التفاسير

< >
عرض

سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ
١٤٨
-الأنعام

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ سيقُولُ الَّذينَ أشْركوا } مشركو قريش والعرب { لو شَاءَ اللهُ } أن لا نشرك نحن وآباؤنا ولا نحرم شيئا { ما أشْرَكْنا ولا آباؤنا } شيئا بالله تعالى، وعطف آباؤنا على الضمير المرفوع المتصل لفصله بلا { ولا حَرَّمْنا } نحن وهم، فهذا الضمير لهم ولآبائهم { مِنْ شئٍ } أى شيئا كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامى.
ووجه احتجاجهم اغترارهم برحمة الله بالإمهال فقالوا: لو كان الله ما شاء إشراكنا وتحريمنا لم يمهلنا، بل يعجل بإهلاكنا، فالمشيئة فى هذا الوجه فى كلامهم بمعنى الإباحة، ويجوز أن يكون وجه احتجاجهم أنهم جعلوا قضاء الله إجباراً وسلبوا عن أنفسهم الاختيار، أى هو الذى قضى علينا بالإشراك والتحريم، فكيف تخرج عما قضاه علينا؟ فهم فى هذا الوجه قدرية إجبار لما أشركنا وحرمنا علمنا أن الله أجبرنا على ذلك، ولو شاء الله أن يجبرنا على ترك الإشراك والتحريم لفعل فلم نشرك ولم نحرم فلا عقاب علينا، أو إنَّا على حق لا على باطل، ولو كنا على باطل لأزالنا عنه، فهذه الآية رد على المجبرة المشركين وغير المشركين كالمعتزلة.
والجواب: ان الله شاء كفر الكافرين ومعصيتهم بمعنى قضاها وخلقها، وفعلوا هم باختيارهم، ولولا ذلك لما أمر ونهى بالوحى والكتب والأنبياء والرسل، وأثاب وعاقب ومدح وذم، وكلهم يقرون بذلك فى الجملة، ولو أنكر المشركون القرآن والله تعالى مريد لجميع الكائنات، وشاء لها ولا عذر لأحد فى إرادة الله تعالى ومشيئته، وإنما قدرت مفعول شرط أو من جنس الجواب، لأن ذلك هو الغالب فيها، ولم أحتج إلى تقديره بالرضا مع ذلك لما علمت من أن شاء فى كلامهم بمعنى أباح وهو نفس الرضا، أو من أنهم يثبتون المشيئة بمعنى الإجبار، والله عز وجل عاب عليهم ما زعموا من ذلك، فتحمل من عيبه إياهم على ذلك أنه لم يبح الإشراك والتحريم، أو لم يشأهما مشيئة إجبار.
وبعد ما قررت الآية رأيت بعضا قدر لو شاء الله أن لا نشرك ولا نحرم مع رضاه بعدم الإشراك والتحريم، ولا حاجة لذلك، لأن ما ذكرته غنى عنه، ولا ينافى عدم إمكان تفسير المشيئة بالإباحة فى قوله تعالى:
{ { ولو شاء لهداكم أجمعين } تفسيرها هنا بالإباحة، لأن آية الأنعام هذه من كلامهم لا من كلامه تعالى، ولو قال قائل: لو شاء الله ما فعلت كذا من المعصية والطاعة، بمعنى لو قضى عليه بذلك لم يخرج عما قضى، بل ييسر لما قضى عليه باختياره لكان مدحاً لله تعالى، وحقا واجباً، ومما يرد به عليهم أن يقال لهم: إنكم تحجون وتفعلون بعض مكارم الأخلاق، وتحبون أن يمدحكم الله على ذلك ويثيبكم فى الدنيا، وتتقربون إليه بالأصنام، وتقولون تقربنا إلى الله زلفى، فإن كان ما فعلتم، من ذلك إجباراً من الله فلا مدح لكم، ولا يثيبكم فى الدنيا، كما لا يثيبكم فى الآخرة، وأنتم أنكرتموها، وإن لم يكن إجباراً منه فكيف تقولون: إن الله أجبركم على الشر ولا يجبر على الخير.
{ كَذلكَ كذَّب الَّذينَ من قَبْلهم } كما كذبوك فى قولك إن، إن الله لم يحرم هذه الأشياء التى حرموها، وقولك إنه تعالى حرم الشرك كذب المشركون قبلهم أنبياءهم ورسلهم فيما يأمرونهم به، وينهونهم عنه كالشرك، وهذا يناسب قولى عنهم: لو كنا على باطل لأزالنا عنه وهو تفسير المشيئة فى كلامهم بالإباحة، لأنه صلى الله عليه وسلم يقول لهم: لم يبح الله لكم ما تفعلونه فكذبوه، وأما ما قلت من الوجه الآخر عنهم من أنهم أرادوا أنهم مجبرون على ما فعلوه فلا يناسب ما قبله، لأنه لم يقل صلى الله عليه وسلم قبل هذه الآية: إنكم لستم مجبرون حتى يكذبونه فيه، ولو كان قد قاله لهم فى الجملة، ومع ذلك أثبت هذا الوجه الأخير، لأن ذكر العقاب لهم على أفعالهم وتسميتهم من المجرمين أو مجرمين كالتصريح بنفى الإجبار عنهم.
وكذلك يناسب قولى عنهم: لو كنا على باطل إلى آخر قوله تعالى بعد ذلك: { قد علم شهداءكم } لأنه صريح فى أنهم يقولون: إن الله هو الذى حرم ما حرمنا، وإنا على حق، لكن لا يمنع الوجه الآخر بهذه الآية لجواز أن الله يريد أن حجة الإجبار داحضة، ولم يبق إلا أنكم مختارون، وأن تقولوا إن ذلك التحريم حق من الله فأتوا بمن يشهد لكم على أنه حق منه تعالى.
{ حتَّى ذَاقُوا بَأسَنا } الذى أنزلناه عليهم لتكذيبهم، فاحذروا أن ينزل بكم مثله لتكذيبهم كما كذبوا، وقرئ يكذبوا بكسر الذال مخففة.
{ قُلْ هَلْ عنْدَكم من علمٍ } تعجيز وإنكار أن يكون لهم علم صحيح من الله، يدل على أن الشرك وتحريم البحيرة وما معها حق من الله، وعند متعلق بمحذوف خبر العلم، أو رافع لعلم على الفاعلية لاعتماده على الاستفهام { فَتُخرجُوه لنا } تظهروه، والنصب فى جواب الاستفهام إن كان لكم علم فأظهروه لنا فى صحة شرككم وتحريمكم، كما أظهرنا لكم خطأكم ببرهان نقلى وعقلى.
{ إنْ تتَّبعُون إلا الظنَّ } تحسبون أنكم على حق، وأنتم على باطل لما رأوا أمهلوا ظنوا أنهم على صواب { وإنْ أنتم إلا تخْرصُون } تكذبون أو تحذرون، واتباع الظن لا يجوز ولا سيما فى الأصول وهى التوحيد، وما يتصل به، وأما المذاهب فى الفروع فظنية بالاجتهاد.