التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلإِبْلِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ ٱثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلأُنْثَيَيْنِ أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ ٱلأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّٰكُمُ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ
١٤٤
-الأنعام

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ ومِنَ الإبِل اثْنيْن } جملا وناقة { ومِنَ البَقَر اثْنيْن } ذكراً وأنثى { قُلْ آالذَّكريْن } ذكر الإبل وذكر البقر { حَرَّمَ } أى أحرم الذكرين فقط { أم الأُنثَيَيْن } فقط أنثى الإبل وأنثى البقر، وأنت خبير أن الأنثيين فى الموضعين جاء على معنى الحصر، إذ عطف على المحصور فيه وأريد فيه الحصر، ولو تأخر إذ عطف على محصور فيه للتقديم ولا حصر فى أمَّا اشتملت الخ، لأن فيه الذكر والأنثى جميعا، من النوعين وكذا فى قوله: { أمَّا اشْتَملت عليْه أرْحام الأنْثَيَيْنِ } أنثى الإبل وأنثى البقر، أى أم حرم ما فى رحم الناقة من ناقة وجمل، وحرم ما فى رحم البقرة من ذكر وأنثى، لا تجدون الله حرم شيئا من ذلك، سواء أكان على حال ما تحرمون أم لم يكن، ولا حجة عقل صحيح، بل الله أمر بالانتفاع بذلك كما حد وأمر بالشفقة على ذلك كله وعلى غيره، ونهى عن مجاوزة الحد فيه بقدر ما لا تطيق، وعن تعذيبها، وشق أذنها، تعذيب بلا فائدة، وإهمالها إضرار لها، فقد تجوع أو تعطش، ولا تهتدى إلى مرعى أو ماء، كما قال فى عدم دليل من الله على جواز ذلك.
{ أمْ كُنتُم شُهداءَ إذ وصَّاكم اللهُ بهَذا } بهذا الذى تفعلونه من تحريم بعض الإبل والبقر، وهذا نظير قوله:
{ { نبئونى بعلم إن كنتم صادقين } والتحريم فى الموضعين شاهد للتحريم المطلق، وللتحريم على النساء فقط، على حسب ما مر من التفصيل فى تحريمهم، وأم فى هذا الأخير وحده بمعنى بل وهمزة الإنكار، أى بل كنتم شهداء أى حاضرين حين وصى الله بتحريم بعض الإبل والبقر، فإن الحجة العقلية الصحيحة غير موجودة فى ذلك، ولا وحى لكم فى ذلك، بل قد أنكرتم الوحى فلم يبق إلا شاهدة التوصية من الله، ولا توصية بذلك من الله.
ولقد فرغت وسعى فى إيضاح الآية وهو ما رأيت ووافقت فيه بعض ما قيل قبلى، والحمد لله، ومحصل ذلك أن الله عز وجل قال: من أين لكم، إنما تجعلون الشئ به بحيرة أو وصيلة أو نحو ذلك، وما تجعلونه نصيبا للأصنام حرام لا حجة لكم فى ذلك، وزاد الفخر وجهاً آخر وهو أن الأنعام أربعة كما ذكر الله، فلم خصصتم البحيرة والوصيلة والسائبة والحامى بالإبل، أو هذا على القول بأنهم جعلوا ذلك الإبل فقط.
وأما ما ذكروا من
"أن مالك بن عوف الجشمى وهو خطيبهم قال: يا محمد بلغنا أنك تحرم أشياء كان أباؤنا يفعلونها؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: قد حرمتم أصنافاً من النعم على غير أصل وإنما خلق الله الأزواج الثمانية للأكل والانتفاع بها فمن أين جاء هذا التحريم؟ مِنْ قِبَل الذكر أم من قبل الأنثى؟ فسكت مالك بن عوف وتحير ولم يتكلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك يا مالك ألا تتكلم؟ قال: بل أنت تتكلم وأسمع منك، فارجع إلى ما فسرناها به من أنهم لا يجدون التحريم عن الله فى الذكر من ذلك، ولا فى الأنثى ولا فيهما، أى لا يجدون الله حرمها من قبل إنها ذكور أو إناث" .
فقوله: "أمن قِبَل الذكر" هو معنى قوله تعالى: { قل آ الذكرين } وقوله: { أم من قِبَل الأنثى } راجع لقوله: { أم الأنثيين } وذلك فى الموضعين، فإنه لو كان الذكر محرما لقيل جاء التحريم من قبل الذكر أى من جهته، إذ حرم هو لا الأنثى، ولو كان الأنثى محرمة لقيل: جاء التحريم من قبل الأنثى أى من جهتها إذ حرمت هى الذكر، فقط علمت أن قوله: "من قِبَل الذكر" ليسه تعليلا بالذكورة، وكذا قوله: "من قِبلَ الأنثى" ليس تعليلا بالأنوثة لا كما قال عامة من تقدمنى من المفسرين من أن ذلك تعليل للتحريم بسبب الذكورة فيحرم كل ذكر من الأنعام، أو الأنوثة فيحرم كل أنثى من الأنعام، إذ لو كان ذلك لجاء لهم الجواب سهلا بأن يقولوا: ليس بالأنوثة والذكورة، بل لكون الجمل قد جاء من صلبه عشرة أبطن، ولكون الناقة كان منها خمسة أبطن، وغير ذلك مما يجعلون به الأنعام وصيلة أو سائبة على ما مر هذا ما ظهر لى فى تحريم المقام، وإذا دخل ذلك البيان من الله أسماعكم.
{ فَمنْ أظْلم ممَّن افْترَى عَلى اللهِ كذباً } مَّا فيدخل فيه ذلك الكذب الذى هو نسبة تحريم تلك المحرمات إلى الله، أو أريد ذلك الكذب فقط هنا، ونكر تعظيما فى شأنه أو تحقيرا فى أنه لا يخفى بطلانه عن عاقل ترك التقليد، والاستفهام للنفى، والمراد بمن افترى على الله كذباً كل من قرأ عليه نحو فى البحيرة ونصيب الصنم أو غير ذلك، أو من افترى ذلك من كبرائهم وأقره، وقيل: المراد عمرو بن لحى بن قمعة، وهو أول من غير دين إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وبحر البحائر، وسيَّب السوائب، وفعل أمثال ذلك، والتعميم أولى.
{ ليُضلَّ الناسَ } عن الحق { بغيْر علمٍ } متعلق بيضل، أى يجهل أو حال من المستتر فى يضل، أى ثابتاً بغير علم، أو يجعل الحال كون حاضر أى ملتبسا بغير علم { إنَّ الله لا يهْدِى القومَ الظَّالمينَ } أى لا يهديهم، أى لا يهدى من افترى عليه، أو هؤلاء الكفرة من قريش أى لا يوفقهم فوضع الظاهر موضع المضمر ليصفهم بالظلم، أو لا يهدى الظالمين مطلقا، وفسر المعتزلة الهداية هنا بالهداية إلى الثواب، ولست أعنى أنه لو قال: لا يهديهم لم يكل سبيل إلى وصفهم بالظلم، لجواز مجئ الحال منه، أى لا يهديهم، بل المراد ترك الاقتصار على الإضمار لا لذلك أنه لا يوجد الوصف بالشئ إلا مع تركه، قيل: قالوا: فما المحرم؟ فنزل الأنعام وفيها قوله: