما بين يديه، فقال صلى الله عليه وسلم: مالك تكون مخزونا؟ فقال: يا رسول الله إنى قد أذنبت ذنباً فأخاف أن لا يغفر لى وإن أسلمت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبرنى عن ذنبك فقال: يا رسول الله إنى كنت من الذين يقتلون بناتهم، فولدت لى بنت فشفعت إلىَّ امرأتى أن أتركها فتركتها حتى كبرت وأدركت وصارت من أجمل النساء، فخطبوها فدخلت على الحمية فلم يحملنى قلبى على أن أزوجها أو أتركها فى البيت بلا زوج، فقلت للمرأة: إنى أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا فى زيارة أقاربى فابعثيها معى، فسرت بذلك وزينتها بالثياب والحلى، وأخذت علىَّ المواثيق بأن لا أخونها، فذهبت بها إلى رأس بئر فنظرت فى البئر ففطنت الجارية أنى أريد أن ألقيها فى البئر، فالتزمتنى، يعنى التصقت بى تضرعاً كالمصافح المعانق، وجعلت تبكى وتقول: يا أبتى أى شئ تريد أن تفعل بى، فرحمتها ثم نظرت فى البئر فدخلت على الحمية فالتزمتنى وجعلت تقول: يا أبتى لا تضيع أمانة أمى، فجعلتُ مرة أنظر إلى البئر، ومرة أنظر إليها فأرحمها، فغلبنى الشيطان فأخذتها فألقيتها فى البئر منكوسة وهى تنادى فى البئر يا أبى قتلتنى، فمكثت هناك حتى انقطع صوتها، فرجعت، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال: لو أمرت أن أعاقب أحداً بما فعل فى الجاهلية لعاقبتك بما فعلت" وكانوا يقولون للملائكة: بنات الله، فألحقوا البنات به، فكانوا يقتلون إلحاقا به بالموت.
{ وَحرَّموا ما رَزقهُم اللهُ } من الحوامى والسوائب والبحائر والوصائل، ونصيب الأصنام من الحرث والأنعام { افْتراءً عَلى اللهِ } إذ قالوا: حرمها الله وهو مفعول مطلق للتحريم، لأنه منه أو تعليل له أو حال، أى ذوى افتراء أو مفترين، أو نفس افتراء مبالغة { قَد ضلُّوا } عن الحق فى ذلك { وما كانُوا مُهْتدينَ } فيه إلى الحق، أو ضلوا بذلك وليسوا قبله بمهتدين.
قال ابن عباس: من أراد أن يعلم جهالة العرب فليقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام: { قد خسر الذين قتلوا } إلى { وما كانوا مهتدين } ذمهم الله جل وعلا بالخسران والسفاهة وعدم العلم، أو تحريم ما رزقهم الله، والافتراء على الله والضلال وعدم الاهتداء.