التفاسير

< >
عرض

قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٤٥
-الأنعام

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ قُلْ لا أجدُ فِيما أوحىَ إلىَّ محرَّماً } أى حيواناً محرما الآن { عَلى طاعمٍ } آكل { يطْعَمه } يأكله { إلا أن يكون } الحيوان { ميتةً } بأن زالت حياته بغير ذكاة شرعية، ودخلت فيه: الموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إن لم تدرك حياته، وإنما قدرت حيوانا محرما وقد قدر غيرى إلا أن يكون الطعام، لأن معظم الكلام فى الحيوان، والكلام المتصل به هو الحيوان ثمانية الأزواج، فلا يشكل ما حرم من غير ذلك كالطعام والشراب الذى نجس، وكمال الناس، وما يؤخذ فى المعصية من الزنى والكهانة، وخرج بقولى: الآن ما حرم بعد ذلك كذى مخلب، وذى ناب من السباع، والحمر الأهلية، قيل: والهدهد والنملة والصرد والضفدع والنحلة، فإنها حرمت بعد.
وأما الخمر والربا فخرجا بذكر الحيوان فى التقدير، وأيضا إنما حرما فى المدينة فلم تشكل الآية، ولما ذكر أبو داود عن ابن عباس أنه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: النملة والنحلة والهدهد والصرد، أخذ منه بعض العلماء كالخازن تحريم أكلهن ومثلهن الضفدع، وقيل: المراد بالنهى عن قتلهن إنما هو قتلهن إفساداً أما الأوليان فلا فائدة فى قتلهما أصلا، وأما الهدهد والصرد والضفدع فيجوز ذبحهن للأكل والمنفعة، والأول أحوط، ويقال: لو كان التمسك لتحريم القتل حجة تحريم اللحم ولو مع ذبح لكان الأمر بالقتل حجة فى تحليل اللحم، فيلزم أن يحل لحم الفواسق: الحية والعقرب والفأر والحدأة والعنكبوت والوزع والكلب العقور والغراب، وفيهن خلاف، وفى ذات المخالب والأنياب والحمير الأهلية، وذوات السموم، وما يستقذر فقيل: مكروه، وقيل: حرام، وقيل: حلال.
وعن ابن عباس: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تعذراً، فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وأنزل كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو وتلا: { قل لا أجد فيما أوحى إلىَّ } الآية، نهى عن أكل كل ذى ناب من السباع، وكل ذى مخلب من الطير، ونهى يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية وألبانها وأذن فى الخيل، ونهى عن أكل الهر وأكل ثمنه، وقيل: النهى فى ذلك بالتحريم، وقيل: بالكراهية، وقيل: منع من الحمر الأهلية يومئذ، وليحمل على ظهرها، وحرمها لذلك، وحلت بعده، وقيل: حرمها لأنها لم تخمس وقال:
"ألا لا يبلغن أحدكم عنى حديثا وهو شبعان متكئ على أريكته فيقول: الحلال ما حلل القرآن والحرام ما حرمه، وما لم يذكر فيه حل، إلا أنى أوتيت القرآن ومثله معه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلى، ولا كل ذى ناب من السباع، ولا لقطة معاهد إلا ان يستغنى عنها صاحبها، ومن نزل بقوم ولم يقروه فله أن يأخذ منهم مثل قراه" .
فقيل: أراد أيضا بقوله: لا يحل الكراهة والظاهر التحريم، وما ثبت تحريمه بعد نزول الآية لا يشكل، كما علمت أن المعنى { لا أجد الآن فيما أوحى } الآية، وقد يقال أيضا: الحصر فى الآية إضافى منظور فيه إلى ما حرموه من البحيرة، وما يذكر معها، فالحصر إخراج لها لا لغيرها، ويقوى هذا التأويل قوله فى البقرة: { { إنما حرم عليكم } الآية، ومثله فى المائدة، وهما مدنيتان، بل المائدة من آخر ما نزل، وقد ورد فى السنة تحريم أشياء على الظاهر، كذى مخلب وذى ناب من الوحش قبل نزول المائدة، بل نزلت الأعراف فى مكة وفيها: { { ويحرم عليهم الخبائث } فقيل: الخبائث ما استقذره غالب العرب، وعد بعض منها الضفدع، وقيل: الخبائث الميتة وما ذكر معها، وأما النحل فمكية، وفيها: { { إنما حرم عليكم الميتة } الآية وقال أيضا فى النحل بآية أخرى على ما فى الأنعام، والأظهر التأويل فى الكل بأن المراد بالحصر إخراج ما حرموه عن التحريم، والتقبيح عليهم بنحو قوله: { { تصف ألسنتهم الكذب } ويبعد القول بنسخ عموم الآيات بخبر واحد فى نحو: ذى مخلب وذى ناب، وفى بعض الرواية كل ذى ناب من السباع، وذى مخلب من الطير حرام.
وذكر بعض إنما ورد من التحريم، واضربت فيه ألفاظ الحديث، واختلفت فيه الأمة مع ذلك كذى ناب، فوجه الحكم أن التحريم قد يسوغ فى الكراهية، وما لم تضطرب فيه التحق بالخنزير، وقرأ حمزة وابن كثير: "إلا أن تكون ميتة" بتاء التأنيث، ولو عاد اسم الكون لمذكر، لأن الخبر مؤنث، فجاز التأنيث، وقرأ ابن عامر: "إلا أن يكون ميتة" بالتحتية ورفع ميتة على الفاعلية، ولا خبر له، ثم إن الاستثناء منقطع فى جميع تلك القرآت فلا تغفل، لأن المستثنى الكون، وليس الكون حيوانا ولا طعاما، وتباح المبولة ولو لم تغسل، ودم القلب وحياء الناقة نحوها، والذكر ولو طرفه خارجا، وكل ما يكره من الذبيحة بهذه الآية، وكان محمد بن الحنفية إذا سئل عن ذلك قرأ الآية، وكان صلى الله عليه وسلم يكره حياء الناقة ونحوها، ومسائل المبولة ودم القمل مشهورة فى الفقه.
{ أو دَماً مسْفوحاً } مصبوبا من محله، وكانت العرب تشويه وتأكله، فحرمه الله عز وجل، وهو من الطعام فشمله الطعام فى قوله: { إلا أن يكون } أى الطعام، وعلى أن يكون المعنى إلا أن يكون الحيوان فلا إشكال على أن المراد بحيوان ما فيه حياة، سواء كان حيوانا مستقلا أو حيوانا غير مستقل كالدم، فإنه فى محاله حى، أو يقدر إلا أن يكون الحيوان أو نحوه ميتة، فدخل بقولى: ونحوه الدم، وخرج بالمسفوح الكبد والطحال، فإنهما دم حلال الأكل كالجراد والسمك ميتتان يحل أكلهما، وحل دم العروق كما قال أبو مخلة وعكرمة وإبراهيم النخعى وغيرهم، ولو كان نجسا حراما لوجب تتبعه من العروق فى اللحم الكون فى جميع القرآت كما مرّ، ومتصلا بالنسبة إلى الدم فى قراءة رفع ميتة على الحكم بأنه حيوان، ومنقطعا بالنسبة إلى الدم فى قراءة رفع ميتة على الحكم بأنه حيوان، ومنقطعا بالنسبة إلى الدم على الحكم بأنه غير حيوان وهو الظاهر، ومتصلا بالنسبة إلى لحم وفسقا، فى قراءة رفع ميتة، وأما فى قراءة نصبه فهو فى الكل منقطع.
{ اوْ لمَ خِنْزيرٍ فإنَّه } أى لأن الخنزير كله لحمه وشحمه وشعره وجلده وجميع أجزائه { رجْسٌ } نجس حرام الأكل والثمن، وخص اللحم أولا بالذكر لأنه معظم ما يقصد، فحرم لحمه أولا، وحرمه كله ثانيا، ويجوز أن يكون الهاء للحم لأنه المقصود، فإذا حرم اللحم تبعه غيره فى الحرمة، فالحل والحرمة يضافان للحم أصالة ولغيره تبعاً، لا كما زعم بعض أن الهاء للحم، وأن غير اللحم من شحم وجلد وشعر وعظم وعصب حلال، واحتج بأن الضمير لأقرب مذكور، ويعترض بأن هذا فى غير المضاف إليه، لأن الأصل فى الضمير أن يعود إلى المضاف لا إلى المضاف إلى، ومن حجج عوده إلى المضاف إليه هنا هو قيام الدليل على حرمته كله كقوله صلى الله عليه وسلم:
"بعثت بقتل الخنزير" فلو كانت الذكاة تؤثر فى شئ منه لم يهدره كله، وفى السؤالات: وإن أكل الدم وهو جامد أو الميتة وهى ممدودة أو ميتة الخنزير فقد هلك، لأنهم قالوا: لا ينفعه ذلك كل هذا الوصف والخنزير يقطع منه ويشوى ولا يذبح، وقيل: يذبح، قال أبو محمد النصيرىرحمه الله : قال بعضهم: يجوز أن يأكل ميتة الخنزير بالمخمصة.
{ أو فسْقاً } عطف على ميتة أو لحم أى دابة من الأنعام فسق بها أى خرج بها ذابحها عن دين الله لذبحه لها للصنم وسماه فسقاً مبالغة كأنها نفس الخروج عن دين الله، أو يقدر مضاف، أى ذات فسق، أى آلة فسق بها ذابحها لغير الله بذبحها لغيره، أو بمعنى مفعول أى مفسوقا بها إذا ذبحت لغير الله تعالى وقوله.
{ أهِلَّ لغَير اللهِ بهِ } نعت فسقاً، والهاء عائدة إليه رابطة، ويجوز أن يكون فسقا باقيا على المعنى المصدرى، فيكون مفعولا لأجله وناصبه أهِلَّ فيكون جملة أهِلَّ لغير الله معطوفة على يكون، فتكون الهاء عائدة إلى ما عاد إليه ضمير يكون، أى إلا أن يكون ميتة أو أهلَّ به لغير الله لأجل الفسق، ومعنى أهلّ به لغير الله رفع الصوت به لغير الله عند ذبحه، وكانوا يقولون: باسم اللات أو العزى أو نحوها، ومر كلام على ذلك فى المائدة.
{ فمن اضْطرَّ } إلى الأكل من الميتة وما بعدها لشدة جوعه مع فقد حلال يأكله، أو لشوقه إليه بأن يكون حاملا تشتهى شيئا إن لم تأكله أسقطت وهذا زدته من خارج، ولفظ الآية صالح له بالعموم، لكن الآية الأخرى المماثلة لها قد ذكرت المخمصة فيها، فيكون نتيجتها بذلك داخلا فى هذا العموم أو مقيساً على المخمصة وهى أحق بالنتيجة من مقهور بالسيف على الأكل، فالمذهب عندنا أنه لا يأكل، لأن شدة اشتهائها نوع من جوع البطن فهى أقرب إلى المخمصة، قال عبد الله ابن عون: دخلت على الحسن فإذا عنده كتاب فقال: هذا كتاب سمرة لولده، فإذا فيه يجزى من الضرورة أو من الضارورة صبوح وغبوق.
{ غَيْر باغٍ } فى اضطراره، فخرج لمن بغى على مضطر مثله فنزع منه ذلك، أو منعه عنه ولمن سافر فى معصية { ولا عادٍ } اسم فاعل عدا يعدو بمعنى جاوز الحد، أو مجاوز للحد فى أكله بأن أكله أكثر مما يمسك رمقه، وتقدم كلام فى ذلك، أو المعنى مجاوز الحلال الموجود عنده إلى ذلك { فإنَّ ربَّك غَفورٌ } لأكله { رَحيمٌ } به إذ أباح له ذلك، أعنى أنه لم يبقه على التحريم كما يتوهم لو لم يجز الله تعالى ذلك، ولا أعنى أنه يجوز له أيضا ترك الأكل، فإن الأكل واجب منه ذلك. قال بعض السلف: من اضطر فلم يأكل ولم يشرب ومات دخل النار.